أقلام حرة

ثامر الحاج امين: الوشاية مستنقع الضعفاء

تترفع الأنفس النزيهة عن ممارسة الوشاية كونها خلق ذميم وسلوك مشين وتشكل خطرا على السلم المجتمعي، وأخطر ما فيها انها تتسبب بكوارث اجتماعية مختلفة، فكم من أرواح ذهبت ضحية الوشاية وكم من اعراض هُتكت واواصر تقطعت بسببها حتى انها اطاحت بعروش الملوك وتسببت في اسقاط الرؤساء ولنا خير مثال في "مارك فليت" اشهر الوشاة في التاريخ السياسي الذي اسهم في اسقاط الرئيس الامريكي السابق ريتشارد نيكسون حين قدم معلومات " لصحيفة واشنطن بوست " عن تورط نيكسون في فضيحة " ووترغيت " التي تسببت في عزله وازاحته من منصبه عام 1974، والأمر اللافت والأكثر اثارة للدهشة هو مصير من يقوم بالوشاية فهو ينتهي منبوذا ولا يحظى باحترام حتى من قبل المستفيد من وشايته، فالوشاية شكل من اشكال الخيانة كما ان الوشاة يصبحون أحذية في اقدام من يعملون له فهي ما ان تتهرأ وتنتفي الحاجة اليها ينزعونها ويلقون بها الى براميل القمامة، ولشدة تأثير الوشاية على أمن المجتمع فقد نالت اهتمام الدارسين فكتبوا فيها الرسائل الجامعية كما امتلأت دواوين الشعر العربي والموروث الشعبي بحكايات الوشاة وسوء عاقبتهم على الرغم من محاولة البعض التقليل من شأنها مثل تحدي الشاعر بهاء الدين زهير في قوله:

دعوا الوشاة ما قالوا وما نقلوا

بيني وبينكم ما ليس ينفصل

والوشاية داء لم تسلم منه العديد من المجتمعات، ومن قصصها الغريبة تلك التي قرأتها في كتاب (أنا وبارونات الصحافة) وهي مذكرات الصحفي المصري المخضرم جميل عارف حيث يسرد في الصفحة 24 قصة واقعية كان بطلها صحافيا زميلا له وملخصها انه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قام شاب مصري من الفدائيين بأطلاق الرصاص على ضابط انجليزي برتبة ميجور فارداه قتيلا، وكانت كل محاولات البوليس والقلم السياسي المصري قد فشلت في الكشف عن مرتكب الحادث وقام الجنرال بيكر ــ الحكمدار الانجليزي للبوليس المصري في الاسكندرية في تلك الأيام ــ بالإعلان عن مكافأة قدرها 1000 جنيه لمن يدلي بأية معلومات تؤدي الى القبض على مرتكب الحادث وشاءت الصدفة ان يعلم الصحفي ــ زميل عارف ــ  ان ابن خالته هو مرتكب الحادث الذي يفتش عنه الحكمدار الانجليزي وقوات القلم السياسي المصري التي كانت تعمل لحساب الاستعمار الانجليزي فلم يتردد في التوجه الى حكمدارية البوليس وابلاغ الجنرال بيكر باسم ابن خالته، وتم القبض على الشاب الوطني لتجري محاكمته بسرعة وقد انتهت هذه المحاكمة بالحكم عليه بالإعدام شنقا، وعرفت والدة المخبر ــ الصحفي ــ بالجريمة البشعة التي ارتكبها ابنها فثارت في وجهه ثم طردته من البيت وهي تصب عليه لعناتها وقد عاشت وقلبها غاضب عليه وظلت الى آخر لحظة من حياتها تدعو عليه في صلوتها، وعندما ذهب المخبر الى الجنرال لتسلم مكافئته تنكر له الاخير وقال له بالحرف الواحد:

 - أنت قدمت خدمة كبيرة لصاحبة الجلالة الامبراطورية البريطانية ولكن المتهم ابن خالتك وانت بلغّت عنه وهذا شيء لا أظنه أخلاقيا .. لذلك لن تحصل على المكافأة ثم قام بطرده من مكتبه واحتقره لنذالته وخسته.

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم