روافد أدبية

الصفصافة الباكية / أوس حسن

وجلست بجانبه كارولين تعطر صمت ذكرياته بباقةٍ من أزهار النرجس والجوري

إلامَ تنظر... ؟؟ قالت كارولين باستغرابٍ ودهشة

إدوارد : انظري إلى السماء فتلك النجمة كانت دليلاًً للمسافرين والعابرين إلى موطن الشمس الأبدي !!

كارولين :- مالذي تعنيه بموطن الشمس الأبدي

إدوارد : إنه موطن اليقين الثابت للأحلام

كارولين :- أفصحْ عما تقول

إدوارد :- لقد أيقنت أن للوهم صدقا ً جميلا ًفي بعض ثناياه

وأن للخيالِ حقيقة ً كبرى في مدن الفلاسفة والشعراء

كارولين :- أعطني مفتاح أسرارك وحطم أسوار صمتك السجين

إدوارد :-لقد ارتديت وشاحَ القمر باحثا ً عن أول أسطورةٍ في المعنى

- فامتطيت صهوة الريح ودخلت مدناً من السحاب .. تتبعت آثار أقدامي عندما مشيتُ يوماً فوق الماء أبصرت ظلي واضحاً في عمق الظلام .. جردت سيفي من غمده وحاربت فرسانا ً من شبح الموت وجيوشا ً من المجهول كانت تدور حول فنائي .... فأعدت نطفة العدم المنسية في عالم اللاشيء الى رحم الوجود لقد كنت فيلسوفا ً وحكيما ً وعالما ًبكل شيء في عالمي ومملكتي

وعندما عدت من رحلتي .... أحسست أني فقدت شيئا غائبا ً

يعجز لسان الفلاسفة والشعراء عن وصفه

كارولين :- مالذي فقدته بعدما كنت باسلا ًومغوارا ً و أميرا ًمتوجا ً لتلك البلاد بكل ما تعنيه الكلمة من طهرٍ وصفاءٍ لمعاني القلوب

إدوارد:- إنه شيءٌ غير ملموسٍ ٍ ولا محسوس وكأنه سكرة ٌمن الموت تصيبني فيتوقف الزمنُ لبرهةٍ عندها تصبح حركة الحياة بطيئةًً وسرعة الوقتِ محددة فلا أسمع من نداء الناس إلا الصدى ولا أرى من وجوههم إلا طيفا ًمتراقصا ً في الأفق فيضيع كياني ويصبح ليس لي وتغادر روحي إلى اللازمان واللامكان

كارولين :- لم أفهم شيئا مما قلته أهي أُحجية ٌ أم لغزٌ نتسلى به هذا المساء ؟؟

إدوارد :- أترين تلك النجمة َ الحزينة يا كارولين ؟؟... تلك النجمة ُ أطفأت سرها الليلي على أوتار فجرها الأخير ... وكتبت اسمي فوق جبين الماء ورقصته الأخيرة فوق مسرح الصدى... ....أما أنا كموج غيمٍ يمتطي صهوة السراب... كصقر ٍ جريحٍ تحاصره الهزيمة ما زال يألفني الغياب ويسكنني الرحيل إلى سكينةٍ في النور وآخر أبدية ٍ في المدى

كارولين :- لا خيارَ أمامي إنه إما الجنون أو الموت

إدوارد :- لا أدري ربما إنه حزنٌ عميقٌ على نفسي التي بدأت أفقدها

إنني أشتاق إلى نفسي بين الحين والآخر بالأمس علقت صورتي القديمة قبل خمسة أعوام وبدأتُ أبكي عليها

هل رأيتِ شخصا ً يشتاق لنفسه ويبكي عليها ....ها ها ها

كارولين :- هل عُدتَ إلى الهذيان يا إدوارد ؟؟؟

إدوارد:- ليس الغموضُ في طبعي يا كارولين أردتكِ أن تفهميني ...فقط ... افهميني أرجوك .... وساد الوجومُ وجهَ إدوارد وانهمر الدمع من عينيه كشلال ٍ في إحدى الغابات النائية والمنسية

كارولين وقد ترقرقَ الدمعُ في عينيها تَلَمَسَتْ وجنتيه ومَسَحَتْ دموعَهُ بأناملها الملساءَ الرقيقة وقالت له :-

مالي أرى حزنك وقد أصبح كغابات ٍ من الثلج غطتْ قمم الجبال ومالي أرى دمعك كلؤلؤ ٍتناثر من سحابة ثكلى !!

قل لي شيئا ً عن الحب والهوى وخذني خلف هذا الكون إلى ربيع ٍ يبدأ من أقاصي الصمت الأعمق سكونا ً ....انساب صوتها العذبُ عبرَ الظلام ِ عابقا ً... نديا ً كارتعاشة الضوء على نوافذ المساء

إدوارد :- لقد قالوا قديما ً إن الأرضَ عندما تدور حول الشمس كانت تُخلدُ العاشقين والأبطال في الأزمان الغابرة وقالوا أيضاً ً .. إن الحب والهوى هو جنونُ القمرِ وعشقه لضياء الشمس

وهو ِسحرُ الندى في غفوته على أجنحة الطيور والفراشات

وهو تحليقٌ للقلوبِ فوق عرش السحاب

وهو أيضاً ...........

كانت كارولين قد أطبقت أجفانها ومالت برأسها على كتف إدوارد فكان رمشها الأسود الطويل يتوج أجفانها ويزين محياها

واستدارة وجها الابيض كقمرٍ ناعس ٍ فوق الشواطئ وبين الأشجار

فبدت وكأنها لوحة ٌ فنية ٌ نادرة الوجود

كأنها آلهة الحب ((فينوس)) التي طالما تغنى بها إدوارد في أشعاره

عندها نهض إدوارد وقال :- يامن تنام حدائق البنفسج في عينيك وتتوسد أهدابكِ الربيعية الصامتة بهدوءٍ من عبق الوجود وسحر التكوين الأزلي .... لقد عرفت أن للحزن أنهارا ً تجري مجرى الدماء في عروق البشر وأن للجبالِ صبرا ً على احتمال الظلم ومرارة الألم

لقد سافرت في جنون التاريخ أبحث عنكِ... يا كارولين

أبحث عن ذاتي المفقودة فيكِ فأنت الشيء الوحيد الملموس والمحسوس في حياتي أنتِ جنتي وعذابي ... أنتِ شكي ويقيني

فدعيني ألملم ما تكسر من مرآة ذاتي على قدكِ الممشوق

دعيني أنتفض من عدمي وفنائي وأشعر أن للحياة وجودا ً واحداً هو انتِ ....!!

وساد الصمتُ لبرهةٍ تخللها هبوب خفيف للريح داعب أوراق الصفصافة وخصلات من شعر كارولين المتناثر على كتف إدوارد

فابتسمت كارولين وعضت بأسنانها على أطراف شفتيها وداعبت يداها وجه إدوارد وشفتيه .... فقال إدوارد: آهٍ لو تدرين يا كارولين

لقد أدركت عمق البحار في كنهها وأسرار السماء في غيبها

لكني جهلت سرَ تلك النظرات الخفية فيكِ ........لذا فقد خلفت ورائي كل ما اقترفت يداي من أمجادٍ وبطولات وعشقتُ رحيقَ موتي المصلوب بين شفتيكِ ....!!

وعلى أمسيةٍ من غناء القمر ورقص النجوم في أحضان الليل وعلى إيقاع معزوفة خالدة كانت تحرسهما من ضباب الفجر ووحوش البراري .. قبل إدوارد كارولين وعانقها ثم مضيا بعيداً ... بعيدا... ومازال طيفهما المتراقص في الأفق كل ليلةٍ يوحد ترنيمة العشق الأزلي لحظة ولادته الاولى .... وغادرا تلك الصفصافة دون عودةٍ إليها

ربما إلى موطن الشمس الأبدي الذي تحدث عنه ادوارد

وربما إلى موطن الربيع الذي كانت تحن إليه تلك الصفصافة

لكنها ظلت تبكي وتذرف الدموع على كل لقاءٍ وفراق وعلى كل من حَط رحالَهُ مصادفةً ًلكي يروي سيرته وقصته ... تحت ظلالها...!!          

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2102 الخميس  26 / 04 / 2012)

    

في نصوص اليوم