اخترنا لكم

هل باللطم والتطبير يستطيع المرء تجسيد عاشوراء؟!

رمزا لصدق العقيدة والمبدأ ومثلا للتضحية والفذاء. لقد مارس الحسين قدره في الشهادة في ثورته ضد يزيد ابن معاوية فانتصر يزيد بالقتل وانتصر الحسين بالشهادة. وهذا هو معنى الصراع بين الخير والشر.

 

لقد ارتبطت ثورة الحسين بالتضحية والشهادة وكذلك بالحزن المستديم ولذلك بقيت حية في ذاكرة المسلمين حتى هذه الايام وانعكست في أدب وشعر وشعائر وطقوس ورموز عديدة كزيارة الامام الحسين يوم عاشوراء ومجالس العزاء والمواكب الحسينية ومسرح عاشوراء (الشبيه) وغيرها من الشعائر والطقوس.

 

واذا كانت طقوس العزاء الحسيني، كرؤية دينية اساسا، ربطت الشيعة بتراجيديا كربلاء ومثلت قيما ورموزا للتعبير عن الذات والحفاظ عليها وحمايتها من التراخي والضياع امام ضربات موجعة عبر التاريخ، خصوصا عندما تكون الذات ضعيفة ومهددة ولا تريد التنازل عن هويتها فانها تحتمي بعاشوراء وتعبر عنها بطقوس ومراسيم ورموز للمحافظة على ذاتها واستمرارها وتتحول الى شكل من اشكال الرفض والاحتجاج وضرب من ضروب المقاومة الخفية او الملجومة التي اضطر البعض على كبتها بسبب المنع والمراقبة المستمرة عليها ضد الرؤية الآيديولوجية-الدينية- الرسمية التي كانت سببا في تكوينها وانتشارها، وهي بهذا" ثقافة تحتية" لا يمكن التقليل من شأنها ومن نتائجها لكونها آلية دفاع سايكولوجية للتخفيف عن ثقل المعاناة التي تثقل كاهل الانسان المحاصر حين تتحول الى عزاء وسلوى ووعد وأمل بالشفاعة والانقاذ.

 

غير ان المشكلة لاتقف عند هذا الحد، فعندما تطرح هذه الشعائر والطقوس اليوم مفرغة من مضامينها الثورية و ترفع الى مستوى العقيدة والتقديس التي لا يمكن المساس بها او نقدها، وعندما يستمر البعض في استخدامها كوسائل للجلد الذاتي ويتعدى ذلك الى ابتداع وسائل جديدة من التعذيب الجسدي مع قصص واساطير وخرافات مبالغ فيها او استغلالها لاغرض اقتصادية واهداف سياسية، فان ذلك يتعدى اهدافها الدينية والاجتماعية والسياسية وكذلك الذوق والعقل والمنطق السليم، وخاصة بعد ان تغيرت المعادلة لصالح الشيعة في العراق اليوم ولم تعد هناك رؤية آيديولوجية- دينية- رسمية ضدها.

 

لقد لاحظ الجميع انه خلال السنوات التي تلت سقوط النظام السابق في العراق عام 2003 بدأت ملايين من الشيعة تزحف سنويا نحو كربلاء للمشاركة في طقوس العزاء الحسيني في عاشوراء، ومن الممكن تبرير ذلك بحرمانهم من ممارسة تلك الطقوس سنين طويلة وهو ما ساعد على انتعاشها، غير ان استفحال الظواهر السلبية الضارة والمقززة، كالتطبير بالقامات والسيوف وادماء الرؤوس والضرب بالزناجيل على الظهور وما يرتبط بهما من بدع واساطير وخرافات لا تلتزم بالحقائق التاريخية ولا بالوقائع العلمية والمنطقية التزاما دقيقا، بل تعتمد على احاديث تاريخية غير موثقة وقصصا واساطير مملوءة بالبدع والخرافات والاباطيل. ينقلها "قراء" و"وعاظ سلاطين" يدعون التفقه بالدين ومعرفة التاريخ والحديث الاسلامي ولكنهم اميون حضاريا لا يبالون باقوال الفقهاء المنورين ولا بكتب التاريخ المعتبرة ويسردون قصصا واساطير وترهات مملوؤة بالقصص والخرافات الخيالية ويبررون ذلك بكونها تخدم الشعائر الحسينية وبالتالي خدمة أهل بيت الرسول ونشر افكارهم ومبادئهم وتقديم الولاء لهم وكذلك مواساتهم لما لاقوه من ظلم وجور.

 

ومن الضروري الانتباه الى ما يقومون به من تشويه للنصوص التاريخية الموثقة والاحاديث الشريفة عند قيام قراء المراثي الحسينية بتحريف بعض القصص والاساطير والحوادث التاريخية ونقلها من كتب "شعبية"،مثل كتاب "ينابيع المودة" للقندوسي وكتاب "الصواعق المحرقة" لابن حجر الهيثمي وغيرها التي تتناقض مع المنطق العلمي الحديث. والأمثلة على ذلك كثيرة منها ان بعض قراء التعزية يربطون بين ظهورحمرة الشفق في السماء وبين يوم مقتل الامام الحسين في كربلاء. فحمرة الشفق التي تظهر في السماء بعد كل غروب وقبل كل شروق للشمس لم تكن موجودة قبل مقتل الامام الحسين. وهذه الاسطورة، في الحقيقة، محرفة عن رواية ذكرها العلامة القمي تقول:" في كل يوم يرى المرء فيها السماء حمراء مثل الدم القاني او الشمس في الأفق مثل العباءة الحمراء ينبغي علينا ان نتذكر الامام الحسين".

 

(انظر:(A.Mez,Die Renasissance des Islsm,Heidelberg 1968

 

 وهناك خرافات خيالية كثيرة ينقلها القراء عن مشاركة الحيوانات في العزاء الحسيني منها ان اسدا كان يحضر عزاء الحسين يوم عاشوراء وكان يبكي ويلطم وتنهمر الدموع من عينيه وينثر التراب على رأسه من الحزن والاسى مواساة لأهل بيت الرسول وغيرها من القصص والخرافات.( انظر عبد الحسين دست غيب، القصص العجيبة، بيروت 1990 ص 18 ومابعدها).

 

ومن الخرافات والاباطيل التي تنطلي على العامة من الناس ما يسرده عبد الحميد المهاجر من قصص وخرافات واحلام وهمية. ففي خطب له مسجلة صوتيا يقول فيها: "يوم مقتل الحسين مطرت السماء دما ثلاثة ايام". وفي خطبة اخرى يقول بأنه " كلم السيدة زينب عندما كان في مقامها في دمشق وقال لها وباللغة الانكليزية: من أنت، فاجابته: كربلاء..كربلاء..! وفي خطبة ثالثة يقول فيها " لا تسمعوا من يقول لكم ان التطبير حرام لانه ليس فيه ضرر". والمصيبة أنهم يصدقوه بوعي أو بدونه.

 

وبالرغم من ان التطبير بالقامات والسيوف والضرب بالزناجيل وغيرها من وسائل التعذيب الذاتي التي تجلب الضرر والأذى والألم جسديا ونفسيا واجتماعيا، فانها بدع دخيلة ولم تكن معروفة في العراق والعالم العربي حتى نهاية القرن التاسع عشر. وهناك وثائق تايخية عديدة تؤكد على ان أول استخدام للضرب بالقامات حدث في النجف عام 1919 وكانت تمارس من قبل بعض الحجاج الذين يقدمون من أذربيجان التركية لزيارة الامام الحسين في كربلاء وزيارة الامام على في النجف عند عودتهم من الحج من مكة المكرمة. وكانت تلك الطقوس تجري على نطاق ضيق جدا وتشمل زيارة كربلاء يوم عاشوراء وترافقها مجالس ومواكب عزاء حسينية و"تشابيه" تمثل فيها واقعة الطف بكربلاء. أما طقوس الزناجيل فتعود في أصولها الى الهند وانتقلت الى العراق مع الجالية الهندية التي استقرت في البصرة وكربلاء والكاظمية في النصف الاول من القرن التاسع عشر.

 

(انظر: ابراهيم الحيدري، تراجيديا كربلاء-سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، بيروت 1999، ص 456 وما بعدها)

 

والحال اثار ضرب الرؤوس بالقامات والسيوف والظهور بالسلاسل الحديدية وكذلك القصص والاساطير والخرافات المبتدعة انتباه علماء الدين المنورين والمصلحين الاجتماعيين والمثقفين العقلانيين وانتقاداتهم لما فيها من اضرار مادية ومعنوية واجتماعية ونفسية واستسلاما للتيار الشعبي وعدم اتخاذ موقف موحد وصارم من قبل المرجعيات الدينية والوقوف ضدها، مما أدى الى تطورها واستفحالها بشكل غير سليم.

 

وكان عدد من العلماء والمجتهدين امثال السيد هبة الدين الشهرستاني واليد محسن الأمين والسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم قد اصدروا فتاوى تحرم او تنتقد بشدة مثل هذه الممارسات الضارة كالتطبير وضرب الزناجيل وغيرها في محاولة لتنقية طقوس عاشوراء مما حل بها من ممارسات شائنة.كما انتقدها مفكرون وعلماء اجتماع امثال جعفر الخليلي وعلى الوردي وهادي العلوي وغيرهم. وبالرغم من كل ذلك لم يصدر حتى اليوم اجماع على تحريمها ولا على جوازها من قبل المجتهدين، وربما يعود ذلك الى عدم الوعي باضرارها وعيا عميقا، أو التخوف من اثارة العامة ضدهم او استغلالها لاغراض خاصة. ولذلك على المرجعيات الدينية اليوم ان تتصدى لمثل هذه الطقوس الضارة وان تتخذ موقفا واضحا منها.

 

(انظر ابراهيم الحيدري، عاشوراء في العراق: دراسة لطقس العزاء الحسيني، كتاب المسبار،" شيعة العراق"،الامارات العربية المتحدة 2007، ص 206 وما بعدها)

 

سوسيولوجيا من الممكن ان تتعرض أية ممارسة طقوسية للاستغلال والتشويه، رغم ما تمتلك من صمامات أمان داخلية احيانا، وخاصة في فترات المحن والقلق والاضطراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وان تتحول الى وسائل سيطرة على الجمهور واثارة عواطفه الأكثر بدائية وابعاده عن قضاياه المصيرية. لان هذه الطقوس تحيط نفسها دوما بطابع عقائدي يجعلها ضمن المقدسات التي يجب الايمان بها دون مناقشة، حتى لو كان بعضها بعيد عن روح الاسلام، وحيث يتحول التساؤل عنها والتشكيك بها ومناقشتها أو نقدها الى تشكيك في العقيدة نفسها. وهو ما يؤدي الى تعطيل الفكر الاجتهادي النقدي الفاحص واصطناع اساليب دفاعية واهية للتصدي لمن يقف ضدها ويوجه اي نقد اليها.

 

ومن الملاحظ اليوم ان هناك حماس ووجد كبير يبديه بعض السياسيين الشيعة نحو الطقوس الدينية كزيارة العتبات المقدسة والمشاركة في العزاء والمواكب الحسينية والتسابق لزيارة المراجع الدينية وغيرها. ومن الواضح ان هناك دوافع سياسية وراء هذا الوجد والحماس الجديد، الهدف منه واضح ايضا وهو تعبئة الجمهور"الشيعي" قبل الانتخابات وجعله "طائفيا" وبما يخدم اهدافهم ومصالحم واجنداتهم السياسية.

 

ومن هذا المنطلق السوسيولوجي نحاول توضيح حقيقة اجتماعية هامة هي ان "خطاب" العزاء الحسيني، أو جزء منه على أقل تقدير، ما زال موجها حتى اليوم نحو"الذات" و"النحن" في آن، للدفاع عنها أو معاقبتها وجلدها او الهروب منها. لذا يكون من الضروري ان يقف المرء وقفة ترو من حقيقة ومغزى ثورة الامام الحسين وفلسفتها الدينية والاجتماعية، وكذلك من ابعادها الفكرية والسياسية، وليس كما تطرح اليوم في بعض اشكالها الطقوسية مفرغة من كثير من مضامينها الاجتماعية ذات الومضات الثورية وخالية من أية رؤية نقدية فاحصة لما يطرح من ممارسات طقوسية بعيدة عن روح الاسلام وتسامحه، من اهدافها اثارة العواطف الملتهبة بالحماس أكثر من تحريك النفوس والعقول والافكار وتنويرها، وتنقية" عاشوراء" مما حل به من شوائب وما دخل اليه من ترهات بعيدة عن روحه واهدافه.

 

والمسؤولية تقع بالدرجة الأولى على علماء الدين، وخاصة المرجعيات الدينية، في تحويل طقوس العزاء الحسيني الى تظاهرات فنية وثقافية ومهرجانات حضارية تعكس المباديء الرفيعة التي استشهد من اجلها الامام الحسين، خصوصا بعد تزايد "التظاهر" اوالمظاهر الشعبية "المفتعلة" الزائدة عن اللزوم من الزيارات المليونية في عاشوراء ويوم الاربعين وغيرها، التي تتوقف فيها الدوائر والمؤسسات عن العمل اياما عديدة وتهدر فيها أيام عمل وانتاج وتبذر فيها مئات الملايين التي من المفروض ان توظف في مجالات نافعة اخرى، في وقت تزيد فيه نسبة البطالة والبطالة المقنعة الى اكثر من 35%، ويحتاج العراق الى مدارس ومستشفيات وأدوية ودور رعاية للكبار والصغار والمعوقين، مثلما يحتاج الى ماء وكهرباء واحذية لآلاف الاطفال الحفاة، وفيه حوالي اربعة ملايين مهجر ومهاجر وملايين من الاطفال المشردين واليتامى والارامل والمقعدين وغيرهم من البؤوساء والمساكين والمشردين.

 

اقول.. ان نظرة موضوعية عقلانية ونقدية الى ما يجري اليوم من مبالغات واستغلال للشعائر والطقوس الحسينية تضع امام الجميع، وبخاصة المرجعيات الدينية، مسؤولية كبيرة في الوقوف بحزم امام محاولات انحراف مراسيم العزاء الحسيني عن اهدافها النبيلة، واستغلالها من قبل الجهلاء ووعاظ السلاطين والمرتزقة و"السوارية" ومحاولات تشويهها والانجراف وراء المد الشعبي(العامي)، الذي يريد توظيفها وفق المصالح والاهداف بوعي او بدونه، وتنقيتها مما دخل اليها وتحويلها الى تظاهرات ثقافية ومهرجانات فنية ومسارح شعبية متقدمة تعكس المبادىء الحضارية والثورية الرفيعة التي ضحى الامام الحسين حياته من أجلها.

 

واذا كانت فلسفة الشهادة التي ضحى من اجلها الامام الحسين هي تجسيد للصراع بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين العدالة والظلم وتوكيد كرامة الانسان، فعلينا ان نأخذ دروسا وعبرا من مواقف الامام الحسين التي ترفض كل شر وباطل وظلم وقبح واستغلال، وان نبذل جهودنا الى العمل والانتاج واعادة بناء العراق ومسيرة التنمية والتحديث التي خربتها الانظمة الاستبدادية الشمولية والحروب والحصار وغزو قوات الاحتلال المشؤوم وميليشيات الارهاب بجميع اشكالها واعادة بناء الانسان العراقي المكسور والنسيج الاجتماعي والثقافي والاخلاقي الممزق.

 

ولذلك نجد من الضروري، ونحن في زمن المحنة والامتحان وفي زمن العجز والنكوص والردة الحضارية، التي اعادت العراق الى ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ان نقف أمام مرآة عاكسة نتأمل ذاتنا بمنظار عقلاني نقدي ذي أبعاد متعددة وان نعي واقعنا ونتعرف على ذاتنا لنقدها وتغييرها وليس جلدها وتبريرها وان ننظر الى مستقبلنا نظرة تفاؤلية وليس تشاؤمية.

 

ومرة اخرى أقول: بالعمل والانتاج وليس باللطم والبكاء والتطبير يستطيع المرء تجسيد قيم عاشوراء النبيلة.

كتابات

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1263 الاثنين 21/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم