أقلام حرة

حشاني زغيدي: فاعلية الفرد في المجتمع المتمدن

حشاني زغيديكلما حاولنا فك ّ ألغاز في الحياة، وجدنا أنفسنا أقل إدراكا لأسرارنا، ونحن نرى اليوم العالم يعيش في تسارع رهيب، تقلصت فيه المسافات، فأصبح قرية صغيرة، تفككت فيه أوصال احتكار المعرفة أو المعلومة، ومع هذا الانفتاح ظل البعض أسير أفكار بالية، لا تتجاوز أمتار حدود غرفته أو حيّه الذي يقطنه، والعالم حوله يعج حركة ويقظة وعطاء.

فهل يمكن العيش في أسْرٍ ضيق الأفق والعالم حولنا رحب؟

وهل يمكننا العيش مع ذهنيات تجاوزها الزمن بالسنين الضوئية؟

أتخيل أن العقلاء لا يرهنون أنفسهم في سراديب مغيبة، والنور حولهم يملأ الأفق.

- إن الفرق كبير بين فكر مجتمع القبيلة أو العرش أو العائلة وبين فكر مجتمع المدينة فرق شاسع، فالمجتمع الأول يبني الجماعة على حساب الفرد ولو كان متعلما أو مثقفا أو كان إطارا، فإن ذلك الفضاء لا يوفر للفئة المستنيرة المكان، فيظل الفرد يعيش التهميش، وتظل مساحة حرية الرأي مخنوقة، ويظل الفرد عاجزا أن يعبر عن نفسه، أن يعبر عن طموحاته المشروعة، فذلك الفضاء يخنق الأنفاس لا يستطيع فيه المرء أن يشم نسمات الحرية،، فيظل عاجزا أن يعبر عن طموحاته، ويكون الفرد في تلك البيئة نسخة طبق الأصل للزعيم الملهم الملفوف بعمامة القبيلة أو العرش أو العائلة المكونة من مجموعة من الأشباه المتناسقة؛ أفراد أسد على غيرهم، ضعيفة هممهم أمام بعضها البعض . 

إن المجتمع المنشود أتخيله مجتمع يبنى على الفرد القوي بما تحمله كلمة القوة من معاني، فهو فرد مثقف واع، متحصن بالأخلاق، يدرك حاجيات مجتمعه، يتفاعل مع مكونات مجتمعه، ليس نشازا، وليس عنصريا، فرد يميل للتعاون، يقبل النصح والتوجيه، يميل للتعايش، يتفاعل بإيجابية في الظروف الصعبة، يثمن الإجماع، يعبر عن نفسه بكل حرية يملك رأيه وقراره. فهو ذلك الفرد العصبة القوية مع أمثاله، وبمثل هؤلاء تتشكل الجماعة القوية المتماسكة المتجانسة، إن ذلك، هو الحلم المنشود .

إن الحلم الذي ننشده، أن تكون لنا قوى حية تصوغ المجتمع على أسس متينة قوية، قوامها الحق والعدل والقوة، مجتمع تحكمه الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية وغيرها من الفعاليات المؤثرة، يشكل هذا البنيان العاصم للدولة والأمة، وهذه النظم هي التي تحكم اليوم العالم المتقدم، وما يسمى بنظام مؤسسات المجتمع المدني.

فكم نحن بحاجة ليتغير نمط تفكيرنا السلبي، فينصب اهتمامنا نحو الفرد الصالح القوي .

و بنفس الاهتمام يكون للأسرة نصيبها من الرعاية، لأن الأسرة الرسالية المتفاعلة مع قيم الأمة وأصالتها، فالأسرة هي قوام المجتمع الصالح.

إن الأسرة في المجتمع هي التي تربي الأفراد على الفضائل، وهي التي توفر أجواء الحرية، يمارس الفرد حقه طليعي دون الإضرار بحقوق الآخرين، وفي الأسرة تنسج لأواصر الاجتماعية القوية بين أفرادها، فتنصهر تلك العلائق في كنف الأسرة فتزهر بالتعاون والتكافل. التآزر والمؤاخاة.

إن القيم الحضارية التي. تنشدها في مجتمعنا جوهرها الفكر المتمدن الذي يقوده المفكرون والمتعلمون والناشطون في حقوق الإنسان ونظافة البيئة ومساعدة المرضى وكل ما يتعلق ببناء المجتمعات ورقيها وتطورها، أما مجتمع القبيلة فانن مشكلتها تكمن في انه لايزال يقودها الأميون وأنصاف المتعلمين وأعداء الرأي المتعدد في ظل غياب تام للمتعلم والمثقف وصاحب الرأي المستنير مما يجعل مجتمع الغير متمدن يخسر قوة جماعته وتكافلها فيما يضر أكثر مما ينفعها ويجعلها دائما تعيش في الماضي ولا تسير في ركب الحضارة الذي لا يتوقف .

إن المجتمع الغير متمدن يتفاخر بالعصبية والولاء الأعمى، فتعجز تلك المجتمعات أن تحقق بتلك العصبية نصرا حضاريا تظل عاجزة أن تصنع يقظة، أو أن تبني حقا إنسانيا بسيطا، لأن الجهل المسيطر على عقول قادة ذلك الوسط يجعلهم يقدسون الألم والقيد خوفا من رؤية أشعة الحرية التي يعتقدون أنها سوف تكشف جهلهم وضعفهم أو تخوفا من زوال تلك الحقوق المكتسبة وهميا،أو تفقدهم مجد الأباء المسلوب، وهو وهم زائف. إن ما يظنونه مجدا يملكونه كونهم لايزالون قادة على بعض قطعان من ينتمون إلى سلطانهم، بهذا السلوك لا تبنى الجماعة. المتماسكة بهشاشة البنيان على حساب الفرد القوي.

 بينما ذلك التماسك المزعوم لا يعدو أن يكون سوى نسيج لعلاقات وهنة؛ كانعكاس لخوف لدى كل فرد ضعيف وليس دليلا على قوة جماعية أو حزبية تمثل مجتمعا من أفراد أسوياء وأقوياء.

و في الأخير أوجه كلامي لكل مثقف واع له بصمته في المجتمع، نريد أن تكون لنا مدرسة رائدة وملعب حي جواري ومكتبة ثرية تغذي الفكر، ودار تجمع الشباب تحضن مواهبهم ومنتزه يروح فيه الروح بعد التعب ومسبح ينعش البدن في هذا الحر الذي لا يطاق ولنا عيادات متخصصة مجهزة تتكفل بمرضانا، نعم أتمناها في حيي، في بلدتي في بلديتي في ولايتي، في ربوع وطني الحبيب. أظن أن كل فرد واع يعي ما أقول .

المثقفون مثلكم ومثلي يقتلهم احتكار الحقائق، عن نفسي لا أرضى أن أكون معول هدم يستغل، وأنا حر أملك حريتي، لا أريد رهن نفسي عند أناس تجمعهم الأنانية، يرفضك لأنك مثقف، ولو تجاوزت الحدود بعلمك وأخلاقك ومكانتك الاجتماعية .

أقول هذا وأنا على عتبات الستين لا يخفيني أحد، أصرخ بأعلى صوتي أريد حريتي، أريد الخير لأهلي ووطني وأمتي، لا أريد مناصب جوفاء لأكون زعيم قبيلة. يكفيني ويكفي أن أكون إنسانا يحب الخير لنفسه وأهله وأبناء بلدته ووطنه وأمته .

 

الأستاذ حشاني زغيدي

 

 

في المثقف اليوم