تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

صادق السامرائي: أفكارنا تأكلنا!!

أمضينا أكثر من قرن ننادي بشعارات وأهداف متنوعة، وبعد تلك المسيرة المشبعة بالحروب والأحداث، وصلنا إلى ما دون خط الشروع.

فلماذا؟

البعض ما عاد يرى جدوى كلمة الأمة، والوحدة والمصير وغيرها.

لقد عصفت بفكرنا حقيقة واضحة دامغة مفادها، أننا حولنا القوانين إلى نظريات، والممكن إلى غير الممكن، فتوجهنا نحو واقع قائم وحولناه إلى نظريات نصوغ منها أهدافا وشعارات.

فالعرب أمة واحدة منذ أن وجدوا وحتى بدايات القرن العشرين، وعندما أخذوا ينظّرون ويقلبون المخروط على رأسه، بدأت تسير بقوة من الوحدة إلى التجزأة، ومن التفاعل الإيجابي الشامل بأركانه الإقتصادية والثقافية والعسكرية، الى التفاعل السلبي الشامل، فأصبحت كل دولة منعزلة عن الأخرى، والسفر بينها متعسرا، وكان أسهل، وكذلك إنسياب التبادل التجاري والثقافي، أي أنها مع الزمن إزدادت عزلة عن بعضها، بموجب نظرياتها التي تنقل الواقع إلى خيال.

فالوحدة بمعناها العملي كانت قائمة وفاعلة، فأريد لها أن تكون نظرية، ولكي تكون كذلك يجب إجتثاثها من الواقع، فنحن نريد نظرية الوحدة ولا نريد الوحدة، ونظرية الحرية لا الحرية، وتحقق لنا ما أردنا.

فلماذا اليأس والقلق على المستقبل، إننا نستطيع تحقيق ما نريد،، إننا لم نصب بخيبة أمل كما نتوهم، لأننا حققنا ما نريد، فالسياسة حققت غاياتها، والدول طموحاتها، ومضينا من الحقيقية الملموسة إلى الحلم البعيد والمفقود دائما.

فلم نؤسس لشيئ غير موجود، وما سرنا في طريق واضح وهدف مرسوم، لكي نصاب باليأس والخياب.

فلنتأمل ماذا فعلنا، أ لم تكن فلسطين حقيقة حية بأيدينا فنقلناها إلى حلم بعيد، يستدعي سفك الدماء والحروب والخسائر والتصحيات، وكان العرب أخوة متحابين ومتداخلين، وتربطهم علاقات إجتماعية وعائلية ومصالح مشتركة وتبادلهم التجاري على أحسنه، وباقي العلاقات ومنها السفر الحر بين الدول.

لقد كانت وعاشها آباؤنا وأجدادنا، وتمتعوا بحرية الحركة، وحجوا لبيت المقدس، وبعد قرن صارت أهدافنا أن يكون ما كان.

ولهذا فلا يحق لنا أن نسمي ما جرى في القرن العشرين هزيمة وخسران، لأننا حققنا مشاريعنا وطبقنا نظرياتنا.

نعم حققنا ما نريد، وما نحن عليه اليوم إرادتنا الحقيقية الفاعلة فينا، ومنذ إبتداء النصف الثاني من القرن العشرين، فأصبحت الوحدة من أبعد الأحلام، لأن الأدب الثوري أغرق الساحة بالمعاني الرومانسية للوحدة، وكأنها لا تكون إلا بنظام سياسي واحد، ورئيس دولة واحدة، والتي لا تتحقق مع واقع الوجود الإنساني في الأرض.

فدولنا المختلفة تعبر عن الوحدة عندما حكامها يتفقون في آرائهم ومواقفهم إزاء الأحداث والمستجدات ويتفاعلون بإيجابية أكثر فيما بينهم، إقتصاديا وعلميا وثقافيا.

أما الطلبات الخيالية، والأهداف الرومانسية المنثورة على الورق فغير ممكنة وفقا لمفردات الواقع، والعوامل الفاعلة فيه ضمن فترتها التأريخية، فلكل حالة زمنية شروطها وأولوياتها وقوانينها، أما إذا جرّدنا الحياة من عامل الزمن، فأن مقاييس الخطأ والصواب ستضيع.

إن أبسط ميكانيكيات الوحدة هو التفاعل الإيجابي ولا معنى لها بغير التفاعل، أما أن ننادي بغير ذلك، فسلوكنا لا وحدوي منذ البدء.

فكيف نقول اننا فشلنا في تحقيق الوحدة، وما خطونا خطوات وحدوية على الإطلاق، فما كانت تجاربنا وحدوية حقيقية وإنما خيالية ووهمية .

إن إرادة الأمم والشعوب تكون، ولا توجد إرادة مهما كان نوعها قد حملتها الأمم والشعوب وعملت من أجلها إلا وكانت أو تحققت، فلننظر إلى التأريخ بعين العقل وندرك قوانينه ولا نتصورها.

ولا أريد ان ألغي الإرادة الطامعة بالأمة ودورها.

لكننا نحمّل الغير أسباب كل شيئ ونعفي أنفسنا من كل شيئ، ولهذا نصف أنفسنا دون قصدٍ على أننا دمى ومجتمع من البشر الآلي.

لا أحد يستطيع قهر الشعوب إن لم تمكنه الشعوب من نفسها، ولا يوجد في التأريخ شعب مغلوب إلا وقد مكن غالبه منه، ووفر له الأسباب والظروف اللازمة لتحقيق إرادة الطامع فيه.

وموضوع العداء، حالة قائمة ما دامت الحياة، ولا يمكننا أن نتصور الحياة نزهة، وغيرنا يضمرون الحب لنا.

إن الحياة تفاعل ما بين الشعوب، وكل شعب لديه رغبة في إمتلاك ما لدى الشعب الآخر، وكل قوي يطمح إلى فرض سيادته وإظهار قوته وأثرها، والذي يريد أن يكون عليه أن يعرف كيف يتعامل مع كل القوى والأطراف، ويستنفر ما فيه من قدرات الحلم، والسياسة والحكمة والعقل لكي يحافظ على وجوده القوي ودوره المؤثر في الحياة.

ولنا في صيرورة الإسلام وسياسة محمد أعظم دروس والعبر، فقد ترعرع الإسلام في بيئة محبطة فيها الأعداء من كل جانب، لكن محمد بحكمته وسياسته إستطاع أن يشق طريقه وسط أعدائه ويحتويهم جميعا، وهذا دليل على أن الصيرورة ممكنة في وطن الأعداء وليس بوجودهم وحسب.

إن تفسيراتنا كانت تبريرية إسقاطية وما أقل تحليلنا العلمي الدقيق، وهذان الإتجاهان لا يزالان بؤثران، وهما آلياتيان دفاعياتان للنفس البشرية لا تعبران عن درجة عالية من النضج الفكري والعاطفي.

إن الإسقاط والتبرير من أكبر العيوب التي رافقت الفكر العربي على مدى قرن من الزمان، وتم إستخدام التأريخ والدين ليطلقا وجهات النظر، وأضيف إليها العدو المتصور والحقيقي، حتى صرنا نكتب وكأننا في بطن الحيتان، أو في أعماق المخاطر وأتون الهلاك، وفي هذا إسفاف في التضخيم ومجانبة لمفردات الوافع، وإنغماس في رؤانا التي تأخذنا إلى حيث تشاء الأهواء والتهيؤات.

وإنا جعلنا النور نارا في ديارنا!!

***

د. صادق السامرائي

12\6\1998

في المثقف اليوم