مقاربات فنية وحضارية

التقيت بمحمود صبري* / وليد ستي

شرقي لندن طلبت منه كتابة ملاحظة في دفتري الخاص. لاحظت اني فاجاته وان طلبي ربما لم يكن في محله، شعرت بالاحراج وبعض من الندم في وضع ضيفي الخاص في هذا الموقف المحرج، ولكن بعد لحظة تردد، امسك بالقلم وكتب بسرعة خاطفة ثلاث كلمات، لا اكثر " من بحث وجد" تذكيرا بالقول المأثور "من جد وجد" . لخصت العبارة المقتضبة اساس مبدأه الشخصي في البحث والكشف والتطبيق والممارسة الفنية. نهج يتصف به عمله الفني كاملا، ويمثل طريقا محفزا للاخرين ممن خطوا سبيل الفن والمعرفة ان يسلكوه.

 

منذ سبعينات القرن الماضي خرج مجموعة من الفنانين التشكيليين من جيلي وغيرهم امثال : علي عساف، فيصل لعيبي،عباس الكاظم، قه ره ني جميل، سعيد فرحان، قتيبة الجنابي، ساطع هاشم وكثيرين غيرهم ممن لعبت الصدفة اوالرغبة في التعرف على محمود صبري والاطلاع على تجربته الفنية خرجوا بانطباعات عميقة الاثرخلال لقاءاتهم به. هذه ألانطباعات والتأثيرات لم تكن بالضرورة  تمتد لتجد طريقها الى اساليب او مشاريع هولاء الفنانين ولكنها وجدت بالتأكيد وبدرجات مختلفة، صدى في طريقة التفكيرالفنية لديهم أو على الاقل رسمت عندهم صورة مثيرة عنه كأنسان وكفنان.  

 

بالنسبة لي، كان اضطلاعي على تجارب الفنان محمود صبري في البداية يقع ضمن حدود تجربتي كمبتديء في الفن، وذلك من خلال لوحاته الفنية المثيرة المعروضة ضمن المجموعة الدائمة في المتحف الوطني للفن الحديث في بغداد. ثم وانا طالب في العام الثاني في معهد الفنون الجميلة تعرفت بصورة اوسع على اعماله وعلى مشروعه الفني الجديد في معرضه ومحاضرته الخاصة في قاعة كولبنكيان في بغداد عن "واقعية الكم" والتي اثارت ولاتزال جدلا في الاوساط الفنية والثقافية.

 

في نهاية السبعينات وبينما كنت ادرس الفن في اكاديمية الفنون الجميلة في لوبليانا- سلوفينيا لعبت الصدفة دورها بأن التقي بالفنان محمود صبري شخصيا واتعرف عليه وعلى افكاره الفنية الاخاذة من قرب، وكانت اقامتي كطالب فن في بلد اخر ذي بيئة ثقافية وتعليمية جديدة تجاوزت العديد من الدوغما الفكرية والفنية في النظر الى الاشياء والظواهر، وفرت لي الشروط  الاساسية التي سهلت بصورة اوسع استيعاب وفهم التجارب الفنية  والفكرية غير المألوفة لي سابقا، وكذالك وفرت لي رغبة وفضولا في الدخول في مغامرات المعرفة والتجريب دون احكام مسبقة.

 

 التقيت بمحمود صبري في هذه الفترة الحساسة من حياتي القلقة والمتحولة ضمن تجربتي البسيطة في الفن مع صدى الوضع السياسي المعقد في العراق وحروبه وكوارثه. طالب فن مقيم في يوغسلافيا، منفي ومعارض للحكم في العراق . مرحلة التغييرات السياسية العامة في منطقتنا والعالم تركت اثارها علينا. جعلتنا قلقين محتارين، نتشكك ونتنقد كل شئ بما في ذلك الفن الذي كنا نزاوله.  ذوات مشتتة، تكافح على عدة جبهات، لكن جبهة الفن كانت الاكثر الحاحا وحساسية وتعقيدا. فسبب وجودي الاول بعيدا هو دراسة الفن. الكثير من الاسئلة الملحة التي كانت تدور في مخيلتنا عن الفن ودوره وكيفية مزاولته، تتطلب دليلا واجوبة مناسبة و معقولة.

 839-sa

 بالنسبة  لامثالي الباحثين عن فن خارج اطار التقليد والفن الحرفي، الفلكلوري والمحلي،  عن فن له مغزى ووظيفة خارج التعاريف السياسية المتداولة، فن له استقلاليته وفضاوْه الخاص. جاء اللقاء في هذه الفترة الحرجة عام 1979بالفنان محمود صبري، الحافل بالعطاء وفيض الخيال واالفكر والمعرفة الفنية ذات الافق الرحب والمفتوح، مثل الذي وجد دليله. يسهب في الحديث عن الفن بشكل مشوق، دقيق ومتسلسل ومن منظور تاريخي وعلمي. سوف لا يتطلب الامر وقتا طويلا لتدرك ان محمود صبري الانسان- الفنان، مثقف من طينة اخرى، خارج المألوف. ينضح بالفكر الخلاق. كما ستدرك انه بالرغم من ان محمود صبري مشغول وغارق كليا وبشكل جدي بمشروعه الفني فانه يتصف بالسخاء والقدرة الشخصية على احتضان والاهتمام باي جهد اوبحث فني جدي للاشخاص الاخرين ايا كان حقل تجاربهم وممارساتهم . يشجع ويحفز ويهمه ما يشغل مخيلة الفنانين البصريين الاخرين ويتابع تطورعملهم. كما أن كل من التقى وتعرف على الفنان محمود صبري يلاحظ بسرعة درجة التفاني واالوفاء اللامتناهية لتجربته ومشروعه الفني التي لا بد وأن تولد احساسا لا اراديا من مشاعرالاعتزاز والتقدير له ولطبيعة وفرادة تجربته الفنية المثيرة.

 وهذا مصدرالهام للكثيرين منا.

 

 كانت لمحمود صبري الكثير من الخيارات، اخذين بنظر الاعتبار خبره ومعارفه، المهنية، العلمية والفنية المتعددة، لكن يبدوا انه لم يشكَ يوما، بعد أن انشغل بالفن، اين يكمن وجوده. في نهاية الخمسينات من القرن الماضي بعد فترة قصيرة نسبيا من انشغاله بالعمل ضمن اسلوب واقعي تعبيري ابدع فيه ايضا، رأى الفنان محمود صبري أن ذلك لا يجسد فهمه للعالم كاملا. ان التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة  وصلت بالفن الى موقع غير مألوف سابقا،  وضعته امام تحديات ومجابهات جديدة، تتلخص في الاساس في الشك في امكانية استمرار الفن  في دوره كعنصر فعال على الطريقة السابقة في عملية فهم وتصويرالواقع العصري المتداخل والمتشابك.

 

كرس اكثر من خمس عقود من حياته ولايزال في الدراسة والبحث، من خلال مراجعة موضوعية نقدية شاملة لتاريخ الفن ولتجربته الفنية الخاصة يبحث عن اجوبة وحلول مقنعة في  تطوير مفهومه ورؤياه الفنية التي تتجسد في مشروعه الفني "واقعية الكم". فن العمليات، فن يبحث عن فهم جديد للطبيعة من خلال جوهرالمادة كعنصر مكون لها. يعكس العلاقات الحيوية لكامل وجودنا ضمن نظام مترابط في الجوهر  مبني على اساس المعطيات العلمية للذرة في القرن العشرين.

 

أن هم الفنان محمود صبري دائما هو ايجاد معنى للفن ذي علاقة بالعصرالذي نعيشه وعلى كل المستويات. فن خلاق ذو دور يساعدنا على تكوين صورة جديدة لعالمنا المعاصر. أنه يعتقد ان العلم غير قادر على رسم تلك الصورة لوحده. كما ان الفن بدوره لم يعد قادرا أيضا. لذا يرى ان الفعل المشترك للفنان والعالِم وذوي الاختصصات سوية يمكن ان يوفق في تمثيل الواقع. من هنا يأتي بحثه المضني في مشروعه الفني كفنان و"كعالم" لايجاد الحلول المرضية في منهج فني مبتكر يعمل كاداة لفهم وتصويرعالمنا مبني على الادوات والمعطيات المعرفية المختلفة التي توفرها لنا العلوم المختلفة الاجتماعية والفلسفية والتكنولوجية.

 

في عيده ميلاده الثمانين عدا امنياتي الطيبة ومشاعرالاعتزازوالتقدير العالية،اعتقد ان سيرة محمود صبري الشخصية كفنان غيرمقيد، منقب وباحث عن حلول بصرية جذرية للواقع من دون مساومة حيث لاعامل الوقت ولا الطاقة عائق امام تلك الغاية، تقول الكثير في عصر فن يسوده الكثير من الزيف والتصنع. محمود صبري  اذا اجاز لي ان اقول، مثل ذلك الكوكب المفعم بالحياة والطاقة والحركة والاصالة، العيب اننا غير قادرين على كشف مكنوناته سواء  أكان السبب ظروفنا، أم محدودية قدرتنا على الاستيعاب والكشف أم كسلنا في المحاولة، أم تعودنا على السهل، الحاضر والمعلب من الافكار والرؤيا. أم كلها مجتمعة.

 

وليد ستي -  لندن2008

 

................

 

*كتبت هذا قبل اعوام بمناسبة ميلاده الثمانين وهو افترقنا الان ولكن لم ارغب في تغيير شئ تكريما له ولارثه الفني الذي لم يفترقنا.

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2134 الاثنين  28 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم