مقاربات فنية وحضارية

حيدر عبد الرضا: مقاربة في مشغل التشكيلية الكويتية وفاء آرت

تقانة الظهور التدريجي عبر فضاء تقاطعات الأنا وهواجسها

توطئة: اعتمد أسلوب الرسامة التشكيلية وفاء آرت على مناهج ومستويات فاعلة من الرسم التشكيلي، فهي تارة تنتهج أسلوب (المنهج الواقعي) وتارة (المنهج الرمزي) تركيزا انطباعيا بالمعنى الذي يمنح أشكال وهيأت أفكارها تلك المقاربة المتصلة وديمومة تأملاتها الحسية ونوازعها الذاتية المغايرة في تقديم العمل الفني بصورة الشعور المؤبد بظلال (القيد ـ المكبوت ـ الرقيب) وهذه المحاور الثلاثية الاقطاب ببساطة جل ما وجدناها من التحكم والدافعية والتحفيز في مجال الفضاء التشكيلي في خطاب اللوحة لدى الفنانة.

ـ المنظور الشكلي وتمثيلات الرؤية الذاتية:

نلاحظ بادىء ذي بدء إن دال المكبوت هو من يهيمن ويغزو تلك المساحات من الإدراك الحسي المبثوث على فضاء ومقادير وملامح الخطوط المتشكلة على هيئة أشكال مجسمة بأبعادها المباشرة أو اللامباشرة.فعلى سبيل المثال، تواجهنا هيئة رسومية تتمثل بما يقارب تصوير ذلك الجسد الذي يعزف الكيتار، حيث تكون سماته الظاهرة شبه متكاملة، ما عدا فقدانه إلى عضو الرأس بشكل انشطاري، كما ويجانب العازف وجود ذلك الكلب المكتمل بهيئته التكوينية، ودون أية حالى إحالية من شأنها تجريد دوره إلى علامة تشكيلية مرمزة بطريقة ما.فالا توافق في هيئة ذلك العازف هو فقدانه للرأس كما أسلفنا بذلك النحو المشطور، أي الهوية الظاهرة من محددات الواقع التعييني لهذا المجسم، ما يجعلنا ندرك بأن علاقة الذات هنا وعبر حدود وجودها، كانت تأكيدا على حضورها الموقفي من الوجود الجسدي الذي لا يتحدد ضمن (العالم ـ الوعي) ولكن من جهة ما يتمكن هذا الجسد رغم الفقدان من مواصلة العزف، دون الإشارة الواردة طبعا، من إن ذلك الكائن الحيواني الذي يقع بمحاذاة أقدام الجسد في جلسته فوق مكعب الأزرار، كان متفاعلا أو غير ذلك من طقوسية ذلك العزف الشارد في مهاوي اللاكينونة الواجدة والمؤشرة دالا على سلامة هذا الجسد الرابض في مناشدة فقده للديمومة الصحية والذهنية لحياته الطبيعية.وهكذا تتابعا تواجهنا لوحة المرأة الظلية وهي تجلس القرفصاء داخل علامات ذلك الحضور المجزأ من خلفية أحجار مسننة ومجعدة، وكأنها أوجه أخاديد من ضفاف على شاطىء مهجور.وعندما نمعن النظر في سمات اللوحة، نشعر وكأنها تمثل حالة من حالات المشاهد الأكثر انعزالا عن الزمن والديمومة الحياتية الذاتية.فيما تنقلنا تشعبات لوحة الذات المشرنقة بتقاطعات الشباك نحو خلفية فضائية معتمة تتمثلها حالة من الوجود الترميزي، الذي يقودنا نحو التأويل بالانطباع بأن اللوحة عبر كيفياتها التكوينية تؤول لنا مدى محكومية تلك الذات داخل أزلية خيوطها الجسدية المؤتلفة منها وبها إلى حقيقة الاعتراف بالخلود الانعزالي ـ الأبدي داخل وثنية شرنقية من خيوط الشباك التي صنعتها فرضية مضمون جسدها المتبلور بمكونات العقدوية الخيطية اللامحددة إلى أية جهة زمنية ومكانية وذاتية نواتية يبقى إليه مقترنا قرارها المصيري .

ـ تقانة الظهور التدريجي: التقطيع ـ الكشف المخبوء

مهما حاولنا الحديث الاستقرائي والمقارب في مؤشرات اللوحة التشكيلية لدى الفنانة وفاء آرت، قد نكون حينها ليس من البلوغ الأكيد في تأويل مشاهدات المواطن التعبيرية القادمة من حالات اللوحة ذاتها.ولو حاولنا على حين غرة تسليط بعض الضوء نقديا على تقانة وأسلوب بعض الصياغات المتوفرة في مشغل الفنانة، لأكتشفنا بأن هناك حالة عفوية إلا إنها تقانية في أسلوبها الممنهج، ناهيك كونها حالة مفصلية في مهام العرض الشكلي للوحة ذاتها.إذ هناك بين الظاهر الجزئي والباطن الكلي، ثمة ظهورات أقرب ما تكون إلى شيفرة (التقطيع ـ التجزئة) وليس التشظي بالمعنى الألواني فوق مقاطع وخطوط البنية الرسمية.فهناك بواعث للإيحاء بماهية ظهور مشاهد وحجم من اللقطات المختارة على هيئة نشر تقطيعي لكل جزء من أجزاء اللوحة داخل فضاء من التجرد والعلامة الهاربة من تعيينات الاستعمال التوضيحي في مكامن الشكل المجسد ـ تكاملا ـ لذات اللوحة ومحورها التكويني كما الحال الذي تقع فيه لوحة الفتاة المشرنقة داخل نسيج العنكبوت، وهو بذاته إن صح لنا تسميته ذلك الحاجز والعائق الخارجي، الذي راح بدوره يحيط بكينونة الذات منذ ميلادها داخل حجب مستلة من ملامح فكرة الزمن العنكبوتي ترميزا دالا، والذي يذهب بالذات المحوطة بخيوطه إلى أقصى علامات مفاهيم (المكبوت ـ القيد ـ التابو) لذلك وجدنا الرسامة قد قامت بنشر الأجزاء المفصلية من عالم لوحتها، ذلك لغرض تحديد المراحل الشكلية والنواتية في صيرورة زمنها المزامن لحدود أنصاب تلك الشراك المضفورة عبر مسافات عنفوانية تتماشى وتتوازن مع نمو كينونة الذات المصفدة داخل حضورها الغيابي المرير.

ـ الذات المنتصرة وحركة الزمن المعطلة:

إن طبيعة أفكار ومنظورات المشغل الفني للرسامة، يحتمل في أشكاله وبنياته عدة محاور توظيفية مستلهمة وتصويرية في الوازع من إمكانية العامل التشكيلي المبثوث في مرجحات الذات الراسمة ذاتها.فهناك تواجهنا حالة من أسلوبية الأنثى المنتصرة داخل فضاء لوحة تتوزعها وشاحات من القماش الأحمر، فيما تستقر في خلفية اللوحة ساعة محطمة ومعطلة تماما، وعندما نتفرس في حاضنة أرضية اللوحة، نعثر على ذلك الثور المنكس الرأس والقرون أرضا، ذلك تألما لما أصاب ظهره من الجهة العلوية بأحدى السهام التي قامت تلك الفتاة بطريقة فاصلة بغرزها أعلى جسده.في الواقع أن الفتاة ذات الثياب الحمراء اللون، تهم بتشخيص موجهات بصرها نحو موقع ذلك العقرب أو البندول للساعة الذي قامت بنزعه من هيكل الساعة المهشم، لتوقف الزمن وتعطله تماما، ذلك لأن ما يظهر في اللوحة تجسيدا إلى دال الثور وطغيانه الفاحش فيما سبق حادثة اللوحة، أي عبر ذلك الزمن الذي أخذت فيه الرسامة تصوره لنا عبر المشهد التشكيلي، كحالة تحررية ودفاعية بلغت حدا في اعتبارها الأنثى التي انتصرت على مرحلة القيود والتابو، بطريقة جعلتها أبرز من أوقف ذلك المشروع الذكوري المتجبر على أدق مفاصل حياتها النفسية والسيكولوجية .

ـ البيئة القلبية المصفدة وعلامات الوجه المحجوب:

ويبدو لنا تتابعا أن هناك حالات متقدمة في مشغل الرسامة، تعنى بما تعنيه هويات (الأصفاد ـ الحجب ـ الذات المسورة) ما بدا لنا الأمر في حقيقته قادما من معايير ذاتية انفعالية خاصة بزمن تراتيبية الذات الآنوية المحجوبة خلف أشكال بوحها وحظورها واقترابها من دائرة وجودها المغلق.نعاين معالم لوحة ذلك القلب الذي يتصدر تصدعات الفضاء في اللوحة، وكأنه المقارب المعادل لهوية الذات التي يضمها ذلك القلب التابع إلى زمن الطاغوت ـ الرقيب، فذلك الوجه الظلي القابع خلف شرايين القلب، ربما هو المعادل الصوري عن حقيقة الذات المحجوبة، التي تسعى إلى التحرر من زمن صاحب القلب، أو لربما هي ذاتها الكينونة الأنثوية التي تؤثر التواصل مع ذلك الزمن الخارجي عبر حالاته ومؤثراته الدورية والصوتية والواقعية.ولكن اللوحة قد غلب عليها طابع المستوى الرمزي الذي بدا متألفا مع الصورة المرئية وبذلك يتعمق الاحساس لدينا بأن الأهمية القصوى لهذه اللوحة تكمن في تراكيبها الوظيفية المضمرة في التدرج التشكيلي في إيصال الأبعاد الدلالية.

ـ المرايا وآلية محو الزمن التعارفي في الهوية الذاتية:

كثيرا ما شاعت تقانة (المرآيا) في التجارب الشعرية منذ زمن العقد الستيني وحتى زمن التحقيبات الصاعدة من الأجيال الشعرية، وقد بدت هذه التقانة من أبرز المكونات الشعرية الحداثوية (توظيفا ـ تقويما) غير أننا ولا شك وجدنا هذه التقانة سائدة وراسخة في أصولها الأولية في مجال الفنون الجميلة بوصفها نوعا وملمحا ودالا بصريا.نتعرف من هنا على واحدة من هذه الخصوصية التقانية لدى الفنانة وفاء آرت، ولكنها لدى إجرائية اللوحة ومنظورها الصوري، لا تحمل لنا أي ولادة حلمية ما من شأنها استثمارها في تشكيلات تذويتية تتجاوز الحد (الميتاواقعي) بل أنها جسدتها في درجة من احتدام الهيئة المجردة مع سيول المادة اللونية البشرية كخيوط مائية أخذت تتساقط وتراق ظلالا، إلى جانب توليد قيمة أسلوبية في المحو الشكلي والمضموني لملامح الذات عبر انعكاسات الصورة المراوية في المرآة.في الواقع حاولت الفنانة عبر مشهد لوحتها تجسيد المنهج المراوي كحالة محاكية لمفردات الحياة الأنثوية التي أخذت تابو الممنوعات والعوائق الخارجية إلى جعلها منسلخة عن زمنها الطبيعي، لذا بدت الكينونة الذواتية عبر صورة المرآة، وكأنها منزوعة الهوية والانتماء والملامح، ما جعلنا نشعر بأن المرآة ذاتها ليست هي المرآة الزمنية التي أحتوت زمن الذات، بقدر ما كانت هي المرآة التي فتت وتشظيت من خلالها تقاسيم الملامح الحقيقة للذات.كذلك هناك بالمقابل ثمة تقانة خاصة من الظهور التدريجي، تتبعها في الآن ذاته تقانة في الأختفاء التدريجي، وذلك ما وجدناه بأكثر من مرحلة متقدمة ومتأخرة من أعمال الفنانة، وبالأخص في طبيعة لوحاتها التي تتبع زوايا فضاء الأوضاع (الأفقي ـ العامودي) وللأسباب ذاتها من تفاصيل اللوحة وظهوراتها التدريجية وأختفاؤها في مراحل زمن عوائق الأنا عبر مراكز ولغة غرائبية الذات عبر كينونتها المغامرة في سطوح اللوحة المتقاطعة في الأجزاء والكليات التوظيفية المؤثرة.

ـ تعليق القراءة:

إن آليات وكيفيات عوالم ورسوم الفنانة وفاء آرت موضع قراءتنا، يمكننا القول عنها بكونها مقتربات تعبيرية ـ تشكيلية، ذات محمولات مرمزة في بعض أوجه تمثيلاتها الدلالية، فيما تبقى أدلة موضوعتها في اللوحة محصورة في حدود (إشكالية الذات ـ مأزومية الواقع ـ استحالات بلوغ المراد من الحلم) وعلى هذا النحو وجدنا أغلب أعمال الرسامة، لا يتعدى رؤية (الحجب الذاتية) داخل شرنقة محيطة من صيغة الاغتراب والسوداوية في الوجود بما يلائم مقاصد الذات والموضوعة التشكيلية.وتبعا لهذا عثرنا دائما على عاملية الذات وهي تطرح نفسها وبهيئة شبه مكتملة في طابعها العضوي، كما الحال في لوحة عازف الكيتار ذا الرأس المشطور، حيث العازف يطيل سماع معزوفته الصامتة في فضاء تعليلي مشحون بعوائق المنحنيات والمنكسرات من تصدعات حياة الذات التشكيلية عبر نقاط تلاقيها وتقاطرها في عوائق الأنا ووهن وجودها الذاتي المقيد.

***

حيدر عبد الرضا - ناقد

 

في المثقف اليوم