مقاربات فنية وحضارية

الصورة التكعيبية في المنحوتات السومرية والفن الحديث

zouher sahebحين اعلن (اندريه مالرو) عن متحفه الخيالي، فانه قدم للانسانية والذائقية المعاصرة، فهماً للفن من خلال الفن ذاته. وفي سياقات تفكيره الابداعي هذا، يمكن ان نقيم تقابلاً في العلاقات الشكلية، بين بنية الزقورة السومرية، بخطوطها الافقية والعمودية المتقاطعة. ونظام الصورة التجريدي الهندسي الذي يميز اعمال (موندريان). وبذات الفاعلية،يمكن رصد مجموعة من نظم العلاقات الشكلانية بين الهرم المصري، (وتمثال) طائر في الفضاء للنحات (بزنكوزي)، في السعي نحو اللا محدود والمطلق، وهذه الامثلة وغيرها  الكثير، تستقدم  الابداعات التشكيلية السومرية، الى عالم الفهم المعاصر، شريطة ان تُحرر من آنية احساساتنا، وآنية العالم الشخوصي والمادي معاً.

وحين تُؤسّس منظومة الاشكال السومرية، انظمتها الشكلية، بعيداً عن حكائية المرجعية ومحدودية التاريخية. فانها تقول مقولتها، وتؤكد نوعاً من الرؤية، نُسقط فيها الفهم المعاصر على ما هو قديم وليس العكس. بحيث اننا يمكن ان نؤسس (مقتربات) شكلية، بين نظام الصورة السومرية والفن الحديث داخل بنية الفن.. وهي افاق تبدا بتاكيد الوجود الانساني، بوساطة الانسان نفسه، ويتاكيد حقه في ايجاد حقيقة اخرى، خارج حدود الطبيعة. بل وتجاوزها اعتماداً على قوانين خلق اخرى، وعلى مقاييس جمالية ومعايير حكم جديدة. فالاشكال السومرية تفكر في عقولنا بدلاً من تفكيرنا بها، انه الطابع الانساني الذي جعل من الفن السومري، انشودة يرددها التاريخ . 

فالفنون التشكيلية السومرية (الرليفات) هي صور عظيمة في تاريخ الفن، ذلك انها ترينا شيئاً نبصره بالعين مع شيء ندركه بالبصيرة، فهي تجمع بين البصر والبصيرة.وان العبقرية السومرية تنسج الحياة والفن، والتمثيل والتصميم في نسيج واحد. وبهذا الكيف، قدمت العقلية السومرية (الموقرة)، لاشكالات الفكر الانساني، حلولاً ابداعية مهمة في مجالات التشكيل، (فالفوتوغرافيا) لم تكن تعني للسومريين شيئاً ذلك ان محدوديتها التشبيهية، كانت تتعارض مع (ايدلوجيا) الفكر السومري اللازماني واللامكاني. بحيث اصبح (موضوع) الشكل في الرليفات السومرية مَحض وسيلة لابداع علاقات شكلية تجريدية . فالمثير في الموضوع، لا اهمية له، والاشتغال هنا يكمن في القصيدة نفسها، أي بتوافق الكلمات والصور وتناغمها الدائم والثابت. ومن هنا جاء قول (غوته): "ان الهندسة موسيقى الحجر".

وان الفن (العظيم) يتضمن بالذات تخلصاً من التشخيصية ومن حالة البشرية، ليتمتع بصفة الابدية،وحين (تُبلّور) الاشكال في الرليفات السومرية، الميتافيزيقي المتضمن فيها، بالبحث عن الجوهري المُتخفي تحت (زوائد) البشري. فانها (لَخصّت) الشكل الى قوانين هندسية (شكل مثلث يقوم على شكل مخروط). فالفن في سومر، حجاب اكثر منه مرآة . وهي بذلك تعقد نظاماً من الاقتراب مع افكار (سيزان) في العملية الابداعية في التحليل والتركيب والتشكيل، والذي يرى بوجوب تكثيف الاشكال الطبيعية الى انظمة هندسية ترتبط ببنائية الكرة والمخروط والاسطوانة. 

فقد أدخَلت  العقلية السومرية المُبدعة، مفاهيم الطبيعة ضمن قواعد الضبط والدقة، وينوع من (الثيوصوفية الموندريانية) والتي انتزعت من الشجرة كل شيء، عدا الصورة التي يُفترض ان توقظها في الوعي، ليس بكونها شجرة، وانما على انها شكل شجرة. وكان المشهد اشبه بالتمرد على الظواهر الخارجية، واختراقها وتحطيمها من جديد، عوداً الى اللب، حيث اللون وحده، والحرية لوحدها. فحين (اراد) الانسان تقليد فكرة (المشي) اخترع العجلة التي لا تشبه الساق في شيء.

ان الكون متشابه في نظرنا كلنا، ومتباين في نظر كل منا على حدة. فهو ليس كوناً واحداً، بل ملايين . على عدد ما فيه من (خوخ) وعقول بشرية تستيقظ كل صباح. هذا (الاختلاف) في الرؤية، والتّولد، الجديد في اليات التفكير، هو نوع من الازاحة في دراسة الفن، تُزيح والى الابد، تلك القطيعة (الابستملوجية) بين بنية الفنون  السومرية  باعتبارها انظمة شكلانية، ومقارباتها في الفن الحديث. شريطة اقصاء المدلول الميتافيزيقي من بنائية الصور السومرية . فَجُلّ الاهتمام هنا، ينصب على تحليل بنية الصور (كدوال) تركيبية، وتَمظهرها المتشابه مع بنية الاشكال في الفن الحديث. وهذه (الرؤية) تَدعونا، الى (تاطير) سلسلة الاشكال (السومرية – والفن الحديث) في مفاهيم النظام او النسق. نوعاً من سلسلة تعقد تراصف (الدوال) الى بعضها كوحدة كلية، بدلاً من تفكيك مفهومياتها التي طالما تُقررها حكائية المدلولات.

ان حفراً عميقاً في بنية النصوص السومرية (الرليفات)، يُظهر  ان نظام الصورة السومرية، يمكن ان يؤسس له مقترباً  مع شكلانية الاشكال التكعيبية. فنظام الصور السومرية باعتبارها انظمة شكلية، ليس لها مماثلات في الوجود الشيئي المتعين. انها نماذج معدلة، ترتقي على المحاكاتية، باعتبارها كشوفاً (حدسية) متحررة من محدودية القيود الحسية. فالشكل لا يجد تحققه بالفعل ذاته، بل عليه ان يُعلن ويوسع شكلاً (شعرياً) من اشكال الحقيقة.

فعلينا هنا  ان (نغيبّ) عمل المراقبة البصرية، نحو تَفعيل دور التاويل والكشف عن البنية الهندسية الخالصة في تركيب الاشكال. وان انتصار الشكل في التشكيلات السومرية (الرليفات)، كونه الوسيط بين فيزيائية الظواهر وجواهرها . فهي قبل ان تكون اشكالاً طبيعية، فانها صور رمزية مستخلصة من الطبيعة، انه نوع من اعادة (صياغة) الطبيعة في جوهرها وماهيتها، كونها تعود الى نسق التشكيل وليس الى الواقع المادي.

وقد لا نضيف شيئاً جديداً في تحري تاريخ التكعيبية وخصوصياتها كاسلوب اساسي من اساليب الفن الحديث. الا ان اهتمامنا يقع في كشف الجوهري في نظام الشكل التكعيبي، مع (رجاء) الى التاريخية في ان تُرخي قيودها، كي تتخذ الاشكال سلسلتها المترابطة، وتقدم مقولتها على انها انظمة شكلية، وليست مدلولات (اخلاقية).

وهنا تبرز صورة جديدة للعيان، تؤسس مقترباً لها، بين نظام الصورة السومرية في الالواح النذرية، ومماثلها في لوحة بيكاسو (فتاة امام المراة). فكلاهما يشتركان في الية عمل الصورة الذهنية، والتي تسعى الى تمثيل ما تعرفه وتدركه عن الشيء، وما ينبغي ان يكون عليه، بدلاً من محاكاة ما تراه. واضعة بذلك التجربة الحسية، تحت سيطرة ومراقبة  العقل . 

585-salimفالفنان في سومر والتكعيبية، يسعى الى بناء حقيقة صورية، ومن هنا كان التوجه نحو المظاهر التجريدية، والتوقف عند الصور الذهنية غير المادية، والقائمة على التنظيم البنيوي (المتناغم) في الأشكال الهندسية . ذلك ان الفنانين في سومر والتكعيبية، لم يروا باعينهم ما في الطبيعة بل بافكارهم، وهم لم ينسخوا الموضوع كما في الواقع، بل يؤولونه نحو الجوهر، وهذا ما تؤكده مقولة (ماليرانش): "ان الحقيقة  ليست في حواسنا بل في فكرنا".

ان الموضوع (الشيء) في (عندية) الفنان السومري والتكعيبي، لا شكل له في المطلق، بل له عدة اشكال، على عدد ما في مقاطع التاويل من زوايا النظر، وعلى عدد نظر العيون التي يمكنها النظر الى الشيء. وبتمثيلهم الشكل الواحد من مختلف وجوهه في ان واحد، فانهم حاولوا التعبير عن الحقيقة المطلقة، مُدعين تقديم صورة للشيء، اكثر موضوعية من مجرد التوقف عند مظاهره الخارجية.

فقد واجهت المُبدع السومري، ومن بعده بيكاسو وبراك، ذات المشكلة، وهي (الكيفية) في تمثيل الاشكال الابعاد الثلاثة، على سطح ذي بُعدين، فكانت الحلول في بنيتها الشكلانية متشابهة . وتقضي بتمثيل الشكل باكثر من زاوية نظر في لحظة زمنية واحدة، بحيث تكون رؤية الشكل اشبه بمسرح الحلية الذي يلتف حوله الجمهور في فحص الاشكال. فالصور تصبح هنا، مجرد انعكاس للتساؤلات التي تطرح حول الوجود، وذلك بالانتقال بالشكل الطبيعي، من صورته العرضية، الى بنائيته الشكلانية الخالدة.

وبدراسة تحليلية  تَتحّرى  احالة (الموضوع) الى انظمة شكلية، في (الرليفات) السومرية والصورة التكعيبية. تُظهر  ان آليات  الاداء (العقل واليد) تُفعّل نوعاً من الكشف التجريدي في تركيب الهيئة، وذلك (بتقشير) اغلفة الشكل المتتالية وصولاً للبنية الشكلية المحَضة  مدركة ان قيمة الشكل في هيكله العظمي، وان وجوده في ذاته، لا في تماثله مع الواقع.

فالهندسية في الاشكال السومرية والتكعيبية، مثل القواعد في الكتابة نتيجة ارقام او (نسب) تُشكل توازناً بالتوازنات . فاوجدتا قراءة رياضية للنص، يهيمن فيها انفتاح (الدال) على محدودية حكائية المدلول. فاسست الاشكال انزياحها في سلسلتها التاريخية، متحولة من صور مماثلة لفيزيقية الاشياء، الى بنايات شكلية مُعبرة عنها، فاسست الاشكال وجودها، بدلاً من صناعة التاريخية لها.

ابدعت العقلية الانسانية، في سومر والتكعيبية، نظاماً للاشكال، مُثلت بموجبه معزولة عن العوالم المرئية. فالتشكيلات لا تستند الى الزمان والمكان، الا بمقدار العلاقة التي يقيمها (الاخيران) مع المُتخيل او مع اللاواقع. فالكهنوت السومري  وبفعل الوعي والقصد والارادة، مثل بيكاسو وبراك، لا يريدون ان يعرفوا سوى افكارهم وحدوسهم عن البناء الشكلي للمثل الاعلى في التعبير، ويزعمون تطبيقه حتى درجة المطلق. ومن هنا كانت تجزئة الشكل، الى مساحات هندسية مُسطحة ومتداخلة، وتمثيله من مُختلف وجوهه في زمن واحد، لتقديم صورة عن (الشيء) اكثر موضوعية من مُجرد التوقف عند مظاهره الخارجية.

وبنفس نظام صورة (البورتريت) في الفنون السومرية عمد التكعيبيون الى رسم انف كما يرى من الجانب على وجه منظور من امام، اوعينا  بوضع امامي على وجه جانبي المنظر. وقد اوضح (بيكاسو) فكرة هذه التركيبات: " بان الراس عبارة  عن عينين وانف وفم، وهي اشكال يمكن ان توزع باي طريقة، ويبقى الراس راساً، وهذا الاسلوب في التفكير يماثل منهج التاليف في الموسيقى". انه التنقيب في منطقة النص، وصولاً الى الشكل الجوهري الكامن، وراء المظهر الخارجي، وتحليله واعادة تنظيمه، بتركيب وانشاء نظام جديد. انهم جعلوا من الشيء الحقيقي شيئاً فنياً.

وهذه الوظيفة الجمالية للصور التشكيلية، وهي تعقد سلسلتها عبر التاريخ. كانت كشفاً للامرئيات بقوالب المرئيات. وهي بذات القراءة، نظاماً منضبطاً او وسيلة لتبسيط الاشكال وتقوية التكوينات. لا لتاكيد الخط فحسب، بل الحجم ايضا. فكان كل شيء فيها، جسماً صلداً مختزلاً الى تشييدات هندسية. لم يعد فيها التركيز على الشيء ذاته بل على الترتيب  الشكلي المستقل لهذا الشيء. انه التعبير عن القوة الشاملة في الانسانية، المعبرة عن (دلالة) النقاء الروحي والكوني للمطلق .

 

أ. د. زهير صاحب

أستاذ تاريخ الفن - كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

في المثقف اليوم