أقلام حرة

زكي رضا: نائب العريف في مواجهة المشير

الصورة الاولى..

حسن سريع عسكري نحيف القامة قَدِمَت عائلته من السماوة الى  شثاثة (عين التمر)، حيث وُلِدْ. فيها فتح عينيه على فقر الفلّاحين وظلم الأقطاع وقهر السلطة، ولأنّ شثاثة (عين التمر) كانت منفى للسياسيين وجلّهم من الشيوعيين واليساريين والديموقراطيين كعامر عبد الله وأبراهيم كبّة وغيرهم من المثقفين، فأنّ المدينة الغافية بين بحيرة الرزازة وهور أبو دبس، كانت مؤهلّة لأنتشار الأفكار الماركسية فيها وقتها، وكان لهذين العاملين وغيرهما دورا كبيرا في زيادة الوعي السياسي عند هذا الشاب، الذي وجد في الحزب الشيوعي العراقي طريقا للتحرر من نير الأقطاع وحريّة وطنه وسعادة شعبه، فكان شيوعيّا جريئا وبارّا بحزبه ورفاقه وشعبه ووطنه.

الصورة الثانية ..

لجان التحقيق البعثية تجتمع على مدار الساعة، وقرارتها بالإعدامات والتعذيب حتى الموت كانت تنّفذ بسرعة قياسية. المدارس والملاعب مسالخ بشرية، قصر النهاية يفتح ابواب الرعب والموت بوجه الشيوعيين والوطنيين والديموقراطيين. الموت يحمل رشاشة البور سعيد ليحصد الأرواح في كل أرجاء العراق، بمباركة مرجع ديني وضع يده اليمنى بأيادي الحرس القومي الملطّخة بالدماء وتوضأ بالثانية بدماء الضحايا .

الصورة الثالثة..

مجموعة من الرتب العسكرية الدنيا تجتمع في كوخ صغير بمنطقة كمب سارة، يقف وسطها ذلك العسكري الشيوعي النحيف والمقدام  ليقول " نقسم بتربة هذا الوطن الغالي أن نحرره من الظالمين الطغاة"، ويستمر الأجتماع الى ما قبل تنفيذ الحركة بثلاث ساعات، وقبل أن يغادر المجتمعون المكان متوجهين الى معسكر الرشيد، يوصي ذلك الشيوعي الشهم رفاقه " لا تقتلوا احدا بل أعتقلوهم وسيقدّموا للمحاكمة". وهنا يكون هذا الثوري بعيدا عن أجواء الثورات، حيث الفوضى سيدة الموقف والأنتقام وقتل القتلة له ما يبرره. وما يثبت ذلك هو منطق حسن سريع هذا المناقض لموقف  عبد السلام عارف، الذي أصدر أوامره بأعدام ما بين 150 – 200 مشارك بالحركة من عسكريين ومدنيين بعد أستسلامهم.

الصورة الرابعة..

في فجر الثالث من تموز يتحرك نائب العريف حسن سريع ومعه مجموعة من رفاقه صوب مدرسة الهندسة الآلية الكهربائية ومركز التدريب المهني ويسيطر عليهما. توزع البنادق على رفاق حسن بعد كسر مشجب السلاح. حسن سريع يطلق طلقة تنويرية إيذانا ببدأ الأنتفاضة. المنتفضون يسيطرون على باب النظام. إحتلال مقر اللواء 15 وبعده السيطرة على كتيبة الدبابات الاولى. فشل الثوار في كسر أبواب السجن رقم واحد وتحرير عشرات الضباط والطيارين وبهذا تكون الحركة قد خطت اولى خطواتها نحو الفشل. المنتفضون  أحتلّوا قاعدة الرشيد الجوية وسيطروا على المطار والطائرات، في أنتظار الطيارين الذين لم يصلوا.

الصورة الخامسة..

أوّل من وقع بالأسر كان آمر الحرس القومي منذر الونداوي ونائبه نجاد الصافي، وخرجا سالمين لينتقما من المنتفضين شر أنتقام ويقتلونهم شرّ قتلة! منتفضون يأسرون كل من طالب شبيب وبهاء شبيب وحازم جواد، وبدلا من أعدامهم في نفس المكان، طالب حسن سريع بنقلهم الى معمل البيبسي المجاور للمعسكر وقتلهم ! البعثيون يطلقون سراح الثلاثة ويعتقلون جنود الأنتفاضة ليعدموا بعدها! عبد حرب عدو السلام يصعد دبابة يقودها احد المنتفضين، وعوضا عن قيام المنتفض بقتله وتغيير ميزان القوى، يقود دبابته بهدوء الى معسكر الرشيد وليعدم بعدها! عبد السلام عارف يفلت من الموت للمرة الثانية عند البوابة الشمالية للمعسكر حينما لم يستغل المنتفضون وهم يسيطرون على البوابة وقوف عارف والحديث اليهم من قتله.

الصورة السادسة ..

تردد الجنود والمراتب المنتفضة  في معسكرات أبو غريب والوشاش والتاجي والحبانية ومقر الفرقة الأولى في الديوانية وفصيل الشرطة في القصر الأبيض المسؤول عن الجهاز اللاسلكي والسيطرة عليه. الضربات التي وُجّهت للحزب ولشدّتها جعلت أتصال المنتفضين مع قيادة الحزب صعبة للغاية، خصوصا بعد أعتقال العبلي والحيدري وعبد الجبار وهبي، وفشل لقاء العبلي مع محمد حبيب المسؤول المدني للحركة والذي كان على اتصال بحسن سريع

الصورة السابعة ..

أعدامات بالجملة لمدنيين وعسكريين، وفشل الأنتفاضة التي كانت تنجح بقليل من الجرأة والقسوة واتخاذ القرار المناسب والسريع، وعدم وجود جسم حزبي يقود مثل هذا التحرك الثوري. كأنّ عريان السيد خلف كان حاضرا وهو يقول لحسن سريع في قصيدة عتاب نظمّها لموقف عبد الكريم قاسم من الذين حاولوا إغتياله وعفوه عنهم:

شفت اشلون عثرت.. وانجفت عالكَاع

وتعله ابسرجها.. اتراب رجليها

صَدِك مو ملامه.. وتعداك اللوم

بس جمرة عتابة اتمشكلت بيها

يا سيد العفة ويانزيه الروح

ويارمز الشجاعة.. الحّد تواليها

يملاكَي الرصاص اعيونك امورثات

زلم الغدرتك.. ما ظن زلم بيها

آه ياحسن لو كنت قد نفذت حكم الأعدام بقادة البعث وهم تحت مرمى بنادق رفاقك، آه يا حسن لو أفرغ قائد الدبابة الرصاص في رأس عبد السلام عارف، آه يا حسن، ولكنك ستبقى ورفاقك خالدين في ضمائر الطيبين من أبناء شعبنا، وأنتم تهبون حياتكم رخيصة في سبيله.

الصورة الثامنة..

الصورة الأخيرة بالأسود والأسود وإطارها سكاكين تخترق الصورة من كل الجهات، لترميه في تيار جارف يقود البلاد الى الهاوية، حيث  ليل العراق اليوم حالك السواد ونهار شعبه مظلم.

المادة من وحي ما جاء في كتاب (العراق – البيرية المسلّحة) لعلي كريم سعيد

***

زكي رضا - الدنمارك

في المثقف اليوم