أقلام حرة

ناجي ظاهر: صرخة (أبو علي)

هناك أناس مبدعون خاصة يسجّلون أسماءهم في صفحات الخلود ويمضون، تاركين وراءهم آثارًا طيبة لا تمحوها الأيام ولا تعاقب السنوات، آثارًا تستند إلى هموم عامة يشاركون فيها آخرين من أبناء شعوبهم. من هؤلاء يبرز رسام الكاريكاتير الفلسطيني المبدع ناجي العلي، ابن قرية الشجرة المهجّرة، الذي قضى برصاصة حمقاء أطلقها عليه موتور مأفون في لندن، في مثل هذا اليوم(29-8-2023)، قبل ستة وثلاثين عاما، فوضعت حدًّا لحياته القصيرة الغنية، ومكّنت كاتم الصوت من كتم صوته، بعد أن امضى سحابة عمره العملي في الصراخ: لا لكاتم الصوت.

لقد قيل الكثير عن ناجي العلي وسوف يقال الكثير، لأهميته في مسار المطالبة بالحق الفلسطيني بالعودة إلى البلدة والبيت، ويعرف الكثيرون ان هناك فيلمًا سينمائيًا يتحدث عن حياته ونضاله قام بأداء دوره فيه الفنان العربي المصري نور الشريف، وربّما يكفي للتدليل على أهمية العلي أن نذكّر بأن صحيفة يابانية اعتبرته، منذ سنوات بعيدة، من أوائل عشرة فناني كاريكاتير في العالم.

منذ رحيل ناجي القسري، قدّمنا العديد من المحاضرات والاحاديث الادبية، وطالما تحدثنا عن حنظلة ناجي العلي الذي ولد في العاشرة وقال عنه مبتدعه إنه لن يكبر إلا بعد عودته إلى بلدته الحبيبة السبية الشجرة، كما أن محبيه لن يروا وجهه إلا هناك، وبالفعل لم يرَ جمهوره وجهه إلا بعد نكسة 1967، بعد أن أدار وجهه مرّة واحدة ووحيدة.. لكن رافعًا أصبعه الوسطى لعالم افتقد ما افتقر إليه من أمن، امان واستقرار.

اتذكّر في هذه المناسبة المؤلمة أنني كنت في السبعينيات المتأخرة أتردّد على مقهى ومطعم الصداقة بإدارة الصديق الرائع مصطفى اسعيد، ابو نضال طابت ذكراه، من قرية رمانة، وحدث أنني دخلت الى المطعم ذات يوم فهرع نحوي شخص لا أعرفه مائة في المائة وراح يحتضنني، فاستغربت ولم أفق من استغرابي إلا عندما راح يحمد الله أنني نجوت، أنا ناجي...، من محاولة اغتيالي في لندن، وسألني مُحتضني يومها عن أحوالي فقلت له إنها على ما يرام وبرنجى.. وعال العال، وتوجّهنا إلى طاولة هناك تُطل على الشارع الرئيس في لناصرة.. وواصلنا الحديث وبيد كلّ منّا فنجان قهوة.. حتى اليوم على ما اعتقد ما زال ذلك الشخص المُحب الرائع يعتقد أنني ناجي العلي بشحمه ولحمه.. أنا راضٍ بأن يقترن اسمي باسم ناجي العلي ابن قرية الشجرة القريبة من قريتي المهجّرة سيرين، وهو راضٍ لأن ناجي العلي الذي احبه من جماع قلبه.. لم يمت.

كانت لنا في مطعم الصداقة، مجموعة من الاصدقاء، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر كلًا من المرحومين العظيمين محمد أبو حسين- أبو علي من رُمّانة، وأحمد حبيب الله- أبو هشام، من عين ماهل، طيب الله ذكراهما، كما أذكر الاخوة الاعزاء: عمر سعيد من كفر كنا، منصور طاطور من الرينة، سليمان أبو ارشيد وباسم داوود من دبورية، وليد ياسين من شفاعمرو، عفيف سالم من الناصرة- رحمه الله، إضافة إلى صاحب المكان ومديره مصطفى اسعيد،.. ليعذرني من لم اذكر اسمه من الاصدقاء والاحباء من ابناء تلك الفترة فهم كثر..، أقول كنّا نجلس في الاصباح المبكّرة، لنتصفح الصحف في مقدمتها صحيفة "الميثاق"، وكان أكثر ما يجذبنا إلى تلك الصحيفة أنها كانت تنشر على صفحتها الاخيرة كاريكاتيرًا يوميًا لحبيبنا الغائب الحاضر ناجي العلي، ضميرنا الحيّ ومُجسّد محبتَنا للبلد والولد. لقد كانت تلك من أجمل أيام العمر، فقد كانت العيون تفيض بالبِشر والامل، كلّما وقعت على الصفحة الاخيرة من صحيفة الميثاق، وما زلت أتذكّر عندما وقعت العيون على كاريكاتير يُمجّد قمر فلسطين ويقول إنه أجمل من قمر عين الحلوة، وعلى كاريكاتير آخر يُصوّر سفينة تقلّ مقاتلي فلسطين من بيروت إلى المنفى، وهناك مَن قذف نفسه منها إلى الماء رافضًا المغادرة وقائلًا: اشتقنا لك يا بيروت.

يومها قال محمد أبو علي وفي عينيه وميض حافل بالمحبّة والامل.. ما دام هناك مثل هذا الرجل في عالمنا، فإننا سنعود مهما طال الزمان.. وسوف ننعم في دافئات المُنى..

ستة وثلاثون عامًا مضت يا ناجينا مثلما يمضي لمح البصر.. ويكبر الحلم ويمتدّ النظر، ولا حق يضيع ووراءه مَن يطالب به.. على خطاك تمضي القوافل. فنم قرير العين.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم