تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

مقاربات فنية وحضارية

جمال العتابي: الحروفية في الفن التشكيلي.. خصوصية التجربة وتكوين الرمز

تحوّل الحرف العربي الى عنصر مهم في العمل التشكيلي، حتى أصبح ظاهرة يلجأ اليها العديد من الرسامين والنحاتين  على حد سواء كصيغة أساسية في تجاربهم الفنية، واذا أردنا أن نستعرض أسماء الفنانين التشكيليين من العراقيين والعرب الذين خاضوا التجربة في توظيف الحرف العربي، فاننا نقف أمام اسماء فنانين عدّة من جيل الرواد  كانوا في مقدمة من أسهم في تأصيل هذه التجربة واغنائها من قبل فناني الأجيال التالية، نذكر على سبيل المثال: جميل حمودي، شاكر حسن آل سعيد، فائق حسن، قتيبة الشيخ نوري، محمد غني حكمت، مديحة عمر، ضياء العزاوي، رافع الناصري، تركي حسين، محمد سعيد الصگار.

ولغرض تأكيد مشروعية هذا الاتجاه، وجدنا من المفيد أن نلقي الضوء على الأبعاد الفنية والجمالية التي تحدد أهمية الحرف في العمل التشكيلي، والمنطلقات الفكرية والتاريخية التي أسهمت في إنتشار الظاهرة؟

من الصعب النظر الى تجربة الفنانين في هذه الميدان على انها محاولات تجريب متسرعة لخلق فن عربي جديد من دون البحث في الأصول التاريخية لهذا الفن. فمنذ ظهوره في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر القديمة، كانت التماثيل والصور قد ضمّت كتابات مسمارية أو هيروغليفية، وكانت هذه الكتابات بحسب نظامها الفني أداة جمالية لابد منها في تقويم العمل الفني وتقويمه واكماله، ومع ان هذه الكتابات كانت تحمل دلالات معنوية مفيدة، فان وجودها كان له تأثير فني مهم بطابعه الزخرفي، ثم تأكيده الطابع الابداعي في العمل الفني بما يميزه عن الأصل.

ومع أن فنون الصين واليابان والفنون البيزنطية فيما بعد، قد تبنت الحرف والكتابة في الفن التشكيلي، فان الخط العربي تمتع في الدولة العربية - الاسلامية باهتمام واسع، وأصبح الفن الأكثر تعبيرًا عن الجمالية " الإسلامية " المتمثلة في الاعمال التي زينت المنابر والأبواب، وجدران وواجهات المساجد والقصور، ونقشت أو حفرت على ألواح (القاشاني)، الى جانب الزخارف على الخشب والحجر. وبلغ الفن الحروفي أوجّه في العمارة العباسية، والفن المغربي الاندلسي، وفي رسوم الأحجيات والتعاويذ والسحر والرقى.

لقد أصبحت الكتابة العربية من أهم العناصر الزخرفية في الفن العربي الاسلامي، بل ان بعض المخطوطات أصبحت بما حفلت به من تنميق في الخط والتلوين، قطعاً فنية كاملة يتناقلها الناس والهواة وتقتنيها المتاحف العالمية لقيمتها الفنية العالية، ثم ان المصاحف لقيمته القدسية كانت حافلة بأروع الخطوط والنقوش والألوان كمظهر للتكريم والتمييز. وكانت المخطوطات الفنية مظهراً من مظاهر قوة السلطة ورقيها الحضاري، يتجلى ذلك في اهتمام الملوك والسلاطين بهذا الفن الرفيع، ولما يتضمنه الخط الجميل من معنى فكري أو أدبي أو قدسي. شأنه في ذلك شأن الأعمال الفنية التي تعنى بالشكل والمضمون كعنصرين أساسيين لعلم الجمال . وهذا هو شأن الكتابات القرآنية والشعرية التي نفذت بخطوط نمطية جميلة، وهي ضمن هذه الحدود تدخل حيز الجمال، جمال التعبير والتنميق الذي يتطلب مهارات وقدرات عالية.

ان نظرة الى الخط الجميل من خلال مفهوم الفن، يحتل الشكل المرتبة الأولى، أما المضمون فمتروك للتقويم الفكري والأدبي، وهو ينفي صفة التجريد المطلق التي استحوذت على النقش العربي، ومع ذلك فان جماعة (البعد الواحد) وخطابها: الفن يستلهم الحرف ترى أن الحرف العربي يمثل مدى عناية الفن المعاصر بالمضمون الفني كقيمة وليس كمهارة…انه (قيمة) بمعنى كونه (شكلاً - مضمونياً).

ان مهمة الفنان إذن هي أن يتدخل في معالجة الشكل معالجة ابداعية، بحرية تمتد من مراعاة قواعد الخط إلى ممارسة التشكيل الحر.

ان القيمة التي يتضمنها الحرف العربي، وهي ما نسميه بالبعد الروحي والحضاري، هو المخزون التراثي للكلام المكتوب الذي تحدث عنه الفلاسفة والصوفيون،إذ يبتدىء هذا البعد بالحرف قبل الكلمة،  وللحروف جميعا أبعادها الخاصة، وبعضها ما يميزه عن الآخر : الألف، والواو، والحاء، والهاء، والميم.

ومن المفيد أن نشير الى ظهور الخط العربي كعنصر فني منذ عهد بعيد في أعمال الفنانين في العالم، والعمارة الأوربية، وفي بعض الكنائس كما هو واضح في النحت البرونزي  البارز على باب كنيسة القديس بطرس، ثم دخلت هذه المحاولات في صميم الاتجاهات الفنية الاوربية منذ بداية القرن الماضي، وفي مقدمة الفنانين العالميين (بول كلي) الذي حاول فعلاً تعلم الكتابة العربية، رآها سهلة نظراً لانه كان أعسراً يكتب باليد اليسرى، وترك (كلي) لوحات عديدة بعد زيارته الى تونس تضمنت كتابات عربية، بل انه يعد أول من استعمل الحرف اللاتيني في الرسم . ويأتي محمود حماد، وأدهم اسماعيل، من سورية، ووجيه نحلة، ورفيق شرف من لبنان، في مقدمة الفنانين العرب الذين وظفوا الحرف في الرسم.

ان هذا الاتجاه الذي ظهر غالباً في أعمال الرسامين التجريديين خلق ظروفاً مناسبة لايجاد حلول لمشكلة التجريد الحديث، واذا كان من الفنانين من استعمل الحرف اللاتيني مثل براك وبيكاسو في ملصقاتهما، فان للحرف العربي دلالات قد لا يكون لها نظير في لغات أخرى، هذه الدلالات الصوفية والرمزية كثيراً ما تحدث عنها الفلاسفة المسلمون. وللفنان شاكر حسن آل سعيد نظريته الخاصة في البعد الواحد، موضحاً ان الحرف انما يستعمل (كقيمة تشكيلية بحتة)، وليس (كبناء موضوعي مجرد)، والقصد هو الكشف هو الكشف عن أهمية الحرف (كبعد)، وليس كموضوع، ذلك ان القوام الحقيقي للحرف هو الحركة والاتجاه، فالبعد الواحد كفكرة يقصد به اتخاذ الحرف كنقطة أنطلاق للوصول الى معنى الحرف كقيمة شكلية.

على العموم  ان هذا الفن يرتبط بالذائقة برباط عميق وقديم، وهو قادر أن يرتفع بها الى مستوى التشكيلات الابداعية الجميلة، التي أكدت حضورها وقبولها لما تتميز به من اسلوبية جديدة وتقنيات تجريبية حديثة، فضلاً عن ايقاعات اللون والهندسة بمستويات بصرية معبرة تجمع بين المعاصرة الفنية والتفرد الروحاني.

بلا شك، اسهم كل من  ضياء العزاوي ورافع الناصري وجودت حسيب ومحمد الصگار وجميل حمودي، وفنانين  من جيل آخر في توظيف الحرف العربي بطاقته الجمالية والحسية، كما في تجارب الفنان ضياء حسن الاعرجي، ومرتضى الجصاني.

***

جمال العتابي

في المثقف اليوم