أقلام حرة

جواد غلوم: أيها المعلمون.. احفظوا قدسية رسالتكم

قبل بضعة ايام طرق بابي جاري الجنب يرجوني مساعدته وعارضا عليّ القيام بتدريس ابنه شيئا ولو يسيرا من قواعد النحو وانه لجأ اليّ راجيا مني القيام بتدريسه  وابداء المساعدة في رفع مستواه باللغة العربية وقد اضطر للجوء اليّ بسبب وضعه المالي المتردي واستنزاف جزء غير قليل من دخله الشهري لمصروفات الدروس الخصوصية الباهظة .

احسست بالحرج اولا لكنني وافقت ان اقوم بتدريسه بعض المحاضرات العسيرة الفهم  تطوّعا لاني اعرف الرجل الحريص على اولاده لا يقوى على تحمّل اجور التدريس الخصوصي مع حرصه الشديد على تطوير مهارات اولاده الدراسية واهتمامه بتفوّقهم بسبب الضائقة المالية التي يعاني منها .

وتساءلت من نفسي؛ لماذا يحدث كل هذا الارهاق على ارباب الاسر وتزيد من همومهم هموما أخر؟  بعد ان تفاقمت هذه الظاهرة المقلقة بشكل ملفت للنظر اذ اصبحت الاسر الفقيرة والمتوسطة الدخل تعاني وضعا اقتصاديا صعبا وأخذت تستنزف الكثير من ميزانية الاسرة  جرّاء الدروس الخصوصية حتى ان قسما اكبر من العوائل  أخذت تقلل من المصاريف الضرورية ومن لقمة الخبز لأجل توفير مبالغ أتعاب تلك الدروس .

كلنا نعرف مدى الانحدار في مستوى التعليم الحاصل في بلاد الرافدين الآن حيث وصلت الى مستويات معيبة بعد ان كان العراق سبّاقا معظم الدول العربية وحتى دول آسيا والشرق الاوسط في رقيّه العلمي ومستويات التعليم الاساسي والمتوسط والثانوي والجامعي وما بعده .

رحم الله سنوات دراستنا الجادة يوم كنا نكتفي بالحصص الدراسية الوافية في الفصل مع القليل من الساعات في التحضير اليومي والمذاكرة في البيت، يوم كان المعلم يمرّ على الطلبة واحدا واحدا ليتأكد بنفسه من استيعاب الدرس الجديد ويستفهمون منا عن اية صعوبة قد تصادفنا لإعادة شرحها، ولست أنسى ابدا معلمينا الاوائل العظام حقا حين كانوا يجيئون عصرا لإعطائنا دروسا إضافية وإرغامنا على حضورها بلا ايّ مقابل مادي فيما لو أحسّوا ان طلابهم لم يستوعبوا الدروس تماما .

 الان يحدث العكس حيث يعمد البعض من الاساتذة في الصفّ الى جعل المادة الدراسية غائمة ولا يعطون المحاضرات حقها الوافي في الشرح ويتعمّدون التمويه لغاية في نفس يعقوب أملا في الحصول على مزيد من حلقات الدروس الخصوصية وملء الجيوب الممتلئة أصلا، ربما كنّا نبرر هذا المسلك يوم كان المدرس يشقى ايام الفاقة والحصار وضآلة الراتب الشهري غير أننا الان لا نغفر للمدرس تصرّفه الغريب الذي يهدف الى تحريف رسالة المعلم السامية وتلويثها بالمطامع المادية وبذاءة جمع المال على حساب تطوير المهارات التربوية.

هناك اساتذة ومدرسون جعلوا بيوتهم معاهد وفصول دراسية وخصصت غرف البيت صفوفا معبأة بالرَحلات والسبورات وحتى وسائل الايضاح وغيرها ترغيبا للطلبة الضعيفي المستوى حتى يشار اليه باعتباره مدرّسا متميزا عن اقرانه المدرسين غير الحاذقين الذين لا يحسنون اللعب على الحبال ويعجزون عن الحصول على طالب واحد او ممن يأنفون من ممارسة تلك الظاهرة حفاظا على مبادئهم ورسالتهم السامية، مما يولّد فروقات طبقية واضحة حتى بين اوساط المعلمين والمدرسين انفسهم فالمدرس الذي يلهث وراء الدروس الخصوصية لا يتوانى في الأغلب الأعم من إنجاح الطالب الفاشل والكسول مادام يغدق المال وفق قاعدة " الدرس الخصوصي مقابل الدرجات العالية  " فتنقلب الموازين العقلية ويسمو الجاهل على زميله المجدّ المجتهد ويعمّ الخراب في العمليات التعليمية والتربوية حتى تصبح الدروس الخصوصية جريمة اخلاقية ظاهرة للعيان يرأسها معلمون لا يقلّون ذنبا عن بقية عتاة الجرائم الاخرى المشينة وتصير آفة تنخر المجتمع كما تقول الشعارات المعلّقة في جدران المدارس من قبل وزارة التربية .

ومع ان وزارة التربية ظاهرا تحارب هذا المسلك لكنها لا تتخذ الإجراءات الجادة والسريعة لفرض العقوبات الصارمة على منتسبيها العاملين من المعلمين والمدرسين وتكتفي باغراق المدارس والمؤسسات التعليمية بالشعارات واللافتات التي تدين تلك الظاهرة دون اجراءات عملية تقطع دابرها، ولو استثنينا مبادرتها المتواضعة في فتح قناة تلفزيونية تعليمية من قبل التلفزيون التربوي التابع لها وعرض محاضرات للطلبة لكنها لم تستطع ان تنافس ذلك السيل الجارف من كارتل المدرسين الذين امتهنوا التدريس الخصوصي تجارة رابحة افرغت جيوب الآباء والامهات اذ عجزت تماما عن ايقافها عند حدها او على الاقل التقليل منها وتضييقها.

خففوا العبء الثقيل عن كاهل ارباب الاسر المتعبين ايها المعلمون الرسُل المبجّلون ولا تدعونا  نأسف يوما ما ونقول لكم: كاد المعلم ان يكون أكولا .

***

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم