أقلام حرة

بكر السباتين: إسقاطات سياسية والمعايير العلمية للغباء المتمدد

الغباء من أهم صفاته اللاعقلانية ؛ لأنه يدل على عجز صاحب الصفة عن فهم المعلومات وتوظيفها كمعطيات بشكل صحيح ومن ثم انتاج الأفكار المترابطة بالمنطق.. وهي أيضاً حالة طبيعية لا تندرج في قائمة الأمراض النفسية.

لذلك فبعض الأفراد المندرجين في سلم الذكاء قد يصبحون أغبياء في مواقف معينة عندما يحاولون الخروج عن مسار الأفكار والمعتقدات الثابتة.. فتوصف المواقف تلك بالزّلّات.. أما إذا تكررت لديهم كثيراً فينعتون حينها -إلى درجة ما- بالأغبياء.

وهذا مدخل لتفسير الكثير من المواقف السياسية المؤثرة والمنفصلة عن بعضها، بعد أن تجاوزت نتائجها السلبية كل التقديرات ومن ثم سنولي كل الاهتمام لمفهوم الغباء وكيف وجد المفكرون محددات وقواعد علمية لفهمه من منطلق كونه ظاهرة يمكن صناعتها أو حالة شخصية في إطارها الطبيعي غير المرضيّ.

فمثلاً لنبدأ بالتفاهات التي تتحكم بعقول غالبية مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي من خلال تمريرهم مواقف ساذجة وعفوية وأحياناً تكون مهينة للنفس وغير سويّة؛ بغية الحصول على انتشار مناسب في الفضاء الرقمي يساعد على تحصيل أكبر عدد ممكن من الإعجابات وبالتالي كسب مردود مادي كبير.. والسؤال هو هل التفاهة غباء؟

وفي شأن آخر، هل العلاقة المبهمة ما بين الجماهير العربية ونوابهم تندرج في ذات السياق؟ . إذْ كيف تقوم هذه الجماهير المغبونة بانتخاب نواب فاسدين يفتقرون إلى المصداقية، ولعدة مرات، رغم معرفتهم بنتائج أفعالهم الفاشلة؟

وماذا عن الحرب الأوكرانية المتخمة بالقرارات المتهورة والمقامرات غير المحسوبة من قبل جميع اطرافها.. وخاصة من يذكي نيرانها مع علمه بأنها ناشبة في ثيابه.. كدول الاتحاد الأوروبي- على سبيل المثال- التي أنهكها التضخم؟ وعليه فما هي المعايير التي تُفَسُّر فيها قرارات غير حكيمة "غبية" على نحو توريط زلينسكي لبلاده في حرب ضروس خاسرة، وكأنه يقايض دمار أوكرانيا بالحصول على عضوية الناتو التي باتت مستحيلة، في ظل ما تشهده أوكرانيا من دمار قلّ مثيله في حرب ضروس لا تبقي ولا تذر.. أليست هذه مقامرة مجنونة وغير محسوبة! فكيف تستقيم الأمور في قرار مصيري كهذا؟ أليس الغباء بعينه أن لا ينصاع المقامر الأوكراني زلينسكي، لرغبات العم السام بشبقه المفتوح على كل الموبيقات، من خلال استمرار الحرب العبثية، ورفضه الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ما أدّى ذلك إلى تضييع ثلاث فرص ثمينة يصعب تعويضها، وفق ما كشف عنه الكاتب الصحفي تيد سنايدر في مقال له بـمجلة "المحافظ الأمريكي" مؤخراً؟

أما بالنسبة للشأن الأفريقي، فكيف يتذرع الرئيس الفرنسي ماكرون بحماية الديمقراطية في أي حرب محتملة في النيجر! مع أن الديمقراطية ذاتها تتعرض للذبح في بلاده؟

وهل من الحكمة بمكان التعامل مع أفريقيا بعقلية المستعمر التقليدية القائمة على نهب الثروات واعتماد سياسة فرق تسد وفق الرؤية الميكافللية، ما أدّى بفرنسا إلى الاندحار المهين من عموم القارة السوداء، وصولاً إلى آخر معاقلها في النيجر.. وكانت لديها الفرص السانحة في الاقتداء بالتجربتين الروسية والصينية القائمتين على التشاركية العادلة ودعم التنمية حيث مثلتا البديل الاستثماري الإيجابي لإفريقيا المستنزفة؛ بدلاً من فرنسا التي مثلت الاستعمار في أسوأ حالاته؟ ألا يوصف هذا التفكير الاستعماري الموروث بالغباء الاستراتيجي؟

والأنكا هو قبول دول مجموعة غرب أفريقيا أيكواس الفقيرة جداً، بتوريط نفسها في حرب خاسرة ضد الانقلابيين في النيجر، دون الاتعاظ من الحرب الأوكرانية التي دُمِّرَ فيها وكيل الناتو وَتُرِكَ وحيداً في النفق المظلم دون أمل؟

وأخيراً سأرتحل بسؤالي إلى الشرق الوسط حيث يمارس الاحتلال الإسرائيلي سياسة الفصل العنصري ومصادرة الأراضي وقتل المواطنين الأبرياء في فلسطين المحتلة، إلى جانب ما تشهده"إسرائيل" من صراعات داخلية عرقية ودينية بين اليهود انفسهم، فبدلاً من الاستسلام للأمر الواقع، يتصرف كشبه آلهة ساعياً إلى اجتثاث المقاومة الموحدة في عموم فلسطين وجنوب لبنان من خلال توظيف السلطة في إشعال حرب أهلية في الضفة الغربية والمخيمات في لبنان، وتوظيف قائد القوات اللبنانية سمير جعجع للقيام بنفس الدور ضد حزب الله في لبنان؟

أو من خلال قصف لبنان بالطائرات حيث حذر "المعتوه" وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حزب الله من ارتكاب أي خطأ، متوعدا بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، وقد ردّ عليه نصر الله بالمثل!.. أليست العتاهة غباء؟ ألا يمثل دور السلطة الغباء في أحلك صوره؟

فكيف تتمسك -أيضاً- الدول العربية بالتطبيع المهين مع الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، من باب التحالف الأمني ضد إيران بينما هي غير قادرة على التصدي للمقاومة وتعاني من مظاهر الصراعات والتفكك؟ ثم ياتي من ينتقد التقارب السعودي الإيراني الذي من ىشأنه رأب الصدع بين الجيران درءاً للحرب التي تسعى أمريكا بتحريض إسرائيلي إلى إشعالها لتحقيق معادلة "صفر مشاكل" التي باتت هدفاً لكل الدول في العالم؟

أليس من "الغباء" الاعتراض على زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير يوم الخميس الماضي إلى الرياض! حيث أعقبت المصالحة الإيرانية السعودية سلسلة من التغييرات في المشهد الدبلوماسي في الشرق الأوسط أبرزها إعادة العلاقات بين الرياض ودمشق وطرد "إسرائيل" النسبي من المشهد الخليجي؟.

واستقراءاً لما طرحناه من أسئلة فإن المواقف اعلاه جاءت لتخالف المنطق وتنسجم أكثر مع الغباء كحالة يتم صناعتها لأسباب سنتطرق إليها من خلال البحث في طبيعة القرار المتماسك والمتهور.. ومعايير الغباء على ضوء الأمثلة الواقعية أعلاه.. والتعامل مع "الغباء" كظاهرة عامة تتعلق بالصراعات التي ما لبثت عالقة دون حلول، والبحث في كون المتسبب الأبرز في إذكاء نيرانها هو اتخاذ قرارات توصف بأنها غير حكيمة ولنقل متجردين بأنها "غبية" بكل ما تحمل هذه الصفة من أبعاد.

* علاقة الغباء بالنتائج الميدانية:

صحيح أن صاحب النسبية إلبرت أينشتاين وصف العبقرية بأنها محدودة خلافاً للغباء الذي يتسع كالكون المتمدد؛ إلا أن الحديث عن تلك الصفة الفضفاضة حينما تكون من إسقاطات "الكبار" الفكرية والسياسية على المواقف؛ فإن الحيرة في تقييم تلك الفئة المؤثرة على ضوء النتائج لا بد أن تأخذك إلى خيارين، وهما:

أولاً:- مواقف تنجم عن أفكار تجريبية مقننة، وقد تتمتع بتجاوزات منطقية تتزود في بعض معطياتها من خارج الصندوق، حيث يحتمل فيهما الفشل والنجاح.

وبما أننا نتحدث عن صفة الغباء المرتبطة بالقرارات الكارثية فإن المخرجات التي لا تحتوي مدخلاتها على معطيات بديلة للتاثير الإيجابي في النتائج، فإنها ستدرج في سياق القرارات المتسرعة.. وسوف يحاسب متخذوها بناءً على حجم الخسارة المادية والمعنوية والبشرية.. ومن الطبيعي أنها لن تدرج في سياق الفكر التجريبي أو الارتجالي الذي يعتمد على الخبرة العملية وسرعة البديهة ويمكن اعتبارها نتائج طبيعية يمكن تجاوزها لتغيير النتائج.

قس على ذلك قرار خراشوف في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 حينما استجاب لتهديدات جون كندي ساحباً الصواريخ الروسية من كوبا؛ حتى لا تنشب مواجهات غير محمودة العواقب بين القوتين النوويتين.

ناهيك عن ضبط بوتين لأعصابه - من الأمثلة الراهنة- إزاء محاولات الناتو لحشره في الزاوية دون أن يحول الحرب إلى مواجهات نووية تكتيكية وفق العقيدة العسكرية الروسية.

ثانياً: القرارات المتهورة غير المحسوبة

وتتسم هذه القرارات بالتصلب غير المجدي وعدم المرونة وربما "الغباء" حيث تزداد خطورتها قياساً إلى حجم تأثيرها السلبي على الإنسان.

وقد تتحول إلى كوارث فيما لو افتقر أصحابها إلى الخبرة العملية التقنية والقدرة على توظيف خبرات المستشارين كمعطيات فكرية؛ فتكون النتائج وخيمة، وخاصة إذا كان الأمر متعلقاً بمصائر البشر، على نحو ما يقترفه القادة السياسيون والعسكريون من قرارات مصيرية، حتى لو عززت بمنظومة استشارية من الخبراء؛ أو أحيطت بمجالس الحكماء التي يتمتع فيها صاحب القرار بصلاحيات ترجيحية، ما دام يمتلك كلّ الخيوط السلطوية التي ستمرره وصولاً إلى التنفيذ. ألا نجيز لأنفسنا دمغ أولئك المتهورين بالغباء؟

وإلا فكيف نفسر ما يدور في كواليس إدارة الأزمات في العالم على نحو تداعيات الصراع في كل من: الشرق الأوسط وشرق أوروبا وغرب أفريقيا؟

* قواعد الغباء وآراء المفكرين:

ففي القرارات التي تمس المجاميع البشرية كالحروب فإن ذلك سيقودنا لسؤال أشد خطورة:

هل الغباء أيضا تتم صناعته تماما كما هو الذكاء الاصطناعي؟

هل للبيئة والظروف دور في صناعة الغباء على صعيديه الشخصي والعام؟

وماذا عن التجارب العملية التي اجراها العلماء لفهم الغباء كحالة أو ظاهرة على نحو نموذج "القردة والمرياع"؟

كيف فسر السياسي البارع خروشوف صفة الغباء للسياسي الأبرع ستالين في سياق مذكراته؟

لقد تناول المسرحي الإغريقي أريستوفان مفهوم الغباء ليقول يائسا- كما يبدو- من معالجة الغباء من منبره الثقافي المتمثل بالمسرح:

"الشباب يشيخ، الطيش يتم تجاوزه، الجهل يمكن تعليمه، والسكير يمكن أن يصحو، لكن الغباء يستمر للأبد".

وبالعودة إلى مقولة أينشتاين في أن "الفرق بين الغباء والعبقرية هو أن العبقرية لها حدود أما الغباء فهو كالكون لا حدود له".. فربما يقصد أبو النسبية بذلك في أن ضوابط العلوم تُحَجِّمْ من خيال العباقرة، أمّا بالنسبة للغباء فلا ضوابط منطقية له؛ لذلك فإن الأخطاء التي يتسبب بها كارثية.

أما الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه فتحدث عن الغباء قائلا:

"الغباء الإنساني يكمن في الخوفِ من التغيير".

وكأنه يقول بأن بيئة الخوف تعتبر مصنعاً للغباء.

أما الفيلسوف الكولمبي الشهير نيكولاس دافيلا فقد قارب بين صفة الغباء والاستلاب الأعمى إلى المرياع قائلاً :

"الذكاء يعزل الأفراد، في حين أن الغباء يجمع الحشود".. وهو بذلك يفسر كيف تنساق المجاميع البشرية خلف المضللين.. كأنها خراف تتبع المرياع الذي يسير بمشيئة سيده.

وهناك مقولة أخرى لبرتراند راسل تربط بين الغرور الأجوف والغباء في أن: "مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائمًا، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك".

ربما لذلك تكون النتائج بالنسبة للحكماء عبارة عن أسئلة متوالدة في عالم يحتاج دائماً للاكتشاف.

ولكن ما قام به المفكر الإيطالي كارلو سيبولا فهي محاولة جادة وموفقة لفهم الغباء ضمن معايير علمية مجردة، حتى تقاس عليه المواقف لتحديد طبيعتها فيما لو كانت غبية أم موفقة حتى لو حصلت فيها أخطاء مقبولة بسبب قابليتها للتعديل؛ وذلك من خلال تحديد عاملين يجب مراعاتهما عند استكشاف الغباء في السلوك البشري:

- الفوائد والخسائر التي يسببها الفرد لنفسه.

- الفوائد والخسائر التي يسببها الفرد للآخرين.

وذلك في كتاب لسيبولا بعنوان: "القوانين الجوهرية للغباء البشري"

تضمن رسماً بيانياً يوضح الفوائد والخسائر الناجمة عن الغباء بالنسبة للفرد والمجموعة.

ويسلط سيبولا الضوء على موضوع الغباء بشكل مثير للجدل ويُنظر إلى الأشخاص الأغبياء على أنهم مجموعة أقوى بكثير من المنظمات مثل المافيا والمجمع الصناعي العسكري والتي يمكنها أن تعمل بشكل موثر وبتنسيق لا يصدق بدون وجود قائد أو أنظمة ولوائح أو بيان لتلك المجموعة.

وفي تقديري أنها تقوم على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة إذ لا توجد حكمة في ذلك لو قيمنا المقولة بناءً على النتائج الكارثية.

أما عن قوانين سيبولا الخمسة الأساسية للغباء، فهي:

- دائماً وأبداً ما يستهين الجميع بعدد الأغبياء من حولنا.

-احتمالية أن يكون الشخص المعني غبياً هو أمر منفصل تماماً عن أية سمات لشخصيته. أي قد يكون الغبي دمث الأخلاق ويحسن التصرف في المواقف الاجتماعية أحياناً.

-الشخص الغبي هو ذلك الشخص الذي يتسبب في خسائر لشخص آخر أو مجموعة من الأشخاص، في حين أنه لا يعود عليه أي فائدة من ذلك بل ربما تجعله يتكبد خسائر فادحة.

فهل هذا ينطبق ولو نسبياً على مشعلي الحروب في العالم؟ ربما!

-دائماً ما يستخف الأشخاص غير الأغبياء بالقوة المدمرة لدى الأشخاص الأغبياء، لذلك فإن ارتباط الأشخاص غير الأغبياء في كل زمان ومكان وتحت أي ظرف من الظروف، بأشخاص أغبياء مكلف جداً فهم شديدو الخطورة.

* ماذا قال خروشوف لستالين عن الغباء:

لنتساءل كيف يتعامل العقلاء مع نتائج القرارات الغبية الناجمة عن جهل أصاحبها؟

وكأننا نبحث في ذلك عن "العقلاء المئة" بغية إخراج الحجر الذي القاه "الغبي" في البئر. وفق المثل العربي الشهير.

لفهم ذلك أحيلكم إلى قصة نكيتا خروتشوف في مذكراته حيث قال بأن جوزيف ستالين اتصل به للبحث في شبهة مؤامرةٍ كانت تحاك آنذاك، تتجلى في أن معمل إطارات وطني و هو هدية من شركة فورد الأمريكية، كان ينتج الإطارات بجودةٍ عالية، لكنها بدأت تتراجع منذ ستة أشهر، فأخذت الإطارات تنفجر بعد بضعة كيلومترات.. فما كان منه إلا أن زار المصنع بنفسه ليقف على أصل المشكلة، فلفت انتباهه الحائط الذي يتضمن قوائم بأسماء أعظم الإداريين والعمال المكرمين في كل شهر، وبدأ بمراقبة خطوط الإنتاج والعُمال ، لكن كل شيءٍ بدا طبيعياً.

ثم عمد إلى تحليل المواد المستخدمة في صناعة ذلك الإطار وثبت أنها ذات جودةٍ عالية، لكن الإطار ظل ينفجر.

وبينما بدأ العجز يتسلل إلى نفسه ويئس من الأمر، رأى صورة الموظف المثالي للمصنع على مدار الستة أشهر الماضية، فقرر أن يحقّقَ معه علّه يجد رابطاً بين صعود نجمه و الإطارات المتفجرة.

فبادره بالسؤال: كيف استطعت أن تكون بطل الإنتاج لستة أشهر متتالية؟. قال : لقد استطعت أن أوفر الملايين من الروبلات للمعمل و الدولة.

فسأله: وكيف استطعت أن تفعل ذلك؟

قال : ببساطة قمت بتخفيف عدد الأسلاك المعدنية في الإطار و بالتالي استطعنا توفير مئات الأطنان من المعادن يومياً .

اتصل بالرئيس ستالين فوراً و شرح له ما حدث، و بعد دقيقة صمت قال له ستالين بالحرف الواحد في دعوة مبطنة لشنقه:

-  و الآن.. أين دفنت جثة هذا الغبي؟

فأجاب خورتشوف بحنكة المقتدر:

-  لم أعدمه يا رفيق.. بل سأرسله إلى سيبيريا؛ لأن الناس لن تفهم لماذا نعدم موظفاً مثالياً وبطلاً في الإنتاج، ليس بالضرورة أن يكون فاسداً وسارقاً ليؤذينا و يدمرنا.. يكفي أن يكون غبياً.

* نموذج "القردة والمرياع":

وفي محاولة لفهم سلوك المتصفين بالغباء من منطلق كونها صفة طبيعية مكتسبة، فقد وضع مجموعة من العلماء خمسة قرود في قفص واحد، وفي وسط القفص كان يوجد سلم، وفي أعلى السلم وضع بعض حبات الموز.

كان في كل مرّة يصعد فيها أحد القرود لأخذ الموز، حينها يَرُشُّ العلماءُ باقي القرود بالماء البارد فتشعر بالانزعاج الشديد حتى ضاقت ذرعاً بذلك.

بعد فترة بسيطة أصبح كل قرد يصعد لأخذ الموز، يقوم الباقون بمنعه وضربه حتى لا يتم رشهم بالماء البارد.

والنتيجة أنه بعد مدة من الوقت لم يجرؤ أي قرد على صعود السلم لأخذ الموز على الرغم من كل الإغراءات وذلك خوفاً من الضرب.

بعدها قرر العلماء أن يقوموا بتبديل أحد القرود الخمسة ويضعوا مكانه قرداً جديداً، فأول شيء قام به القرد الجديد هو أنه صعد السلم ليأخذ الموز؛ ولكن فور ذلك تعرض للضرب من قبل القردة الأربعة الباقية التي تعرف السبب الحقيقي الذي يكمن وراء سلوكهم ذاك؛ فَيُجْبَرُ القردُ الجديد على النزول.. ولكن بعد عدة مرات من تعرضه للضرب فهم القرد الجديد بأن عليه ألا يصعد السلم مع أنه لا يدري ما السبب.. أي بُرْمِجَ عقلُه على رهاب الخوفِ من هذا السلوك دون أن يسالَ عن الأسباب.. وهو استلابٌ عقليٌّ جليّ.

ثم قام العلماء أيضا بتبديل أحد القرود القدامى بقرد جديد، فحل به ما حل بالقرد البديل الأول، حتى أن القرد البديل الأول شارك زملاءَه بالضرب وهو لا يدري لماذا يضرب الذي بدى في نظرهم جانياً.

وتكررت العملية حتى تم تبديل جميع القرود الخمسة الأوائل بقرود جديدة. حتى صار في القفص خمسة قرود لم يُرَشُّ عليها ماءٌ باردٌ أبداً، ومع ذلك كانت القردة تبادر إلى ضرب أي قرد تسوّل له نفسه صعود السلم بدون أن تتمكن القردة بربط السلوك برش الماء الذي تعرضت له القردة السابقة فيما لم تتعرض له القردة الحاليّة.. وهذا يمثل تبعية المستلبين للمرياع الذي بدوره يفتقر إلى الإرادة.. بمعنى أنها التبعية العمياء للعادات والتقاليد الموروثة في بعض جوانبها..

الخلاصة

ولا شك بأن الخلاصة ستساعد القارئ الحصيف على اكتشاف مدى الغباء الذي يساهم في بناء مواقف من السهل هدمها على رؤوس العباد دون محاسبة، وإدراجها في خانة التجريب، بينما مردها يعود إلى صفة "الغباء".. ولعل في أسئلة المقدمة ما يؤكد على ذلك.. فيما يظل السؤال الملحّ كامناً في رؤوسنا :

هل الغباء "صناعة" بغض النظر عن النتائج؟ ومن يقف وراءها لو كانت كذلك؟.

***

بكر السباتين – كاتب اردني

21 أوغسطس 2023

في المثقف اليوم