أقلام حرة

صفقة القرن الأولى.. كفرصة

صائب خليلماذا لو وضعنا الخوف والاشمئزاز جانباً، ونظرنا الى الهجمات المتتالية على وجودنا، كـ "تمرين" لشحذ الهمم ورفع القدرة على البقاء؟

قد يبدو هذا الطرح متفائلاً ومثالياً أكثر من اللازم، لكن لو تمعنتم فيه، فربما تكون التحديات الواضحة مثل صفقة القرن، وقبلها الاستيلاء على الجولان وقبلها ضم القدس، هي بالضبط ما نحتاج اليه لإعطائنا فرصة للبقاء على قيد الحياة كشعب.

فنحن، حتى بدون هذه التحديات، مهددون بالفناء.. لا نملك المخالب اللازمة حتى من أجل فرصة ضئيلة للبقاء. وبذلك فأن شيئا ما يجب ان يحدث ليغير هذا الوضع.. شيء ما يوقظ هذا السائر طائعا الى الهاوية، حتى لو كان هذا الشيء دفعة تريد ان تستعجله السقوط، فينتبه.

ومن الطبيعي أننا قد نفشل في ذلك التحدي وذلك "التمرين"، ويكون السبب في سقوطنا في هاوية الفناء بوقت أقصر مما لو تركونا ننزف نفطنا وحياتنا كما نحن الآن، لكن على الأقل فيه احتمال أن ننجو!

ويجب ان لا نفهم أن صفقة ترمب تعني الفلسطينيين وحدهم، بل هي عملية جراحية في جسم الوطن العربي، هدفها تعديله ليتلاءم مع استئصال عضو من أعضائه، والسماح بتوسعه. وإن لم ننتبه، سنجد قريباً لكل شعب عربي، "صفقة قرن" تزيحه بعيداً ليحل لملوم الأرض محلهم، أو على الأقل لإزاحتهم من حيثما يتواجد سبب لذلك، مثل مناطق النفط أو غيره.

ومثلما علمتنا دروس السنوات الماضية، فأن المشردين الفلسطينيين لم يكونوا إلا اول "قطر" المشردين العرب، ثم "انهمر" التشريد ليشمل شعوب عربية أخرى. ولن تكون "صفقة القرن" إلا "صفقة القرن الأولى"، وسيمضي هذا القرن بصفقات وصفقات، ولن يسلم منه أحد ولا يوجد سبب لأن نتوقع توقفه... ما لم يجد من يوقفه!

لماذا نحتاج الى مثل هذا التحدي؟ ولماذا ينفعنا أن ننظر اليه كتحدي وتمرين بقاء؟

لقد اثبتت الأحداث الأخيرة لي، إبتداءاً من تحدي داعش، والرد عليه بالحشد، ثم التظاهرات وأساليب ادامتها النفسية، ان نفس الإنسان الذي يمكن ان يكون خائرا خائفا كسولا يائساً، يمكن أن يكون مبادرا شجاعاً نشطا يشع املاً، وتملأه الروح القتالية الباسلة! إنه بحاجة لشحذ هممه واقناعه بمعركته وشحنه بالثقة وتجهيزه بنواة يتجمع حولها، وسيتغير فوراً.

انظروا الى المتظاهرين. إنهم يتعرضون ليس فقط الى احتمال الموت أو الخطف، بل إلى هجمات حرق الخيم والتهديد المستمر، وكذلك البرد والملل وربما الجوع والشك بنتيجة التظاهرات وإلى متى يجب ان تبقى والكثير من المحبطات الأخرى، لكن التظاهرات صمدت، والمتظاهرون بقوا. اليسوا هم من نفس هذا الشعب اليائس المتعب المحاصر من كل جانب؟ ما الذي غيرهم؟

نفس السؤال يطرح نفسه على حقيقة الحشد، الذي أخرج من شعب مرهق وضائع ويائس، فتية نفخت فيهم روح البسالة فجأة فتحولوا عمالقة ابطالا، أنقذوا وطنهم بكل معنى الكلمة!

والحقيقة ان هذه الشجاعة وهذا الاستنفار، لا يقتصر بالضرورة على من يسعى للأهداف الخيرة. فلو استطعت اقناع إنسان بنبل هدف ما، حتى لو لم يكن الهدف نبيلا، وحفزت فيه الشجاعة والمبادرة ونظمته، فإنه يتحول الى مقاتل شرس بنفس صاحب الهدف النبيل الحقيقي، ولعل داعش أوضح الأمثلة لذلك. فقد قاتل هؤلاء بشراسة، واستعداد للموت، رغم الفكر المنحرف الذي لم يؤد سوى لتدمير شعوبهم وأوطانهم..

في كل هذه الحالات، كان هناك أولا "الاستفزاز" و "التحدي" الذي حفز هؤلاء، وهناك النواة التي وفرت لهم فرصة التجمع حولها لتكوين كتلة بحجم يكفي ليبعث فيها الثقة بخوض المعركة والنصر. وهناك كانت تكمن في التاريخ، صفحات هائلة العدد من تراث ثري بالقيم، متكامل بالقصائد والعبر من القصص والمبادئ والمثل العليا.. وهناك طبعا، الإيمان، وأبطال الإسلام.. والقيمة في المجتمع، وأخيراً وليس آخراً، تراث الشهادة!

هل الوقت مناسب لمثل هذه البسالة، وهل لديها فرصة للانتصار في معارك من نوع صفقة القرن؟

نعم! نحن في وضع جيد نسبيا، وقد تمكن البعض في المنطقة بالفعل من تحقيق توازن رعب رائع، حمى بلادهم بدرجة أو بأخرى، رغم انه لم يتم بناءه إلا ببعض التضحيات يجرب فيها المعتدي قدرة ضحيته على اصابته بالخدوش والألم. وهناك تحفيز إيجابي عام ونسبة ثقة بالنفس لا بأس بها بعد استجابات لبضعة تحديات، بشكل أفضل بكثير من السنوات السابقة، وهناك تجربة الحشد نفسها، وتجربة التظاهرات رغم الملاحظات على كلتي التجربتين، وتجربة توازن الرعب الجديدة تماما على المنطقة. ما اقصده هنا ان العراقي أو العربي عموما، لا يحتاج الى الكثير من الشغل لنقله إلى حالة البسالة، والحديث عنها لن يبدو كلاما فارغاً لا أساس له.

في الجانب المقابل يعيش العدو أضعف حالاته رغم ما يبدو عليه من انتفاخ. فقياداته تحت ضغط الفضائح والمحاكم. وفي الداخل يعاني من انقسامات شديدة تتربص به وتجعل من الصعب تحشيد الداخل لأي مشروع عدواني. ورغم ان هذا قد يجعله أكثر شراسة مثلما يكون الذئب الجريح اليائس، لكنه ايضاً ضعيف وقصير النفس كمثل الذئب الجريح. وبسبب بشاعة وتهور سلسلة اعتداءاته مؤخراً فهو أقل قدرة من أي وقت مضى لحشد تأييد دولي لأي مشروع عدواني وتحت أية ذريعة كانت.

لأجل هذا فأن صفقة القرن يمكن أن تكون الحافز على رد فعل يغير التوازنات، ويخلق حالة جديدة ووضعاً أكثر قدرة على البقاء على قيد الحياة.

إن تحدي القوي لم ولن يكون ابداً بلا مخاطرة، لكن الضحية لا تمتلك الخيارات، ولا تشترط الضمانات، وعليها ان تكون سعيدة بوجود مجرد "فرصة" للخلاص، وأظن ان العدوان والاستفزاز هو ما نحتاج اليه لتحويل ما يكفي من الشعب من حالة الخذلان الى البسالة، ولكي يرتفع كل منا فوق ما هو معتاد عليه من قدرات وشجاعة.

- إن شرفكم في الخطوة التي تندفعون فيها للتفوق على أنفسكم واجتياز حدودها. – نيتشه

 

صائب خليل

 

 

في المثقف اليوم