مقاربات فنية وحضارية

محمود صبري .. وفهمه للعلاقة بين الفن والعلم / حكمت مهدي جبار

انما كان متخصصا في العلوم الأجتماعية والسياسية. ولكنه كان رساما مثقفا أيما ثقافة.

ولأنه كان متمكنا من أستخدام أدواته الفنية في الرسم وسعيه لجعل فن الرسم في العراق مؤسسة ثقافية وأجتماعية لها شأن في المجتمع العراقي فقد ساهم مع رواد الرسم العراقي فائق حسن وجواد سليم وخالد القصاب ولورنا سليم وقتيبة الشيخ نوري في تأسيس جماعة الرواد في عام 1950. فضلا عن مساهمته في تأسيس جمعية التشكيليين العراقيين.

ومحمود صبري أذن من الجيل المؤسس لحركة الرسم المعاصرفي العراق في الخمسينات.وبقي رمزا ثقافيا كبيرا حتى مطلع الستينات ليغادر العراق الى موسكو ومن هناك الى براغ .وبذلك فأن الرسام محمود صبري لم يكن يشكل حضورا في العراق الا من خلال معرضه الشخصي الأول والأخير في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث أو قاعة النصر.

ومثلما هو معروف فأن محمود صبري كان (ماركسي الفكر). مما أثر بشكل كبير ومباشر على منجزه الأبداعي في (الرسم) فمال الى الطبقات الأجتماعية المسحوقة حيث اتضح ذلك في لوحاته التي اتخذت دلالات أجتماعية والتي عالج فيها موضوعاته وهو يشعر بآلام الأنسانية وأوجاعها معلنا أستنكاره ورفضه لقمع الحريات .

 1-mahmodsabry

محمود صبري وفيزيائية عناصر اللوحة عبر نظرية (واقعية الكم):

ترى ما الذي أراده الرسام الراحل من وضع نظريته في (الكم) في عالم فن الرسم؟علما ان النظرية  تأسست على قواعد معرفية وعلمية وبالتحديد الفيزيائية فيما يتعلق بالطاقة واللون والكتلة والسرعة والزمن.

وما علاقة مفهوم الكم بفن الرسم كما رآه؟ فـ (الكم) كمفهوم فلسفي هو صفة للشيء زمانيا ومكانيا لايتكشف الا بعلاقاته بأشياء أخرى.من حيث الحجم والمساحة والزمن مع الأخذ بنظر الأعتبار وتائر تطور الأشياء.وتتم عملية الكشف عن صفات الأشياء من خلال القياس.كميته، معياره،قياسا لغيره.وبمعنى آخر فأن (الكم) يبدو هو (صورة المقدار) الذي يختلف عن مقدار الشيء الآخر.ويتبدل (الكم) في الواقع الموضوعي ويتغير لجميع الأشياء.ومن خلاله تتعين صورة الأشياء المتبدلة .(تحولت كمية الشيء كأن يزداد لونها ويكبر أويصغر حجمها  فتتغير صورتها).أما نظرية (واقعية الكم) التي أراد توظيفهاالرسام (محمود صبري) على السطح التصويري للوحة الفنية كمفهوم (بصري)والتي قامت على نفس مبدأ الفيزياء في (الكم) فقد أراد منها أن يقول أن فن الرسم (اللوحة التشكيلية) هي الأخرى الى جانب علم الفيزياء تقول لنا: بأن العالم ليس كيانا جامدا وموجودات ساكنة بل هو في حالة صيرورة دائمة يتغير (كميا) بألوانه وخطوطه وأشكاله وفق حركة الأشياء الفيزيائية من حيث الكتلة والطاقة داخل تلك الأشياء (المواد).

أن قراءة (نظرية واقعية الكم) تتطلب ملاحقة ومتابعة لأركان العلم الفيزيائي .وتثير التساؤلات فيما كان يريد الرسام الراحل من تعمق فكري بصري فيزيائي في الواقع الموضوعي وتجسيده تشكيليا على السطح التصويري للوحة.وتلك حاولة منه لتجاوز (الأدراك الحسي) للأنسان نحو (الحدس) وولوج مناطق ما خلف الصورة اعتمادا على التجربة العلمية.

أننا ومن خلا ل أطلاعنا على بعض من نظرية الرسام الراحل نجد انه يعتقد بأن خيال ألأنسان أكبر بكثير من القياسات والصفات والحجوم والمقادير والمسافات.وأن الرسام يتطور دائما بقيمه الجمالية البصرية الى جانب ادراكاته العلمية وخاصة ما يتعلق بالعلاقات الفيزيائية في الواقع.

ثم انه بعد هذا يدعوا الى أيجاد وظيفة لـ (ألفن التشكيلي) بشكل عام و(الرسم) بشكل خاص تعين الفرد في فهم العالم بصريا وجماليا على أساس الحقائق العلمية.وأن الرسام عندما ينفذ لوحة تشكيلية ويتعامل مع مواد مثل: اللون والشكل والخط والأتجاه والحجم والنسيج والقيمة والملمس انما هو يكتشف تلك المواد كـ(نظام عمليات) كما يعرفه هو.مستعينا بمعادلة أينشتاين الفيزيائية الشهيرة (الطاقة= الكتلةxمربع سرعة الضوء) حيث يعتبر هذه المعادلة ألغاء للشكل المرئي المنظور بالعين المجردة أي الغاء (الصورة) لتحل محلها (طاقة) تتألف من الوان وأطياف وخطوط  أي أستخلاص جوهر الصورة نحو (ذراتها).

فالماء المرسو م في اللوحة وفق هذه النظرية ليس شكلا سائلا نراه بواسطة العضو الحسي البصري (العين) انما هو حالة تفاعل جزءين من الهيدروجين وجزء من الأوكسجين ..لقد سعى الرسام الراحل محمود صبري ومن خلال نظريته (واقعية الكم) الى أستبدال (الصورة) بعمليات رياضية ليجعل من الفن علما لأدراك الواقع وفهمه بأستخدام عناصر العمل الفني وأدواته.

ففن الرسم وحسب ما جاءت به النظرية هو ليس شكلا فنيا حسيا شعوريا فحسب انما هو شكلا (معرفيا) وفق ممارسات (جمالية) تسعى لكشف الواقع .وبذلك فهو يلغي كون الفن تجربة ذاتية ويعتبره تجربة تعبيرية فنية جمالية قائمة على المعرفة الموضوعية .

لقد مات الرسام العراقي الكبير محمود صبري. تاركا لنا نظريته التي أثارت أهتماما ملفتا للنظر في حركة الرسم العراقي بل التشكيل برمته.منهم من كان مؤيدا لها كونها تجربة تشكيلية جديدة لم يطرقها رسام عراقي من قبل.ومنهم من أختلف معها كونها تجربة فنية مشروطة بقواعد علمية فيزيائية لاتتحمل الخطأ.

فهل ستموت معه نظريته كونها كما أعتبرها البعض لايمكن ان تحل محل العلم .لأن الفن هو (نشاط حسي خلاق يؤدي الى ابداع صور تعكس الواقع وتجسد نظرة ألأنسان الجمالية اليه يغض النظر عن أسباب مقوماته الفيزيائية) أما العلم فهو (ذلك الذي يهدف الى دراسة الأشياء والعمليات في الطبيعة والمجتمع والفكر). أم سيعود اليها النقاد والفنانون والباحثون لأعادة دراسة ما جاء بها من افكار لخدمة حركة التشكيل العراقي؟.

 

.....................

مراجع

1- الرسم العراقي اليوم .. سهيل سامي نادر- مجلة آفاق عربية –العدد الأول1975

2- المعجم الفلسفي المختصر –دار التقدم – موسكو.

3- الفن التشكيلي المعاصر في العراق – مرحلة السينات – عاد كامل – 1986

4- واقعية الكم في اللامرئيات – بديعة أمين – مجلة آفاق عربية – آذار 1977

5- مقالة في الموقع الألكتروني iraqiArt  بعنوان (نظرية واقعية الكم للفنان العراقي محمود صبري.بقلم – سعد القصاب – 24- نيسان - 2010

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم الفنان التشكيلي الراحل محمود صبري اعتبارا من 20 / 4 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم