مقاربات فنية وحضارية

تحولات خيالية.. في عالم النحت والتشكيل

تجربة الفنان التشكيلي التونسي ضو الشهيدي*

“إنّ الفنّ العظيم يدعو الإنسان دائما إلى ممارسة الحرية عن طريق المحاكاة”(ألكسندر إليوت).

مما لا شك فيه، أنّ النحّات يتفنّن في الإلتزام بواقعية الأشياء على نحو ما تبدو في الواقع وتختزلها صورة الذاكرة..

ولكن هذه الروابط التي تجتمع بها هذه الأشياء تبدو روابط لا معقولة وغرائبية، فقد يغرق النحّات في أدق تفاصيل الموضوع ولكنه يجري تعديلات على الوضع العادي للشيء.إذ يسري شيء من الرهبة والغموض في نسيج أكثر الأشياء إعتيادية.كأنّنا بالفنان يربك بهتة العالم ويبعث السؤال في هشيم المعنى المنسيّ. وفي مثل هذه النماذج لا يبدو الفن رسما لأشكال الحياة، بل يكون الفن بعثا للحياة في الأشكال بعد أن جمّدتها الحضارة وسطّحها الإستهلاك وحنّطتها الذاكرة..3515 ضو الشهيد

ولكن السؤال الذي ينبت على حواشي الواقع أثناء ولوجي العالم الإبداعي للفنان التشكيلي ضو الشهيدي: هل العمل الفني رهين لهاجس الإتقان، من حيث يصبح مجرّد إنعكاس لمراس عقلي وحسابي أساسه الفكر الهندسي المجرّد؟ أم أنّ العمل الفني لدى ضو الشهيدي** ثري بمعالم الحياة، وخصوصا إذا إنطلقنا من ظاهرة الحركية التي تميّز عمقه الإنساني المتوتر وهو ينكشف تدريجيا من خلا ل منحوتاته الخلاّبة..

قد لا أجامل إذا قلت أن هاجس الإتقان والصنعة لدى-ضـو-ليس أمرا عارضا، بل هو ظاهرة من الأهميّة بمكان وجديرة بالملاحظة، خصوصا في مثل هذه المرحلة الراهنة من تاريخ الفن، حيث تغلب على العملية الإبداعية ظواهر الإرتجال والتلقائية لدى العديد من الفنانين في العالم بإسم الفن واللاّعقلانية.. في منحوتات المبدع ضو الشهيدي، وهو أحد المعاصرين البارزين في فن النحت، تتباين الأشكال والأجسام والأحجام، كما يتعدّد أفق التعبير والأخيلة والمنطلقات الفكرية والفلسفية، ولكن تبقى نظرية واحدة تربط بين إبداعاته وقطعه النحتية مجتمعة، وهي لغة الفراغ والدوائر التي يقوم عليها اتجاهه وينسج منها عالمه الخاص جدا ويستلهم بفضلها أفكاره، المادي منها والإنساني والسيكولوجي، فهو يرى أن كل الأشياء مردها الأساسي المادة بتصنيفاتها المختلفة وما نتج عنها، سواء بالفن أو غيره، هو ظلال لتلك المادة القابلة للتطويع والتشكيل فلا يوجد شيء في الطبيعة غير قابل للتشكيل، هكذا يمكن قراءة واستنطاق القطع النحتية للفنان التشكيلي ضو الشهيدي في ضوء فلسفته لمعارضه المتنوعة، التي حوّل فيها الفراغ والدوائر إلى حوار وسجال مفتوح يسمح بتبادل وجهات النظر بين القطع النحتية والمتلقي، بإعتبار أن اللغة العقلية حاضرة والحوار ممتد لوجود منطق كوني يحكم عملية التواصل ويوفّر المفردات المطلوبة للتفاهم وترجمة كل ما هو صلب وجامد وإحالته إلى صور وتابلوهات غنية بالرموز وقادرة على فك طلاسم الكائنات الصخرية، التي هي أكثر بلاغة مما هو ناطق، حيث كل الشروط المطلوبة للتفاهم بين الطبيعة والإنسان متوافرة طالما وجدت السبل لإستنطاق المواد الصلبة المادة الخام للإبداع المنحوت.3516 ضو الشهيد

وتغلب خصوصية الدائرة والفراغ على معظم القطع المبتكرة لدى الفنان العصامي-ضو الشهيدي-النازع في كثير مما أبدعه إلى فكرة الطيران والنزول بها مجرد خيال إلى واقع حي قابل للتطبيق، فالطيران إن يحدث معنويا في أوقات النشوة والفرح الشديد فهو إذن متحقق على مستوى الخيال، ولا مانع من تصويره ليكون محاكاة خيالية لخيال أخر.

ويلعب - ضو الشهيدي- في محاكاته هذه على الطاقة الافتراضية في الإنسان التي تؤهله للتحليق بعيدا خارج مداره الطبيعي فتصله بالعالم الميتافيزيقي "عالم ما وراء الطبيعة” فيعيش بروحه حيث يشاء بينما يبقى جسده مسجونا في عالمه الأصلي، وهي سباحة في الخيال أشبه بالسباحة في أحلام اليقظة غير الخاضعة لأي منتهيات.وتأخذ معظم الأشكال الدالة على الحركة منحنيات و تلافيف يفهم منها أنها سرعة دوران الإنسان حول نفسه، فهو أينما ذهب يصل إلى نقطة البداية، أي أنّ العالم على اتساعه ضيق للغاية، وللتخلّص من هذا الشعور يلجأ الإنسان إلى الخيال وأحلام اليقظة لتعويض المساحة المفتقدة لطموحه بمساحات إضافية يصنعها هو بشكل هلامي، إذ لا حاجة له بالعالم الواقعي طالما هو قادر على الهروب إلى البراح في دنياه الافتراضية.إرهاصات نفسية ودوائر متداخلة من الوعي واللاوعي تتبدى في منحوتات ضو الشهيدي، يمكن قراءتها بأكثر من وجه ومستويات مختلفة من التلقي والاستيعاب، لأنها في النهاية حالة فنية افتراضية منطلقها الخيال المحض وقوامها الموهبة والمرجعية الفكرية والثقافية للمبدع الذي يقف في المنطقة الوسطى بين المعقول واللامعقول على امتداد الخطوط البيانية لموهبته.

على سبيل الخاتمة:

إنّ فن- ضــو الشهيدي- هو توق متواصل من أجل تحرير الشكل من وضعه الجاهز ومرجعيته المعطاة.فهو مسار مستمر لتفعيل الأشياء وإثراء آلياتها الإدراكية وذلك من داخل حوار حيّ بين الإنسان والمادة، بين الإنسان والمكان الممتد.لذا، لا عجب أن نرى-هذا الفنان-يعمل في منحته بتعبّد وإخلاص بعيدا عن ضجيج المعارض والأسواق، معتبرا في ذات الآن فعل النحت مشفى للذات، الذهن والجسد، وغاية منشودة لكلّ فنّان رفيع الوجدان، مشرئب العنق إلى الإنعتاق، البهاء، العطاء، والجمال..

ومن هنا نفهم-أوّلا وأخيرا-لماذا يجنح- ضــو-للصّمت ويعتبره في بعض الأحيان أفصح من الكلام..

نظرات ثاقبة تعرف طريقها نحو الوجدان لتسقط إنفعالاته على قطع الخشب الصغيرة الخاضعة لجبروت أصابعه القوية..مشاعر الفخر تنبض من كلّ شبر في المكان، فهذا الفنان على وعي تام بأنّه يعتبر من النحّاتين القلائل الذين تمكنوا من تطوير مهاراتهم وقدراتهم في هذه المهنة.نجاح شخصي نابع من تميّز الرجل في توجّهاته الفنية، والتي تلامس الثقافة التونسية في كامل تجلّياتها وفي مختلف الحقب التاريخية، لترسمها وتجسّدها في تلك المنحوتات الصغيرة، ولتنقلها، في النهاية، للأجيال القادمة.وليس مغالاة، ولا مبالغات إذا أعتبرنا أنّ النحات ضو الشهيدي، حقّق حضوره وبتميز وبراعة ضمن مسيرة النحت التونسي المعاصر، واضعاً لنفسه صفحة مستقلة في سفر الفن.وتلك هي خلاصة ما يطمح له كل فنان.أخيراُ، لقد استطاع –ضو-سبر أغوار فنية بعيدة تدلّ على عشق وحب ورؤيا وايمان وإبداع فني مليء بالحس الإنساني والذوق الرفيع فوصل الماضي بالحاضر، وأضاء على المستقبل من خلال شعلة الأمل التي تتجلى في معظم أعماله .

*ملحوظة: في نحت ضو الشهيدي تشكيل فنّي تتخلّله روح فنيّة تبحث عن مستقرّ لها في شكل ما..هو فنّ تصويري أكثر منه تجريدي، هكذا يراه النحات ضو الشهيدي، مشيرا إلى أنّه يسعى إلى الإنفتاح على العالم، وذلك من خلال الفنّ الحديث، حتى أنّ أعماله الفنية تلقى الكثير من التقدير والقبول لدى جزء كبير من الناس على إختلاف إنتماءاتهم الإجتماعية.

***

محمد المحسن - ناقد تونسي

.......................

* ضو الشهيدي: فنان تشكيلي من الجنوب التونسي وتحديدا من جهة تطاوين، أقام العديد من المعارض بمختلف ولايات الجمهورية التونسية، ومازال ينحت دربه الإبداعي على الصخر بالأظافر..يحدوه أمل في أن -تتكلّم-منحوتاته، بدلا عنه.. 

 

في المثقف اليوم