مقاربات فنية وحضارية

رسومات محمود شُبَر.. تعبيرية واقعية لا تجريدية مثالية

88 محمود شبرفي بداياته في عالم الرسم والتشكيل هام محمود شُبَر بعشق الروح الصوفية، فكان أكثر ميلاً للاشتغال في التشكيلي التجريدي. تلك هي اشتغالاته الأولى في عالم الرسم متأثراً بصوفية "كاندنسكي" الذي كانت أعماله الفنية موضوع دراسته للماجستير.

كان يطمح بأن يُكمل رسالة والده الفنية، فهو ابن الفنان التشكيلي (النحات) المعروف (شاكر نعمه 1941 ـ 1991) من جيل مُبدعي الفن التشكيلي في سبعينيات القرن المُنصرم والحاصل على الميدالية الذهبية عام 1972 في إيطاليا في معرض الفنانين الأجانب. عُرف (شاكر نعمة) بمهارته في توظيف التضاد بين الألوان لا سيما بين الأسود والأبيض.

الإبن على سرَ أبيه، فكما عُرف عن شاكر نعمه همَه في التشكيل نحتاً ورسماً وتأكيده في أعماله الفنية على صلة الإنسان بالأرض، وهيامه بالهوية الوطنية عبر توظيفه لرؤى المدرسة التعبيرية في الرسم والنحت.

حاول الابن أن يطير بجناحيه ليكشف عن عوالم أخرى خارج مُعطيات المدرسة التعبيرية، ولكنه بعد تجربة فردية وخبرة اجتماعية عاد ليستظل بظل ما عمل أبيه على تنمية مهارته الفنية والفكرية التي تُنبؤنا بأن (هذا الشبل من ذاك الأسد).

عمُ محمود شُبَر هو الفنان (زيدان نعمة) الذي تميزت لوحاته ببهاء اختيار اللون وعشق الحياة برسم الريشة لألوان المحبة.

88 محمود شبر2

لا أظن رغم عشق محمود شُبَر لأعمال عمَه وامتثاله لرغبته ورغبة أبيه في عشق الرسم وتشكيل اللون، ولكن زيدان النعمة بهجة لونية وحياة مسرَة بحكم مُفارقات زمن العيش بين العمَ التشكيلي الذي تنطق ألوانه وتصرخ لوحاته بأن "الدنيا حلوة ونغمتها حلوة" فكان عمَه فنان التشكيل اللوني الذي يبعث البهجة في النفوس. زيدان نعمة (فنان العشق) وبهجة اللون حينما تكثر التحديات، ليخترقها زيدان نعمة ببسمة ترسمها ريشته بألوان زاهية تُحاكي السعادة، فلا مكان للحزن في لوحاته لأنه في مضامين أعماله التشكيلية يعمل على نثر (هيل) جمال التشكيل اللوني، لأن مهمة الفن عنده إعادة تشكيل الحياة وفق نمط العيش ببهجة وشراق فيه بهاء واقبال على مفارقات الدنيا المُحببة في تضاد (اللذة والألم).

بين كبيرين الأب والعم، كيف يتسنى لفنان ورث الفن فكان عنده سجية وفطرة استقاها من الأب والعم، وهُنا يكمن الإبداع والقهر في الآن ذاته، فكيف يتسنى لمن نشأ وتربى في بيئة فيها كبار أن يرسم ملامحاً لـ "بصمة خاصة" فحينما يرث الأبن تاريخ إبداع عائلي لربما يحسده أةو يُغمطه عليه الآخرون، ولكنه سيكون بين نارين، مثلما تقول الأغنية العراقية (على النارين خلَونه إنتجوه)، فبين نار إبداع الأب ونارإبداع العم، ما لذي يُمكن لوريثهما أن يصنع؟!. ولكن كما يُقال (ابن الوز عوَام) فكان ما كان مما تعلموه وما سأخبركم به بأن الابن (الوريث) لنمطين مُختلفين من التشكيل قدَ تمكن من يُخلق له (بصمته الخاصة).

ولأنه نشأ في عراق الحرب، فلم يتمكن من إكمال دراسته للفن في إيطاليا كما كان يرغب والده، تلك المدينة التي تغوص في عُمق جمال الفن التشكيلي.

88 محمود شبر4

كانت الحرب موضوعات رسوماته والسياسة شاغله، فما كان منه تعبيراً لرفض الحرب وهيمنة السياسي على الاجتماعي وطُغيانه سوى اللجوء للمدرسة التجريدية كي يُضمنها رمزية وترسيمات لونية تُتيح له حُرية التعبير عن هذا الرفض داخل فضاء اللوحة، فهو من جيل لم يعش بسلام أبداً فكان كل ما انتهت حرب دخل النظام بحرب أخرى، لذا تجد لوحاته تضج في بداياتها بحركية الألوان وتعددها وتداخلها وصخبها، فكان بحق "رسام الحرب" كما يحلو للبعض تسميته، لكنه رسام للحرب لا من أجل غوايته بها، بل لأنه ماهر في تشكيل صور الدمار في الحرب رسماً وتشكيل رؤية فنية لها مرجعية فنية تعبير الرفض فيها كامنٌ في رسوماته، أو ما قيل عنه أنه يُجيد رسم "فن الانتقام من الحرب"، فهو يُصرَح كي لا يُحاسبه المغرضون في التقليل من (بلاغته اللونية) بأنه "من جيل ولد ما بين حربين ودُخانها والمدافع"، ليُذكرهم بقوله: "أنا لم أرسم المُدن، إنما رسمت الحرب" بلوحات تعبيرية وضربات ريشة فنان يعي رسالة الرسام ليرسم لنا من "أرض الدم" تمظهرات اللون و "حكايا الجسد" االعراقي الذي أنهكته الحروب، فلوحاته خبر يصلح أن يكون "سب تايتل" بتشكيل لوني لتقتصه محطة اخبارية تهتم بشؤون أهل العراق، لتُخبرنا أن في التشكيل خبرٌ أن هُناك بلداً أكلته الحروب، وأهله صامدون!.

بعد سقوط النظام الديكتاتوري وقبل ذلك بزمن تحوَل من فضاء التكوين التجريدي ليكون من عرَابي المدرسة التعبيرية في الفن، ليرسم لنا صور الجنود وهم في معسكرات التدريب أو في ساحة المعركة بيدهم وبمعونة جنود (المارينز) الأمريكان يُمسكون بصورة لصدام بدلالة تعبيرية واضحة على أن سقوط النظام لم يكن كما كُنَا نتمنى، فكانت لوحته (اسقاط الصنم) تعبيراً عن الرفض الحقيقي لما جرى وما يجري على العراق وفي العراق "نرسمُ للعراق وعنه".

88 محمود شبر3

إن رسومات محمود شُبَر إدانة لكل أشكال الحرب بما فيها الحرب التي أسقط فيها الأمريكان النظام الديكتاتوري بحجة الديمقراطية التي دمرت تاريخ وآثار وفنون العراق، فماذا يعني أن تُسقط نظاماً دكتاتورياً وتُخرب في الوقت ذاته حضارة وتاريخ بلد؟!.

وماذا يعني أن تُسقط نظاماً ديكتاتورياً لتأتي ببديل عنه تحت مظلَة الديمقراطية رجالاته يقودون البلد بعقلية خُرافية قدمت من القرون الوسطى؟!.

تلك هي رسالة محمود شُبَر الفنية، بوصفه (فنان مُعاصر ينتمي للزمان والمكان)، وهو من الفنانين الذين يُصرحون ولا يخجلون بأن له "بصمة خاصة"، وهو (بابلي) يستمد ثقته من تاريخ حضارته في التشكيل رسماً ونحتاً ومعماراً أمدها آلاف السنين (حضارة بابل)، ولكنه لم يتعكز عليها ولم يرتض لنفسه أن يكون تشكيله على غرار تصميم بابلي سبق، فما أنتجه أجداده من خلق وابداع فني لهو كفيل بأن يمنحه القُدرة على الخلق والإبداع في التشكيل الفني رسماً يُكمننا من الحُكم على لوحته من دون تدوين اسمه عليها بأن عائديتها لمحمود شُبَر، لأنه فنان (رسالي) يُحاول بـ (بصمته الخاصة) في التشكيل اللوني أن يرسم الوطن بما فيه من خراب وما فيه من أمل يحمله هو ومن ماثله وشاركه الهم من (جماعة الأربعة) أن يُعيدوا انتاج الوطن وفق مُخيلتهم الإبداعية المؤسسة على قراءة لتاريخ وطنهم بكل ما يكتنزه من جمال ومعرفة.

88 محمود شبر1

في لوحته (السياب) يجمع بين الرؤية الأخَاذة في رسم صورة السياب وقصيدته (مطر مطر..ما مر عام وليس في العراق جوع)..

إنه فنان نقد (الوعي المُتمركز) حول الذات وتعرية تضخيم "الأنا" التي يستخدمها الرومانسيون الذين يتغزلون بـ "الزمن الجميل" ليُعَري بعض من (وثوقيتهم) ومصادراتهم التي يترنمون بها على أن العراق بلد الخير والنماء والرخاء، وتناسوا كل شظايا جست جسد العراقي بحروب لا عدالة فيها، فمسَت وخدشت حياء (الأنسنة) التي غادرتنا قبل أن يحين قطاف الزهر وتشكيلات فنان ماهر بعد غوص في (فُسيفساء) التنوع العرقي والمذهبي في العراق، وتلك مهارة تكتنزها ريشة محمود شُبر في التشكيل وتقبل التنويع.

لا يتخذ محمود شُبر من الرسم أداة لإضهار مهاراته الإبداعية التي لا يُختلف عليها، وإن كان ذلك من مُعطيات التعبير عن إمكانتاه، ولكنه (فنان) مُفكر، ومُفكر فنان، يجعل من فنه التشكيلي عتبة لتدوين تاريخ لمرحلة مهمة من تاريخ العراق، فهو يكشف عبر ريشته تاريخ "العُنف الدموي في العراق" والعمل على جعل الفنان بمصاف المُفكر، كلاهما يكتب وينتقد، فالمفكر يُدون تاريخ الشقاء والعُنف باستخدامه قلمه ورؤيته النقدية، وشُبَر من خلال ريشته ورؤيته التعبيرية داخل فضاء اللوحة،يُشارك مؤرخ الأفكار مهمته، فهو من الفنانين الذين يُمكن تصنيفهم على أنهم من دعاة "الفن للحياة" لا "الفن للفن" بمعنى أن الفن عنده تربية للذائقة الجمالية أولاً ونقداً صورياً عبر الرسم للواقع لا من أجل "تفسيره" إنما هو عمل دؤوب لـ "تغييره"، وكأنه يُراداف بين مهمة الفن ومهمة الفلسفة التي تحدث عنها (ماركس).

في خضم توظيف رجالات السياسة والدين في العراق للدين والشعائر نجد محمود شُبَر يلج هذا المُعترك ليكون مُشاركاً بنقد هذا التوظيف بلوحة تشي بالكثير من الدلالات يظهر بها "الإمام الحُسين بوجه على شكل شمس راكباً حصانه الأبيض، حاملاً رايته الحمراء دلالة على أن الحرية لا تُطلب إنما تُنتزع وكل هذه دلالات على أهمية ثورة الحُسين (ع) بوصفها ثورة إنصاف وسعي لتحقيق الإصلاح، ولكن خلفية اللوحة لوحة مرورية في سهم يُشير إلى كربلاء وآخر يُشير إلى (طويريج) ووجهة الإمام عكس كلا الطريقين!!.

88 محمود شبر5

أية بلاغة أقوى من هذه البلاغة؟!، إنها (بلاغة التشكيل) والتصوير والرسم والتشكيل، فطويرج في اللوحة المرورية اشارة سيميائية مُكتنزة الدلالة، وكربلاء صارت قبلة للمُدَعين أنهم أصحاب الحُسين، ولكن البلد ينخره الفساد!! لذا نجد الإمام يتجه صوب هدفه بعيداً عن الفاسدين في السياسة والدين!.

في محاولة مُبتكرة ولا أظن أحداً قبل محمود شُبَر قدَ استخدمها في فضاء التشكيل نجد شُبَر يستخدم في أعماله التشكيلية (اللوحات المرورية) في العراق الدالة على المُدن والإشارة للتحويلات، ببلاغة تشكيلية مُبهرة، ففي لوحته (الموصل تُرحب بكم) تجد اللوحة متآكلة بعض حروفها، اللون الأسود يأكل بعض حروفها المكتوبة باللون الأبيض، وهذه ليست لوحة فقط رسمتها ريشة فنان مُحترف يترك العنان لروحه للتعبير عنها لونياً بواسطة الريشة، إنما هو فنان يكتنز من الوعي المعرفي والسياسي بما يؤكد وجهة نظرنا التي أشرنا لها، ألا وهي ربط الفن بالحياة، وربط الفن بالفكر، فهو لا يرى في الفن مُجرد تجليات صوفية رومانسية كما بدأ، إنما هو اليوم يعمل على أن يجعل من الفن رسالة ثقافية فكرية وتنويرية، بل وتغييرية وثورية.

من جماليات التشكيل عند محمود شُبَر أنه لا يدمج فقط  بين وظيفتي التشكيل (الفن) والفلسفة، إنما هو يدمج بين وظيفتي (النقد الفني) والتشكيل (الفن)، فأنت كمتلق لـ (لوحة) شُبَر لا ترى مهارة التشكيل اللوني فقط، إنما يُرغمك شُبَر أن تكون أنت من ضمن (جسد اللوحة) إن لم تكن أنت عنصراً من عناصرها، فهو لا يكتفي بالألوان تشكيلاً وتعبيراً قصدياً عن معنى، إنما هو يستخدم جملاً لغوية باللهجة العراقية (العامية) لتكتمل رسالة الفن عنده.

اللوحات المرورية علامات إشارية يخترق بها محمود شُبَر لغة التعبير الجمالي ليجعلها لغة تفكر وتأمل، وإن قيل أنه لم يكن أول فنان تشكيلي استخدم (إشارات المرور)، لكنَي أقول وبثقة أنه الأول الذي جعلها تنطق بمعانٍ مُغايرة، فهو من صيَرها (أيقونة) ليست للتذوق الجمالي فحسب، بقدر ما جعل منها (أيقونة) للدلالة على تقدم البلد في زمن، ودلالة على تراجعه في زمن (الما بعد) لا لتفضيل زمن على زمن وفق منظومة التفكير العاشقة المُتيمة بالماضي، بل لأن الحاضر (السياسي) و(الاجتماعي) بدى لنا أقل احتراماً لقيم المعرفة والجمال من الذي مضى، وإن كان الذي مضى فيه من المرارة العيش وكُره فردانية السلطة الكثير، فوجدنا في تشكيلات محمود شُبَر اللونية بمعانقتها للتعبيرية (الحروفية) ما يختصر لنا فهم مكامن التبدل والتتغيَر في وقعانا المعاصر، ولك أن تلحظ لوحته التي تظهر بها (بساطيل) الجنود العراقيين مُتهرأة.

لربما نكتشف بعض تأثير وحضور لحروفيات (شاكر حسن آل سعيد) في رسومات محمود شُبَر، ولكن التوظيف مُختلف تماماً بحكم تحول الحال وتغير الأحوال، وتبدل الموضوعات وتعاظم الصراع، فلم يستخدم محمود شاكر الحرف لزيادة الإبهار في اللوحة، وربما كان ذلك حاضراً في لوحات (آل سعيد) إنما كان استخدام الجملة داخل فضاء اللوحة لاستكمال العمل الفني (معنىً ومبنىً)، فهو استخدام قصدي لا من أجل التحشية أو التجميل بل بقصد تحقيق الهدف الذي يرومه صانعه أو مُبدعه.

(بغداد تُرحب بكم) معرض فني شارك فيه محمود شُبَر، ليُظهر به تارة وجه بغداد الجمالي حينما كانت قبلة المعرفة والعلم لتجد لوحاته الإشارية ناصعة بهية مثل وجه بغداد كما يأمل هو ونأمل نحن، وتارة أخرى يكش لنا بعلامته الإشارية وجه بغدد الرمادي ولا أقول الأسود الذي خربته الحروب، والطائفية والفساد السياسي والمالي والإداري.

بغداد تُرحب بكم تظهر في رسومات محمود شُبَر بلوحة مُستوحاة من عمل للواسطي تظهر فيها جمال الواسطي رافعة رؤوسها صارخة بمقولة تكتنز الرفض وقولة "لا" لأن مضامين الجُمل تصرخ بالرفض عبر توظيف مهاري تشكيلي للإشارة المرورية التي رسمها لنا محمود شُبَر بألوان تشي بحجم الخراب الذي مسَته أيادي السوء وأصر على بقائها أهل الفساد (أصحاب القرار) برمزية وتعبير يشي بحجم الخراب الذي تعيش فيه بغداد، فالإشارة المرورية (بغداد تُرحب بكم) لا بغداد اتضحت صورتها ولا الترحيب بدى، ليكتب محمود شُبَر مُعلَقته داخل فضاء اللوحة استكمالاً للمعنى:

مخطوطة بغداد تُرحب بكم

يحيى بن محمود الواسطي

محمود بن شاكر شُبَر

ولك أن تعرف القصد بين زمنين، زمن الواسطي وزمن شُبَر، حينما كانت بغداد عاصمة الدنيا، واليوم بغداد في ذيل الدول الأكثر فساداً وخراباً وسوء نظافة وتنكر واستهجان للجمال.

يعشق الحكايات التي تنقله للسكينة، كما يقول، ولكنه يرسم لنا بجمال التعبير بالألوان ما تخطه ريشته صور القُبح بوصفها واقع نعيش فيه، علَنا نستفيد من تشكيلاته اللونية (الحروفية) وفهم واقعنا المُتردي من أجل مُشاركته البحث عن دروب للخلاص وإصلاح ما أفسدته السياسة من خلال الفن أو الفكر، أو كلاهما معاً.

الفن خلاص كما الفلسفة، والمهمة مُضنية في (التخيل) عند الفنان، و(التعقل) عند الفيلسوف، وكلاهما في عوالم (الميتا فني) و(الميتا فلسفي) يلتقيان، ومثل هذا التوق والشوق قد يلتقي عالم "الميتا ديني" ويتداخل مع عالمي "الميتا ديني" و"الميتا فلسفي"...

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم