مقاربات فنية وحضارية

اختفاء الزمان والمكان في العمل التشكيلي

1171 شمهود 1هل ان اللوحة الفنية ممكن ان يتلاشى فيها الزمان والمكان؟ هذا الموضوع شغل كثير من المفكرين والنقاد وعدد من الفنانين الاوربيين امثال الفنان الايطالي جورجو كيريكو -1881 – حيث تزعم مدرسة فنية في بداية القرن العشرين تدعى - المدرسة الميتافيزيقية – وقد استخدم كيريكو عناصر فنية متنوعة من بقايا تماثيل اغريقية قديمة وعدد من الاشخاص حيث يقفون بصمت رهيب جوار بعض المباني التي تعطي ذلك التأثير الجنائزي للمقابر . وقد رسم كيريكو لوحة سماها – لغز الوصول- حيث يشعر المشاهد بانه يتلاشى فيها الاحساس بالزمان والمكان، كما رسم لوحة اخرى مليئة بالالغاز مثل – لغز مساء الخريف - حيث نشاهد تمثال محطم على قاعدته الى جوار بعض المباني ذات الطابع الجنائزي . وكان يهدف كيريكو من كل ذلك هو البحث عن موضوع ميتافيزيقي حيث الشعور بان ما وراء الاشكال والنماذج المرئية هناك حقيقة مطلقة . وقد مهدت هذه المدرسة الى ظهور المذهب السريالي .

الاعمال الخالدة

سجل لنا التاريخ كثير من الاعمال الخالد التي طبعت في الذاكرة الانسانية رغم مرور على بعضها عدة قرون او آلاف السنين، مثل الاهرامات وسور الصين والعشاء الرباني والموناليزا لدافنشي وجرنيكا لبيكاسو وغيرها، وهذا يشير لنا الى ان الطبيعة الانسانية واحدة في غرائزها وتذوقها وميولها وعقليتها وان العالم المرئي بما يتضمنه من صور الاشياء في تباين وان اشكالها الطبيعية انما تخفي في اعماقها اكثر مما يبدو للناظر الى سطحها .. وكان سيزان يرى بان صور الاشياء في مظاهرها السطحية ليست هي التي تكون جديرة بالاهتمام للفنان المصور وانما ما تتركه من اثر حسي في ذواتنا عندما نتأملها بعمق، حيث  تؤدي بالتالي الى كشف مضامين الاشياء والمعاني الجوهرية المستترة في اعماقها ..

و معروف ان الانسان خلق على الفطرة والتي هي القاسم المشترك بين جميع الناس وهي ثابته منذ بداية خلقه الى اليوم، وبالتالي فان الاعمال المفيدة التي تنبعث من الفطرة تبقى خالدة وجميلة، كالدفاع عن الانسانية والحق والصدق والوفاء والسلام وغيرها ... ومنذ الرسوم البدائية الضاربة في اغوار الزمن السحيق فان الفن التشكيلي في عودته الى تلك البدائية التي نشأ منها يحاول ان يستوحي منها عناصر فنية جديدة، وهو يعود اليها محملا بثقافتة المعاصرة والتي وضعت بصماتها عليه ممثلة في ذلك الشكل وعمقه الجوهري الميتافيزيقي الذي ينبئ عن حقيقة الشئ اي المعاني الخالدة . وبهذا الصدد يقول الفنان الاسباني المفاهيمي تابيس (ان اللوحة هي تاريخ)

1171 شمهود 2

عامل الزمن

(ان يوم عند ربك كالف سنة مما تعدون) ويبدو  ان المواقيت على الارض تختلف عنها في عالم الكون، ومن ناحية اخرى وحسب المعتقد الديني بان الزمان والمكان يتلاشى عند الانبياء والملائكة بمعنى انهم يرون الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد بعلم الله . والحكاية المعروفة في القرآن بانه لما خلق الله آدم امر الملائكة بالسجود له، فقالوا اتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟، وحسب بعض المفسرين بان الزمان في هذه اللحظة تلاشى وانعدم عند الملائكة وقد شاهدو المستقبل امامهم . من هنا بان الاعمال الانسانية ممكن ان تمثل التاريخ كما قال الفنان تابيس، وان تستشرق المستقبل وتكون خالدة فلا زمان لها ولا مكان لانها تخرج من الفطرة ولما كسبته من سمات تتصف بالانسانية في جميع اطوارها وامتداداتها التاريخية حيث تحمل مضامين من شأنها ان تكون فيها الفكرة متألقة في الانتاج الفني، تلك الفكرة التي توحي بحقيقة الاشياء وجواهرها، رغم ان الاساليب الادائية تختلف من زمان ومكان الى آخر، ولكن الفطرة الانسانية تبقى ثابتة بما تحمله من خير واصلاح وجمال للانسانية .

1171 شمهود 3

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم