مقاربات فنية وحضارية

حول (واقعية الكم) Quantum Realism لمحمود صبري

adnan aldhahirحين كنت أقوم بتدريس طلبة السنة الرابعة (كيمياء) في كلية العلوم مادة Quantum Chemistry، كلفني ربيع عام 1973 قسم الكيمياء أن أقابل الفنان العراقي محمود صبري الذي كان وما زال مقيما في العاصمة الجيكية براغ وأن أقوم بتقويم نظريته الجديدة في الرسم التي أطلق عليها إسم (واقعية الكم). تم بيننا اللقاء الأول في مطبعة وأوفست رمزي فتبادلنا أطراف الحديث حول نظريته مطولا. ثم زودني الرجل بالكثير من تفصيلات نظريته وكان قد أعد كتيبا عنها باللغة العربية وآخر بالإنجليزية مزودين بلوحات ملونة جميلة. وعدته أن أكتب دراسة عن الموضوع وأن أقرأ هذه الدراسة أثناء تقديمي له في الأمسية الخاصة التي نظمها له إتحاد الفنانين العراقيين في مقره في المنصور مقابل منتزه الزوراء في بغداد. قلت له سأكون شديدا في نقدي وسأقول ما لك وما عليك. ردَّ الرجل بكل أدب وتواضع وثقة (قلْ ما شئت).

قرأت دراستي في مساء اليوم المحدد على حدائق مقر الإتحاد وقدّمت الفنان أمام حشد كبير من الفنانين وأساتذة معهد وأكاديمية الفنون الجميلة وكان المرحوم الروائي جبرا إبراهيم جبرا جالسا في الصف الأول. كما كان حاضرا زميلي في قسم الكيمياء الدكتور غازي عبد الوهاب درويش (نسيب الفنان حافظ الدروبي). تكلم الفنان محمود صبري بعدي شارحا أسس نظريته الجديدة في الرسم وعارضاً سلايدات لبعض رسوماته. كانت مناسبة قلّما شهد عالم الفن مثيلا لها في بغداد. الغريب أن السيد فائز الزبيدي اعتذر عن نشر دراستي التقويمية لهذه النظرية في مجلة (الثقافة الجديدة). كنت شديد الدفاع عنها، رغم ما فيها من ثغرات علمية، نظراً لطرافتها ولكونها طريقا جديدا في الرسم غير مسبوق. ثم تشجيعاً لفنان عراقي مغترب ليس له في العراق مثيل. وردّاً على موقف مسؤول القسم الأدبي والفني في مجلة (الثقافة الجديدة) سعيت إلى ترتيب لقاء آخر للفنان في مقر المركز الثقافي السوفياتي الواقع على شارع أبي نؤاس في بغداد والمطل على نهر دجلة. كان تجاوب المسؤول السوفياتي عن المركز مع إقتراحي وديا وحاراً فسارع إلى الإعلان عن محاضرة يلقيها الفنان محمود صبري مساء يوم حدده في الإعلان الذي نشرته بعض الصحف الصادرة في بغداد بل، وتم طبع وتوزيع رقاع للدعوة غاية في جودة الطباعة والإخراج. حصل اللقاء الذي لم يحضره - خلافا لتوقعاتي - جمهور كبير. كما أصر أحد موظفي المركز السوفياتي من العراقيين (مهدي العبيدي) أن يقوم هو لا أنا بتقديم الفنان لمن حضر تلك الأمسية !! وهكذا كان.

أما المفاجأة الأخرى فهي اللقاء مع شفيق الكمالي الذي كان يومذاك وزيرا للثقافة والإعلام. فلقد دعاني محمود صبري (أبو ياسمين) إلى لقاء على عشاء ضم الوزير الكمالي والكاتب محمد كامل عارف. تم اللقاء مساءً في حديقة نادٍ أو مطعم - الذاكرة تخون أحياناً - وكان موضوعه الرئيس محاولة إقناع الوزير بتأسيس مركز فني للدراسات النظرية والتطبيقية يكون الفنان محمود صبري مديره والمسؤول عنه مع إستعداده لمغادرة مقر إقامته في براغ والعودة إلى بغداد. لا أتذكر جيدا مواقف الكمالي من هذا المشروع لكني أعرف جيدا إنه لم يُكتبْ له النجاح ولم يرَ النور... ربما بسبب إعفاء الكمالي من وزارة الثقافة والإعلام العراقية.

إلتقيت بعد ذلك الفنان محمود صبري ثلاث مرات في مدينة براغ عاصمة جيكوسلوفاكيا حينئذ. كانت المرة الأولى في صيف عام 1977 أثناء سياحة قمت بها بسيارتي مع زوجتي وولدي أمثل (سبع سنوات) وطفلتي قرطبة (خمس سنوات) في بعض البلدان الأوربية زرنا خلالها هنغاريا والنمسا وجيكوسلوفاكيا ثم بولندا وبلغاريا مرورا بتركيا ويوغوسلافيا. إستغرقت هذه السياحة شهرين كاملين قطعت فيها أربعة عشر ألف كيلومترا من المسافات والطرق .

وتم اللقاء الثاني صيف 1979 حيث زرت وعائلتي عدة مدن أوربية كانت براغ إحداها قادمين من طرابلس في ليبيا حيث مارست بعد أن تركت العراق في تموز 1978 التدريس أستاذاً للكيمياء في جامعة الفاتح في مدينة طرابلس. في هذه الزيارة خرجنا ذات مساء معاً إلى محل صيفي كبير جداً فشربنا القليل من البيرة. لاحظت هناك حشدا كبيرا من الطلبة العراقيين يشربون البيرة الجيكية الشهيرة تحت الأشجار الباسقة ويصدحون بالأغاني محتفلين بذكرى ثورة الرابع عشر من تموز 1958.

أما اللقاء الثالث والأخير فقد تم في بيت الفنان في براغ صيف 1981 على هامش سياحة أوربية أخرى شملت سويسرا وجيكوسلوفاكيا قمت بها وعائلتي طائرين من طرابلس في ليبيا حيث كنت ما زلت أمارس التدريس في جامعة الفاتح بعقد يُجدّدُ سنويا في نهاية كل عام دراسي .

ناقشنا خلال هذه الزيارات بإسهاب الجوانب المختلفة لنظرية (واقعية الكم) وأدهشتني ثقة الفنان بنفسه ووجهات نظره الجديدة تماما، لكني أحسست خلال اللقاءات الأخيرة أن هناك ظلا خفيفاً من الإحباط يُخفيه الفنان بتصميم شديد الكبرياء ناجم - كما أحسب - عن البطء في سرعة إنتشار وذيوع نظريته وعدم تشجيعها أوتبنيها من قبل حكومةالعراق وفنانيه فضلا عن الفنانين الأجانب والدول الأجنبية ومؤسساتها الفنية من معاهد وأكاديميات.

لقد فرض الرجل على نفسه نوعا من عزلة الزهد والتنسك التي تذكرني برجال أمثال المسيح والخليل بن أحمد الفراهيدي والفارابي ورهبان الكنائس وصومعات التعبد. لقد لفتت نظري قناعة الرجل بما لديه وبساطة نمط حياته ونحول قامته ووسامة وجهه ذي العينين الزرقاوين بلون السماء وشعر رأسه الرمادي، ثم تواضعه الجم وخلقه الإنساني الرفيع .

 

كيف يرسم محمود صبري لوحاته حسب نظرية واقعية الكم؟

- للإجابة عن هذا السؤال لا بد من شرح بعض الأمور الأساسية حول الأطياف وطبيعتها والفرق بين أطياف ذرة الهايدروجين وأطياف المركبات الكيميائية.

الأطياف نوعان: أطياف إمتصاص Absorption Spectra وأطياف إنبعاث Emission Spectra . طيف الامتصاص ينجم عن إنتقال ألكترون من مستوى محدد للطاقة إلى مستوى أعلى منه. فإذا ما عاد الألكترون إلى مستواه الأدنى الذي قفز منه يتحرر قدر محدد من الطاقة مساوٍ للفرق بين مستويي الطاقة، أو بالضبط القدر الذي إمتصه في صعوده إلى المستوى الأعلى.

وهذا ما يسمى عادة بطيف الإنبعاث. وطيف الإنبعاث هو أشعة ذات طول موجي محدد قد تكون مرئية أي ملونة وقد لا تكون مرئية مثل الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء. فجوهر الظاهرة ما هو إلاّ إنتقالات ألكترونية تحدث تحت تأثير حاثٍّ خارجي كتعرض الذرة أو المركب الكيميائي للضوء أو قصف الذرة بقذائف من الألكترونات السريعة أو بالشرارة الكهربائية أو تحت تاثير الحرارة العالية. فالطيف المرئي لذرة الهايدروجين - وهي أبسط الذرات ولها ألكترون واحد فقط - إنما يُحتثُّ بالشرر الكهربائي في أنابيب زجاجية خاصة محكمة الغلق تحت ضغط واطيء شديد الإختزال. فالعملية مصطنعة أساسا تجري تحت شروط خاصة يستجيب لها ألكترون ذرة الهايدروجين، والهايدروجين غاز كما هو معلوم.

أما المركبات الملونة فهي في الأغلب مركبات سائلة أو صلبة. وهي ملونة أساسا دونما إصطناع. فضوء النهار (الفوتونات الشمسية) يكفي لتحفيز الألكترونات كيما تقوم بالإنتقالات المحسوبة إمتصاصاً ثم إنبعاثاً الأمر الذي يؤدي إلى إنطلاق أشعة كهرو - مغناطيسية بشكل موجات تتحسس شبكية عين الإنسان أطوالها الموجية، إي تراها كألوان .

إنتقالات ألكترونات المركبات الكيميائية أيسر من إنتقالات ألكترون الهايدروجين بكثير، وذلك لقرب مدار دوران هذا الألكترون حول بروتون نواة الذرة الوحيد. أي إنه واقع تحت تأثير قوة جذب عالية جدا، الأمر الذي يعرقل حرية حركته خارج حقل جذب النواة. لذلك فالمركبات ملوّنةٌ نهاراً بشكل طبيعي. غاز الهايدروجين لا لون له في الظروف الإعتيادية أما بللورات ملح الطعام على سبيل المثال فإنها بيضاء اللون لأنها تعكس لا تمتص النور الساقط عليها. الماء والكحول تمتص موجات الطيف الشمسي الكهرو - مغناطيسية غير المرئية.

المركبات الكيميائية ليست مجرد جمع حسابي لمجموعة من الذرات. فالهايدروجين يفقد خصائصه الأصيلة بما فيها أطياف الإنبعاث حال إتحاده بالأوكسجين لتكوين جزيء من الماء. الماء المتكون من هذا الإتحاد عالم آخر ليس له طيف ملون وإنه مركب سائل إعتياديا بينما الهايدروجين غاز. لذلك يقع الفنان محمود صبري في خطأ فادح إذ يعرض أطياف الإنبعاث لذرتي هايدروجين وذرة أوكسجين معاً في لوحة واحدة ملونة على أنها تمثل جزيئة ماء. لو صحَّ هذا المنطق والنهج لصحّتْ المعادلة

الأب + الأم = الأبن المولود

نعم، في الوليد الجديد بعض خصائص الأب وبعض خصائص الأم الجينية لكنه قطعا لا يمثلهما تمام التمثيل .

كذلك الأمر بالنسبة للكحول والطين وباقي المركبات التي رسم محمود لوحاتٍ لها.

هنا تدخل نظرية " واقعية الكم " في إشكال وتناقض قاتل ينسف أساسياتها من حيث كونها في التطبيق العملي ليست واقعية وليست جدلية وليست دينامية، أي أنها ليست كمية. فالميكانيك الكمي QUANTUM MECHANICS قد حل أعظم معضلتين واجههما الفكر العلمي وهما :

1- العلاقة بين الجسيم والموجة (هل الألكترون جسيم أم موجة؟)

2- العلاقة بين الكتلة والطاقة.

فأين موقع " واقعية الكم " من هذا؟ زدْ على ذلك أن مخطط مستويات الطاقة لذرة الهايدروجين الذي يتبناه محمود صبري حرفيا في حسابات ورسم ألوان لوحاته هو واحد من إنجازات العالم الدنماركي (نيلز بور Niels Bohr) العظيمة التي إستحق عليها جائزة نوبل عام 1922. عِلماً أن هذه الإنجازات الجليلة كانت قد سبقت تطبيقات نظرية الميكانيك الكمي بسنين. فمن هذه الوجهة في الأقل لا علاقة لواقعية كم محمود صبري بفيزياء الكم. أي أنها مجرد إسم لا يجمعه والمسمّى أي جامع.

صحيح إنَّ الطيف اللوني المرئي هو الهوية اللونية للعناصر ولكن، فات الأستاذ الفنان محمود أنَّ في الإمكان إصطناع أيون لعنصر آخر غير الهايدروجين يحاكيه تماما من حيث الخصائص الطيفية. أي أنهما يحملان نفس الهوية اللونية. أذكر على سبيل المثال أيون ذرة الهيليوم (He +) الذي يحمل شحنة موجبة واحدة وأيون ذرة الليثيوم (Li ++) ذا الشحنتين الموجبتين. لكلٍّ من هذين الأيونين ألكترون واحد فقط يسلك تماما سلوك ألكترون ذرة الهايدروجين.

ثمَّ ما هو موقف الأستاذ الفنان من العناصر الملونة أصلاً وطبيعةً كالذهب والنحاس والكبريت واليود وبعض المركبات الغازية مثل أكاسيد النايتروجين؟ كيف يرسم محمود طيف عنصر الذهب مثلا وخصائصه وهويته اللونية قد عرفها الأنسان القديم منذ سومر وبابل ومصر الفرعونية؟؟

الكيميائي والفيزيائي يهتمان بالأطياف كافة، ما يُرى منها بالحث الضوئي أو الألكتروني وما لا يرى بالعين المجردة. الطيف الذي لا تراه العين يُكشف عنه بالأفلام. فأشعة أكس (الأشعة السينية) لا يراها الطبيب ولا يراها المريض لكن كليهما يستطيع رؤية آثارها في اللوح الفوتوغرافي المستخدم في تصوير الصدور والعظام وأحشاء الأنسان الداخلية. في هذا المقام أود أن أسأل فناننا هل في مقدوره أن يرسم لوحات ملونة للموجات الكهرو- مغناطيسية (أشعة أكس) والأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء وكلها لا تراها العين وإنها أمواج وإنَّ الفنان يحسب الأطوال الموجية وفق معادلة بسيطة معروفة؟

أسعدني أن أعلم أن الفنان محمود صبري قد وسع منهاجه فأنجز لوحة يصور فيها الطيف الكهرومغناطيسي لذرة الهايدروجين كاملا، المرئي وغير المرئي. لكني أتساءل كيف يتمكن الفنان من رسم شيء لا يراه وأيَّ لون يُعطيه؟ خاصةً وأنَّ عالم الرسم هو عالم الأصباغ والألوان لا وجود له بدونهما، تلك هي المعضلة.

ثمة سؤال قديم - جديد يطرأ على بال الإنسان فحواه : هل رسمُ أطياف الألكترون غير المرئية هو هدف الفن ورسالة الفنان أم الإنسان وواقعه الملموس والمرئي جدا جدا؟؟

في الختام وبعيدا عن عالم الفيزياء والكيمياء لا بد من كلمة أقولها بحق الفنان محمود صبري تنصب على جهوده الدؤوبة وصبره النادر. إنه رجل يجتهد والمجتهد مُثاب أخطأ أو أصاب. لقد شق الرجل طريقا لم يسبقه إليه أحدٌ حسب علمي. وإنه يسعى لإقتناص وتثبيت اللون النادر الأصيل الذي لم تجبله يد صانع أو صبّاغ ٍأو فنان. إنه يحسب ويثبت هذا اللون على لوحة، فالأطياف هي أطوال موجية يمكن حسابها وتحويلها الى ألوان بإستخدام معادلة " ماكس بلانك " التالية

E = hc/ Lambda

حيث تمثل Lambda طول موجة الطيف .

محمود صبري مسحور باللون الفذ الفريد والأصيل وبكل ما يمت لجوهر الأشياء بصلة. وعلى هذا الأساس فإنَّ فلسفته في عالم الفن هي فلسفة إنسانية خالصة ونهجه نهج خُلُقى سامٍ لأنه يسعى - وقد سعى - للكشف عن فن مؤَسَسٍ على قواعد وأسس علمية، فن نابع من حقائق علم الطبيعة.

ولأن الرجل عاشق للحقيقة، فإني كصديق وضعت أمامه ما أعرف من أمور تخص عالمي الكيمياء والفيزياء.

...................

 

27.09.2013

ملحق/ عثرتُ أخيراً على كارد كان الفنان الراحل قد بعثه لي من مدينة براغ إلى ألمانيا أواسط تسعينيات القرن الماضي لمناسبة العام الجديد 1995 وهو واحد من رسائل وكرود غير قليلة كانت تردني منه بين حين وآخر حين كنّا نتبادل الرسائل والأخبار منذ عام 1973 وحتى قُبيل رحيله أواخر السنوات العشر من هذا القرن .

لم أجد الرسائل الأخرى لشديد الأسف وخاصة تلك المتعلقة بمنهجه في رسم لوحاته والكتيب الذي أرسله لي بعد محاضرته ومعرضه في قاعة أو كاليريه (تيت) في العاصمة البريطانية لندن في عام 1987 .

أنقل هنا نص الكارد المُشار إليه للتوّ وأحاول تصويره وإلحاقه بهذه الدراسة تخليداً لذكرى الفنان ولبعض ما ترك في الحياة :

(العزيز أبا أمثل

شكراً لتحياتك وتمنياتك الجميلة متمنياً لك ولجميع أفراد العائلة كل المسرة والخير والنجاح بمناسبة 1995 .

يؤسفني أنْ أسمعَ أنك مريض، آمل أنْ تكون قد تماثلتَ للشفاء الآن .

أتوقع أنْ أسافر إلى انكلترا قريباً لزيارة إبنتي ياسمين .

المناخ عندنا بائس هذه الأيام ـ ثلج وبرد بأستمرار ولكن طبعاً هذا هو الشتاء عادةً .

أما بالنسبة لرغبتك في زيارة براغ فأفترض أن أفضل وقت لزيارتها هو في الصيف .فهذا الموسم المفضل حيث أن براغ تظهر فيه بأحسن أحوالها .

كل عام وأنتم بخير

التوقيع)

 

صورة الرسالة بخط الفنان الراحل:

174-adnan

 

 

في المثقف اليوم