أقلام حرة

إصطفافٌ وإنعطافٌ!!

صادق السامرائيصفَّ القوم وصفهم وتصافوا واصطفوا.

صفّ القوم فاصطفوا أي أقامهم صفا.

صف،  وجمعها صفوف، ونقول ساووا صفوفكم في الصلاة، أو تساووا واتصلوا.

والصف هو السطر المستوي من كل شيئ، كصف الشجر والجند، ومنه الصف لطلبة في طبقة واحدة، فنقول هؤلاء في الصف الأول أو الثاني والثالث وهكذا.

والوقوف في صف واحد سلوك  يمارسه المسلم لمرات عديدة في الأسبوع أو في اليوم لتأدية الصلاة في بيوت الله.

وهو يدل على المساواة والإحترام والصبر والنظام والتقدير والدَور، ويعلمنا أن كل ما يمكن إنجازه في الحياة، لا بد أن يكون وفق نظام، لأن أساس الخلق وسنة الوجود هو النظام الدقيق المحكم، الذي تجري فيه المقادير بحسبان.

ومن العلامات الفارقة بين العالم المتقدم والمتأخر هو ظاهرة الإصطفاف، ففي العالم المتقدم تجد الإصطفاف تربية وسلوك إجتماعي مرتب، وفقا للحالة التي تستدعيه وبهدوء وإنسيابية عالية، ويُعد ضرب الصف من السلوكيات الشاذة والغير مقبولة، لأنها ترمز لعدم الإحترام والتقدير والإلتزام بالقوانين والتقاليد العامة، وقد تؤدي إلى أن يقع صاحب السلوك تحت طائلة القانون، لأن في سلوكه تطاول على حقوق الآخرين.

ولا يمكنك إلا أن تكون مهانا في عالم متقدم عندما تتجاوز على الواقفين في صف ما، وفي العالم المتقدم قد يُعرض الطفل على الطبيب، لأنه لا يمكنه الوقوف في الصف أو لا يحتمل ذلك، لأن في تصرفه إشارة لأعراض مرضية سلوكية تستدعي العلاج.

أما في العالم المتأخر فلا يمكنك أن تضع الناس في صف من غير مشاكل، وتدافع وتجاوزات وصراخ ومشاجرات وإرهاق وتنغيص وسب وشتم، وما إلى غير ذلك من السلوكيات المقيتة، وربما المميتة، لأن التدافع قد يتسبب في الموت.

ترى لماذا نتدافع ونأبى أن نصطف؟!

هذه الظاهرة جديرة بالبحث والدراسة وإيجاد الحلول اللازمة لها لكي نرتقي إلى مصاف التقدم، وتبدو وكأنها مشكلة تربوية متصلة بحالات الإضطراب المتحققة في العالم المتأخر، وعدم إثبات أن القانون والنظام  يضمن حقوق الناس، ولهذا يكون كل منهم قوة وقانون.

ويبدو أن القبول بالإصطفاف كسلوك إجتماعي وتفاعل إنساني يومي غير محبب في العالم المتأخر ومستهجن، ويُحسب نوعا من الإهانة وفقدان القيمة والجاه، وكأننا لا يجوز لنا أن نتساوى بل نتميز  ونتعالى على بعضنا البعض.

وأسباب هذا السلوك متعددة ومتداخلة ويمكن الإشارة إلى بعض منها  وهي:

أولا: عدم تعلمنا النظام

النظام سلوك حضاري نتعلمه، وكلما تطورت المجتمعات كلما شرعت القوانين والقواعد اللازمة لتنظيم حياتها،  لكي تبني مجتمعا سليما وقويا وخاليا من الإضطرابات، التي تعوق مسيرته إلى الأمام.

ولا يمكن لأي مجتمع أن يتطور ويتقدم من غير مراعاة دقيقة لأنظمة وقوانين معمول بها، وأن يكون النظام الوسيلة المثلى للتعبير عن نشاطاته اليومية.

فلكل سلوك أصول وقواعد يتم الإلتزام بها لكي تمضي الحياة بإنسيابية عالية ونجاح أكيد.

ثانيا: عدم إحترامنا لبعضنا:

هل نحن نحترم بعضنا البعض، ونقدر آراء بعضنا ونفخر ببعضنا؟

الجواب قطعا لا!!

ودليلنا ما نقرأه كل يوم في الصحف، وكيف أن الكثيرين يكتبون بأساليب غير مهذبة وغاضبة، وتنحو بإتجاه عدم الإحترام والتقدير، بل فيها الكثير من السب والشتم والعدوان المقيت على بعضنا البعض.

لماذا لا نحترم بعضنا مثلما يحصل في العالم المتقدم؟

تساؤل على كل واحد منا أن يفتش عن جواب له!!

إن ضرب الصف بأي شكل من الأشكال هو تعبير عملي عن عدم إحترامنا لبعضنا!!

ثالثا: عدم الصبر

سرعة نفاذ صبرنا ظاهرة نشترك فيها جميعا، ولا يمكننا أن ننتظر لأننا لا نشغل عقولنا بفكرة وتفكير مفيد، وذلك لقلة المفردات اللغوية التي عندنا، وعدم تعلمنا القراءة وممارستتها في مجتمعنا.

ففي العالم المتقدم تجد الفرد يحسب الإنتظار فرصة للقراءة، فينكب على كتابه الورقي أو الإليكتروني ليقتل به دقائق وساعات الإنتظار.

أما نحن  فوسيلتنا لقتل الإنتظار هو الشجار والعراك والتدافع، وما وقفت يوما في صف إلا وأمضيت الوقت أرقب الشجار والعراك والمفاجآت بسبب ضرب الصف، وما قرأتُ وأنا في طابور أو وجدت أحدا يقرأ، لن الجميع سيهزأ منه، وسيحسبه زائرا غريبا على صف مشحون بالصراعات الوحشية.

رابعا: سرعة الغضب

لدينا سرعة شديدة للغضب والتفاعل السلبي مع بعضنا، وهذا يتحقق بسبب درجة الإنفعالية العالية التي تتوطن أعماقنا، وتتمكن من نفوسنا وكل مفردات سلوكنا، فنحن نميل إلى إعمال العاطفة قبل العقل وتسخيره لصالحها وليس العكس.

 

وهذا السلوك متصل بقوة بالتفاعل ما بين العقل والواقع، ونحن في كثير من تفاعلاتنا يكون العقل معطلا، والعواطف نشطة وفعالة في تقرير مصير الموقف ونتائجه الأليمة دائما.

خامسا: الأنانية

الأنانية غريزة صراعية بقائية تفعل في البشر فعلها وتحقق آثارها، والفرق بينها في عالمين، أنها في العالم المتقدم تكون مهذبة ومحكومة بنظام فتبدو عاقلة، وفي عالم متأخر تكون منفلتة ومعبرة عن نفسها بأساليب غابية قاسية قد تؤدي إلى سفك الدماء.

سادسا : رغبة التجاوز والتطاول

في تصرفاتنا تبدو الكثير من مفردات الغاب القبلي، الذي لا يرى في الحياة إلا أن تكون صراعا وتطاولا وإعتداءا، وغزوا لتحقيق القوة الإقتصادية والمعنوية، وهذه الترسبات السلوكية نعبر عنها كأفراد، ولهذا ترانا نتحرك في الكثير من نشاطاتنا وكأننا شيخ القبيلة، ونمارس الأفعال التي تدلل على ذلك، فيحسب كل منا أنه شيخ على الآخرين من حوله، وهذه الظاهرة تمضي على جميع مستويات تفاعلاتنا المتنوعة.

سابعا: ضعف ثقافة الإصطفاف والنظام

الواضح في سلوكنا أن المسؤول أو الذي لديه صفة قيادية في الدولة والمجتمع لا يلتزم بالنظام والوقوف في الصف، لأن ذلك يُحسب نوع من الإهانة وعدم الإحترام، وإنما على الجميع أن يتنحى لكي يكون هو في المقدمة، وهذا سلوك مكرر وإعتادت عليه الأجيال، بينما في المجتمعات المتقدمة، لا بد من وقوف الإنسان مهما على شأنه في الصف والإنتظار حتى يأتي دوره.

فعندما تذهب إلى أي مكان (سوق أو عيادة أو مسرح أو ملعب)، تجد ثقافة الوقوف في الصف هي السائدة، وأي دفع أو عدم إنتظام قد تؤدي إلى عواقب قانونية.

فمن الواجب إشاعة ثقافة الإصطفاف لكي لا تغمط حقوق المواطنين ويتعرضون للأذى.

وختاما قد يكون التفكير بالأسباب خطوة أولية للوصول للعلاج المفيد، وربما يكون الحل الأمثل لهذه العلة، أن تكون جزءا مهما من مبادئ السلوك التي نتعلمه في المدرسة ونربي أجيالنا عليه،  لكي نبني مجتمعا يقدّر قيمة الدور وضرورة إحترام حقوق الآخرين ووقتهم.

وعندما تجدنا قد قبلنا بالإصطفاف كأسلوب إجتماعي حضاري في التعامل ما بين الناس، عندها يحق لنا أن نقول بأننا قد تقدمنا وتجاوزنا مراحل التأخر المؤلمة الفاعلة في كياننا المجتمعي.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم