أقلام حرة

حشاني زغيدي: الإسلام وثقافة المحبة

حشاني زغيديحسن تتبلد العواطف، وتتشوه المعاني، تصبح العواطف الفطرية فاقدة لمعانيها، من بين العواطف والمشاعر التي مسها التشويه والتحريف، عاطفة من أنبل العواطف وأرقاها، عاطفة أودعها الله في أرواحنا، عاطفة تتنفس بها الكائنات، إنها عاطفة الحب .

فأوثق عرى الإيمان الحب في الله تعالى، ومن عمق ذلك الحب  ننسج أجمل سنفونية  في الكون، فتكون محبة الله أعلى وأفضل عبادة نتقرب بها لله تعالى، وقد وجدت في ثنايا السنة النبوية الشريفة أنوارا هادية مشعة، تهدي الحيارى لبعث  تلك العاطفة في النفوس ، توجهها  لمسارها الصحيح، فالمحبة روح طيبة تسري في النفوس الطيبة الطاهرة، النفوس التي تعشق الجمال الحقيقي .

فقد اخرج الإمام البخاريّ في صحيحه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: مَن كانَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، ومَن أحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، ومَن يَكْرَهُ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ، بَعْدَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ، منه كما يَكْرَهُ أنْ يُلْقَى في النَّارِ).

إن تلك العاطفة الطاهرة لا يمكن أن تتنجس أو تتفسخ بالسلوكات المنحرفة أو السلوكات الشاذة ـ ولا يمكن لتلك العاطفة الربانية أن تحيد لغير اتجاهها الصحيح، فلا تكون محبة شهوة وغريزة، فاتجاهها أن تسكن الفؤاد فيكون المحبوب أقرب إلى قلب المحب، فيكون قطف ثمرها تحصيل الأمان والسعادة، ومن قطف ثمارها الرعاية والحماية، ومن قطف ثمارها حسن عشرة،  تولدها مشاركة الحياة، ومن قطف ثمارها استمرار المودة ولو بعد فراق الأجساد البالية، ومن قطف ثمار تلك المحبة الصادقة غص الأبصار عن العيوب والهفوات، فلا تذهبها هزات عابرة، فالحبة الصادقة عمرها طويل، تبقى في النفس ولو تبذلت الأحوال، وتغيرت المودات، لأن منتهى تلك المحبة نبل مقصدها .

لا تعجب حين يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق الناس بلك العاطفة الربانية في تناغم مع الفطرة، يبين منزلة الأحق بالمحبة، ومن هم أحق الناس أن تصرف لهم تلك المنحة، تصرف لهم نظير أفضالهم ومنزلتهم ومكانتهم المستحقة، فكان الاستحقاق ليس فيه مجاملة، لن العواطف لا يمكن تكذيبها، فحق للأم ان تنال تلك الرتبة المفضلة في تريب الاستحقاق، ثم يكون الأب الثاني في الترتيب .

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صَحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمك؟ قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه مسلم. قال النووي: "الصحابة هنا بفتح الصاد بمعنى الصُحبة، وفيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب، قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه، وشفقتها وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك".

إن الوباء الذي أصاب الناس في فطرتهم فأصبحت العشيقة حبيبة، وأصبحت العلاقات المحرمة بين الشباب اليوم مثل الشذوذ والمثلية بين الجنسين تحميها قوانين دخيلة عن الفطرة السليمة ،تسوق  الانحراف والسير في دروب الخطإ باسم ما يسمى  عيد الحب، وعاطفة الحب بريئة منهم براءة الذئب  من دم  بن يعقوب عليهما السلام، والحق أن هذه العاطفة النبيلة الطاهرة حق لها أن تصرف لأصحابها، وهم الأزواج، فالزوجة أحق  بهذه العاطفة، وهي وحدها من تستحق هذا التكريم، العجيب أن المنحرفين يحرمون الأزواج من باقات الورود، حلال في مذهبهم أن  تهدى الورود والعطور وعبرات التودد والمجاملات للخليلات بدعاوى التحرر والانفتاح .

و ينسى هؤلاء  السنة الشريفة أنها ضمنت  روائع المعاملات في هذا المجال ، وقد وجدت أن الإسلام يؤطر هذه العاطفة، فيضعها في إطارها الصحيح، يضعها  الموضع المناسب حماية للنسيج المجتمعي  وإبقاء للمودة الفطرية .

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال: “يا رسول الله في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم، فنحن نحب الموسر وهي تحب المعدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نر للمتحابين غير النكاح” (قال الألباني: الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي والطبراني وغيرهم، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، صحيح السلسلة الصحيحة، 624، صحيح ابن ماجه 1497).

إن حرمان  العواطف الفطرية بين الناس ظلم كبير، إن نشر ثقافة  عواطف المحبة بين الناس واجبة بل هي  مشروعة، فالمؤسف  أن حياة العواطف بين الناس، حل محله  الضغائن والأحقاد، حل محله  التنافر والتباعد حتى أصبح فيه  الإخوة أعداء، وتمزقت  الأواصر في الأسرة الواحدة، فمتى تعمر البيوت بالمحبة والصفاء .

في أخر مقالتي أبرق لكم بهذه المسحات الروحية الراقية لأحد رواد الأدب في عالمنا العربي، إنه عالم مرب، عاش حياته ينشر ثقافة المحبة بين الناس حتى ارتحل إنه الأستاذ المصري عباس السيسي اقتطفت لكم  من قطوف كتابه  الرائع الدعوة إلى حب، أخص أحبابي بهذه الكلمات الخمائلية الراقية في نشر ثقافة المحبة .

يقول فيها : أي أخي:

هناك ما يُبكيني ويُحزنني.. فهناك جفافٌ في قلوب بعض الإخوة وهم لا يشعرون لأنهم لم يسبق أن عاشوا في رحاب الوجد، فهم يتصرفون بلا إدراكٍ للحقائق النفسية العميقة، ومع حزني عليهم فإنني أتحملهم لأننا تعلمنا أن نعفوَ ونصفح بل أن نخفض جناح الذل من الرحمة لكل إخواننا.

أي أخي:

كثيراً ما أجد نفسي وكأن ريحاً عاتية تهب على قلبي فتحدث قلقاً فماذا أفعل؟

عندما أجد مثل هذه الحالة أذهب إلى أخٍ صالح مؤتمنٍ أجلسُ معه أفضى له بكل ما في نفسي من عذابٍ وآلامٍ ومشاعرَ وعواطف مما يجوز لي شرعاً أن أقوله، وكثيراً ما أعود وكأن شيئاً لم يكنْ، مَنْ لنا غير هذه القلوب الحانية التي تغمرنا بالحب والحنان؟ لقد طلقنا النوادي والمقاهي ومجالات العبث واللهو، وارتضينا الكينونةَ مع القلوب والأرواح والعواطف الطاهرة الزكية التي تسعنا وتفيض علينا وتعطينا وتمسح دموعنا (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) .

فلا تنسَ ولا أنسى أن هذا هو سرُّ العلاقةِ الأخوية التي لا يجوز التفريط فيه.انتهى كلام الأستاذ

فيا رب اجمع قلوبنا على المحبة الخالصة لوجهه الكريم، محبة تشرح بها قلوبنا، فتجمعنا بها في حياض العطاء والبذل إخوة متحابين.

 

الأستاذ حشاني زغيدي

 

في المثقف اليوم