أقلام حرة

جليل كريم: عراقكم وعراقي

جليل كريمامنحوا وجدانكم لعراقكم المتلفع بأسمال بالية، والراقد تحت أسقُف خاوية. قد ناء قمره منذ أمد بعيد. وأضحى نهاره صالية جمر مُسعَّرة.

لا نفحة نسيم غيور يمرق بأزقته المنتنة، ولا لقمة سائغة ترأف بصبيته المنتحبة.

وسأمنح وجداني لعراقي الذي يهنأ بتربة خصيبة. ويتزيّن بألوان طيف أنيقة. ويتجمّل ببريق أشعة وضيئة، تمسّ سعفات خضر متهدّلة لنخيل سامق لاتهزّ  جذعه البنيّ الهزائز  ولا تأرجح شماريخه الصفر العواصف.

امنحوا سلطتكم لعراقكم العليل والمُسجّى تحت أجهزة عناية مركّزة، يعتوره الإغماء طورًا، وتكتنفه آلام الأسقام طورًا آخر. فلا هو بالميّت فينسلّ من ربقة عذابات لاهوادة فيها، ولا هو بالمعافى فيبرء من أدوائه وعلله.

وسأمنح سلطتي لعراقي وهو يمرُقُ كالنسر صوب قمّة الجبل. ويتعالى كالنورس على مسيس مياه الهور.

امنحوا مهجكم لعراقكم الذي مابرح يختبئ كالثعالب في مغاورها. قد أجاد فنّ المراوغة، وخَبِر وجه التمويه، وفَقِه المخادعة، واطّلع على مسارات المكيدة، بغية أن يعبّ المال المحرم عبّا بعد أن باع سناء عزّه بالأرذل الأوكس.

وسأمنح مهجتي لعراقي المُشعُّ كالشمس في رائعة النهار. والمتأجّج كالحب في قلب امرأة.

امنحوا عراقكم نصولًا ثاقبة قد أدمت صدوركم، ومزّقت أشلاءكم، وحطّمت أنسابكم، حين راح يلهو كلُّ منكم متبجحًا بلعلعة أسلحته، ومتفاخرًا بصولات ثاراته، ومستهترًا في فرض إرادته ودياته، وجذلان بغاراته على أهله وإخوانه وجيرانه، من غير واعز من ضمير يوخز سريرته، أو دين يردع غطرسته، أو أنظمة تضبط اضطرام دمائه، حتى لتقشعر من جُرم عريكته المتحجّرة تخوم الأرض، وتشمئزّ من جراحات مخالبه المتوحّشة آفاق السماء.

وسأمنح قلبي لعراق موشّى برونق فاق حسنه وألوانه لوحة الحصاد. *

فهو أغنية تصدح بها عصافير الأزقة طربًا على سدرة الحب المعبأة بثمار السلام.

امنحوا جَنانَكم لعراقكم الذي ماانفك غارقًا بوحل فوضى اللانظام .. اصطنعه أفعوان تسلّل إلى ربوعكم من جحور الأخ والصديق والعدو، وها هو ذا يزرق في أوردتكم سموم التنصّل، ويملأ آذانكم فحيح الفرقة.

ابن المدينة غادر مصنعه ليلتحف  أرصفة أوربا. وابن الريف يتصلّف على حقله الرؤوم، ويتعالى على جدوله الهدّار، يسكن مدنًا غارقة بالبؤس، طافحة بالشقاء، قد انطفأت أنوار أعينها منذ أمد بعيد، فباتت لياليها لحود موتى. تعبث في أبنيتها أصابع مجنون، يستلّ صبيحة كلّ يوم عود ثقاب ليحرق جانبًا منها.

وسأمنح جَناني لعراقي المتنعّم بمصنع شاده الوطنيون الأنقياء من دنس الميول والاتجاهات. كي لا تنسلّ أموالهم إلى بلاد الأجانب. وأقاموا كرنفالًا بهيجًا، كُتب على واجهته؛ كلّ منتجاتنا من صنع سواعدنا.

امنحوا ارادتكم لعراقكم وهو يساوم بابنته التي أنجبتها حقول ناظرة، وسهرت على رعاية ألق قوامها بساتين مونقة، لتقترن بعد ريعان أنوثتها، وكمال سؤددهاذ وفق عادات مبتذلة؛ ابنة العم لابن العم وإن كان أثيمًا وعتُلًا ومعتديًا وزنيمًا، من دون التفات لاختيارها أو تحكيم إرادتها.

أما ابنة المدينة التي نمت وترعرت في صفوف مدارسها، وتغذّت من رحيق أروقة مكتباتها، تظلّ حبيسة تقاليد مجحفة، وأسيرة مأثورات فاسدة.

وسأمنح إرادتي لعراقي الذي يأبى إلا أن يتّخذ عروسه متطهّرة بنمير مياه دجلة، ومتضوعة بأريج نسائم الفرات.

امنحوا عواطفكم لعراقكم بكراس قد نُحِتت من جماجم ودماء الشهداء. وثرواته قد جُمعت من عرق الكادحين لتمتصّ سحت مصادرها الموبوءة بالفساد مصارف عَمّان والخليج.

،

وسأمنح عواطفي لعراقي المتنعّم بقرص بُره وشعيره وأرزه قد امتزجت ذرّاته مع أتعاب شاب أمين. وفاح تنوره من كدّ فلّاح نشيط.

امنحوا روحكم لعراقكم وهو يصنع مسرّاته من ليال حمراء وزرقاء تنتثر فيها الأموال كوابل المطر على رؤوس الراقصات والمغنيات، وإلى المقربة بقايا رؤوس صبية تبددت إثر انفجار مهول بعثر أركان مدرستهم.

وسأمنح روحي لعراقي الذي يحيا بسلام آمن كأحضان الأم، وببياض ناصع كثلج كردستان.. وبسؤدد أخضر كصفصافة متعملقة إلى أعنان السماء.

امنحوا عقولكم وأفئدتكم لعراقكم الذي أضحى

مرتعًا للخرافة، ومأوى للتدليس، وحضيرة للزيف، ومسرحًا للبدع، ووكرا للأساطير والدجل.

وسأمنح عقلي وفؤادي لعراقي الذي آمن بحقيقة ناصعة منبعثة من نور الله، ومضى في صراط لا تشوبه المهالك، ولا تتخلّل محطاته المزالق.

عراقي خليّة نحل، دينه الحب، وقانونه الإخلاص، واعرافه الإيثار، وتقاليده العدل، وآدابه الحرية، ومبادؤه الإخاء، وآماله سلام وبناء.

عراقي مشتركاتٌ لاحصر لها على مائدة أسرة واحدة مستديرة وعامرة بألوان الأطعمة وأفانين الأشربة.

أرديتهم حديثة ومُلَمّعة.

لغاتهم متنوعة على خارطة حبلى بغد مشرق.

أحرفهم منغّمة كترنيمة أوتار الجيتار.

لهجاتهم عديدة تشدو كمعزوفة ألحان

الأ كورديون.

سأمنح عراقي باقة أزاهير جوري وقدّاح ونرجس وفل وسوسن وياسمين وآس. تحملها أنامل غضّة، ومبيضّة لعروس تمشي الهوينى في فراديس عابقة بضوع أريجها. ومزدانة ببريق ألوانها.

 

جليل كريم - العراق 

...............................

هامش

* لوحة الحصاد أو نساء يجمعن الحصاد

للفنان الفرنسي جان فرانسوا ميليه،رسمت في عام1857،هذه اللوحه أثارت جدلًا كبيرًا في فرنسا وقتها، فنقّاد الفن لم يستحسنوا فكرة أن يصور الفلاحين في هيئة من الاحترام والهيبة أو أن تصبح هذه الطبقة المجهولة والمتواضعة والمهمشة موضوعًا رئيسيًا في عمل فني.

 

في المثقف اليوم