أقلام حرة

حشاني زغيدي: أنحازُ لحبِّه فَلَا تَلُمْنِي

حشاني زغيديأَن تنحازَ بحبِّك لِلْوَطَنِ، فَأَظُنُّ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يُعْتَرَضُ، فالعواطفُ الْمَكْنُونَةُ بداخلِنا والمَشْدُودَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ كُلِّ حُبّ فِطْرِيّ يلازمنا مَا حَيِينَا، يصاحبُنا عِنْدَ كُلِّ بُزُوغ شَمْسٍ أَوْ غُرُوبِهَا، نتحسّسهُ مَعَ كُلِّ نَسَمَةٍ عَابِرَة، تهزُّ كيانَنا فتنعشهُ، حُبّ يراقفنا حَيْثُ حَلَّ الْجَسَدُ أَوْ ارْتَحَلَ .

بَل سيرافقنا عِنْد الْمَشِيب، ونَحْن نتهادَى فِي مشيتِنا، وقَدْ أَخَذَ ضَعْفُ الحَرَاكِ بجسمِنا النَّحِيل، ومَعَ ذَلِكَ الضَّعْف نَحْكِي قِصَّةَ حُبِّنَا لأبنائنا لأحفادِنا، نَرْوِي لَهُمْ حِكَايَاتٌ الْمَجْد.

نَرْوِي لَهُمْ حِكَايَاتٌ بِطُولِ جِيل فَرِيد، خَلَد ذَكَرَهُ فِي كُلِّ رَبْوَةٍ أَوْ سَهْلٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ جَبَلٍ.

نَرْوِي لَهُمْ صَمُودَ جِيلٍ لَم يَنْحَنِي سِوَى لِرَبِّه رَاكِعًا وسَاجِدًا، ومَعَ ذَلِكَ الْوِصَال الرَّبَّانِيّ نَبْتَهِل نَخْلُص الدُّعَاء لِيَحْمِي وَطَنا غَال، فَيَحْفَظ شُعْبَه وآمِنَه ويُدِيم عَزّه وَاسْتِقْرَارِه، ثُمّ نُطِيلُ السُّجُودَ ونَحْن نَدْعُو أَنْ يُقِرَّ أَعْيُنِنَا فِي الْقَرِيبِ، فَيَجْمَعَ شَمْلَنَا عَلَى الخيرِ والْإِخَاءِ، نَلْتَقِي عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي حَفِظْنَاه، نَلْتَقِي فِي صَفٍّ وَاحِدٍ، نَحْمِلُ التَّباشيرَ، نَحْمِلُ الْأَمَلَ لِكُلّ يائِس فَتَرَ حُبَّهُ فَيَعُودَ الْحُنَيْنُ كَمَا كَانَ .

الجميل أن أسجل ذلك الموقف الرائع الذي يظهر صدق المشاعر اتجاه الأوطان، في موقف سجلته السنة المطهرة حين وقف الحبيب محمدا النبي صلى الله عليه وسلم يُخاطب مكة المكرمة مودعا موطنه، الذي ألف حبه منذ الصبا، وقد الذي أُخرجوه منه بالقوة القاهرة، فما أرق تلك الكلمات وأعذب لحنها، أسوق للذين هانت في أعينهم محبة أوطانهم فباعوه .

 روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: (ما أطيبكِ من بلد وأحبَّكِ إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ) (رواه الترمذي الحديث رقم 3926 ص 880) خرجت الكلمات تحمل لهجة حزينة محملة بأرق المشاعر، مليئة تحمل الأسى والحنين والحسرة وشوق فراق المحبوب -فأي لفظ تحمله المعاني: (ما أطيبكِ من بلد! ...).

 و لَسْنَا وَحْدَنَا مِن يَتَغَنَّى بِحُبِّ الوَطَنِ، فَحَبُّه مَغْرُوسٌ، تتقاسمُه الْأَرْوَاحُ الطَّاهِرَةُ، فِي كُلِّ أَرْضٍ وفِي كُلِّ بُقْعَةٍ، حَتَّى لَوْ تَسَمَّعْنَا الصَّدَى، لسمعناه يَرْوِي رَوَائِعَ ذَلِكَ الْحُبِّ الْأَبَدِيّ، مِنْ خِلَالِ تَرَانِيم الشُّعَرَاء والْأُدَبَاء .

أَنَّ بَيَانَ الشِّعْرِ سِحْرٌ، فَالْكَلِمَات الرَّقِيقَة تهز الكِيانَ، وتأسرُ الْفُؤَادَ، وهاهي كَلِمَات الْأَدِيب الشَّاعِر خَلِيل مُطْران، تَبْعَث فِينَا الأشواقَ يَقُولُ فِي رَوَائِع حُبِّه، كَلِمَات نُورَانِيَّة دفاقةْ بالمشاعرِ والأحاسيسِ

بِلادِي لاَ يَزَالُ هَوَاك مِنِّي

كَمَا كَانَ الْهَوَى قَبْلَ الْفِطَامِ

أَقْبَل مِنْك حَيْث رَمَى الْأَعَادِي

رغاماً طاهراً دُون الرّغام

وأفدي كلّ جُلُمُود فَتِيت

وَهَى بقنابل الْقَوْم اللِّئَام

لِحًى اللّه الْمَطَامِع حَيْثُ حَلَّتْ

فَتِلْك أشدّ آفَات السَّلَام

  إن محبة الأوطان هبة فطرية وجدت مع الإنسان منذ الأزل، هبة لا ينازعها إلا جاحد، أعدمت فطرته، في هذا السياق حق لابن الرومي الشاعر العباسي (836 ـ 896م) أن يتغنى بروائع الأشعار ـ يمجد حبه لوطنه، يمجد قطعة قدسية لا تشترى ولا تباع، من أجل ذلك الحب هامت الروح عشقا وحبا، حبا دونه الأرواح والمهج .

يقول فيها: 

ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ

 وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا

 عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً

 كنعمةِ قومٍ أصبحُوا في ظلالِكا

 وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إِليهمُ

 مآربُ قضاها الشبابُ هنالكا

 إِذا ذَكَروا أوطانهم ذكَّرتهمُ

 عهودَ الصِّبا فيها فَحنُّوا لذالكا

 فقد ألفته النفسُ حتى كأنهُ

 لها جسدٌ إِن بان غودرَ هالكا

*** 

 الأستاذ حشاني زغيدي

 

في المثقف اليوم