قضايا

سميرة احيزون: صناعة الإنسان

إنطلاقا من مقتطف للكاتب مصطفى محمود في كتابه "في الحب والحياة" –الذي أؤمن به أن مرحلة العزوبة، ليست مرحلة لإصلاح الشعر المتقصف والبشرة المترهلة فقط... إنما هي أثمن فترة لديك لتصنعي عقلا مختلفا، وشخصية قادرة على إنتاج جيل نابض بالفلاح - ويضيف - هي أثمن فرصة لتتعلمي فن صناعة الإنسان...كي لا يعيد التاريخ التربية الخاطئة نفسها.

ما ذكر الآن يعد مهمة صعبة، بل ومسؤولية تحمل من التكليف الشيء الكثير، لكي تكون لك القدرة على صناعة إنسان بالمفهوم التربوي والاجتماعي وليس الميكانيكي التقني، يجب معه أن تتوفر فيك أولا الشروط الموضوعية للقيام بهاته المهمة الصعبة، بدءا بالوعي بحجم المسؤولية، مسؤولية أن تكون أب أو أم ليست بتلك البساطة التي يظنها الجميع، وليست صفة فارغة من محتواها تمنحها لك الطبيعة والمجتمع.

هو تفكير جاد وعملية شاقة تستدعي منك البحث والنضج، والقدرة على إعطاء تربية ذات جودة عالية تستطيع من خلالها تأهيل إنسان، وتحويله من كائن بيولوجي إلى كائن إجتماعي، وبناء شخصيته إنطلاق من مختلف الجوانب سواء الروحية /النفسية/العاطفية /الاجتماعية إلخ.

لكن هل سبق للأزواج أو الآباء، أن تساءلوا فيما بينهم عن الخط التربوي الذي سينهجونه؟هل يقرؤون عن التربية؟ هل يبحثون عن نصائح حول التنشئة الإجتماعية؟ وهل يحمل قرار الزواج والانجاب بين طياته هذا الهم؟

ليس الهدف من هذه التساؤلات محاولة التعجيز، أو خلق نوع أو من التردد والتراجع عن الفكرة، بالعكس هي دعوة للإرتقاء بالوعي الإنساني، والإنخراط المباشر والإيجابي في تطوير المجتمعات عبر أفرادها.

طفل إضافي على هاته الأرض، لا يستوجب معه توفير الموارد المادية فقط بالرغم من أهميتها أيضا، لكن يجب العمل على طرائق التنشئة السليمة، فالإقتصار على المأكل والمشرب هي مسالة تشترك فيها الحيوانات أيضا، والإرتكاز على صناعة الإنسان تقتضي مجهود إضافي وآليات عدة مقدور عليها.

صناعة الإنسان إذن هي من أكبر التحديات المطروحة مجتمعيا، خصوصا وأنها ليست مسؤولية الأسرة فقط، وإنما تتداخل في العملية مؤسسات إجتماعية أخرى، كالمؤسسات التعليمية والدينية والإعلام، المجتمع المدني وحاليا وسائل االتواصل الاجتماعي التي تفرض نفسها في الساحة.

صحيح أن الأسرة الفضاء الأول الذي تنشأ فيه الأجيال، لكن يجب أن نعترف أنها أمام تحد كبير، يحاول زعزعة نظامها، ويساهم في إبعادها عن مهمتها الأصيلة دون سابق إنذار، حيث تتداخل مؤسسات إجتماعية أخرى في التنشئة، ويجب أن تكون أيضا بنفس المستوى المطلوب، وتحمل على عاتقها المسؤولية الملقاة عليها.

و عند التفكير في لعن هذا الجيل يجب أن نعلم جيدا أنه نتاج لهذا المجتمع والإختلالات التي أصابته، وأن عملية خلق أجيال فاعلة تقتضي تظافر الجهود، مما يجعلها عملية معقدة وذلك لتداخل كل الجهات المذكورة في التكوين والتأطير، لكون التنشئة لا تنبع من مصدر وحيد بل هي شبكة تمتزج عناصرها، ومن تم فهو مشروع جماعي.

و في رأيي يجب أن يكون هناك مخططات مستقبلية، تستثمر من العلوم الانسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس، من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه، ونهج سياسة الترميم واعادة النظر لمواجهة مخاطر التنشئة، التي تهدد المجتمعات وافرادها.

إن تراجع القيم والمعايير المجتمعية، وغياب النضج والوعي الأسري والمؤسساتي ينعكس على أفراد المجتمع، وبالتالي يكون من بين الأسباب التي تساهم في تحطيم بنية المجتمع، وتفكيكها وتطفو على السطح ظواهر وممارسات كنتيجة لذلك.

و بات من الضروري إذن الوقوف على تسطير مبادئ التنشئة، والتدخل بشكل إيجابي في صناعة الإنسان بمفهومها التربوي والإجتماعي، ماذا يفيد إذن تزايد أعداد المواليد أو الأسر، إذا كانت ستنتج لنا اضطرابات وإختلالات على أرض الواقع، ليس على مستوى العلاقات الأسرية فحسب، وإنما في علاقة الفرد بمجتمعه ووطنه ايضا، المخربون /المرتشون /السارقون /الغشاشون /الخائنون /العنيفون /الخارجون عن القانون...هم نتاج المجتمع وضده في نفس الآن.

و لنصل إلى التفكيرفي المراحل المثالية بين قوسين، ينبغي تظافر الجهود لأنها ليست مهمة شخص واحد أو مؤسسة منفردة، بل هو دور مجموعة من الفاعلين في المجتمع، وهذا لا يعفي مسؤوليتنا كأشخاص لأنه بالإمكان إعادة الإصلاح من أجل صناعة أحسن نسخة من الإنسان فينا.

و هو ما يحيلنا على تعبير باركر بالمر: " الشيء الوحيد الذي علينا تقديمه للمجتمع هو أنفسنا، لذلك فإن العملية التأملية التي نستعيد فيها أنفسنا حقا ونحن منعزلين، ليس قطعا أنانية لكنها أفضل الهبات على الإطلاق التي يسعنا تقديمها للآخرين".

أهم مؤسسات التنشئة الإجتماعية وأدوارها

الأسرة:

هي الحاضن الأول للطفل والركيزة الاساسية في التنشئة الاجتماعية، تمركزها في المرتبة الاولى دليل على مكانتها وأهميتها ودورها المحوري في العملية، فيها يتلقى المبادئ الأولى للحياة ويستلهم القيم الأخلاقية، كالاحترام التعاون المسؤولية، ويستمد طاقة الحب والثقة في النفس والشجاعة والتقدير الذاتي، كما تغرس فيه العادات والتقاليد والأعراف من خلال تعزيز الهوية الإجتماعية، زائد دورها المهم في تطوير شخصيته والعمل على التوجيه السلوكي، إضافة إلى عملها على إشباع حاجات الأبناء العضوية والحاجة النفسية والعاطفية، وذلك لتسهيل اندماجه وتفاعله في المجتمع.

المدرسة:

للتربية أولا والتعليم ثانيا، وهذا ليس وليد الصدفة أبدا فلا يقتصر دورها على حشو الطالب بالمعلومات التعليمية، والعمل وفق المناهج المقررة فقط بل يمتد إلى تكملة وظيفة الأسرة، لإحتلالها المرتبة الثانية بعدها ولكونها فاعلا أساسيا في التنشئة، فالحياة في المدرسة هي حياة موازية للواقع، والمطلوب هو الاستفادة من الدروس من أجل استثمارها في الحياة الإجتماعية بشكل سلس، فالمدرسة تعد ناقلا للثقافة المجتمعية ومبسطا لها، كما أنها تعمل على تقديم صورة لكل ما يحيط بالطفل من ممارسات وعادات وتقاليد وأعراف مجتمعية وقوانين تنظيمية إلخ، وإظهار ايجابياتها وسلبياتها ليكون قناعاته بشأنها.

المؤسسات الدينية:

تلعب دورا مهما وأساسيا في عملية التنشئة الإجتماعية، من حيث تعليم الفرد والجماعة التعاليم الدينية والمعايير السماوية، التي تحكم السلوك بما يضمن سعادة وتوازن أفراد المجتمع، الدور الأساس هو نشر القيم الدينية وإمداد الفرد بإطار سلوكي سوي وسليم، نابع من تعاليم دينه وملء الفراغ الروحي لدى الانسان، إضافة إلى زرع ثقافة الحوار والتسامح والتعايش الديني، انطلاقا من النصوص الشرعية والسيرة النبوية لرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

الإعلام:

لا يمكن حصر مهمة الإعلام في نقل الخبر ونشره وإيصال المعلومة فحسب، ولكن تعتبر من النظم التي تحضى بشعبية وجماهيرية مطلقة، كما تعمل على التأثير المستمر في أفراد المجتمع باختلاف شرائحهم ومرجعياتهم ودرجة تكوينهم، بل وقادرة بمهارة عالية على تشكيل الرأي العام، وهذا يوضح بجلاء دور الإعلام في تطوير المجتمع وتوجيهه، فهي أيضا تزود أفراد المجتمع بالمعلومات والإرشارادات على نطاقات واسعة، في مجموعة من المواضيع المختلفة كما أنها قادرة على ترويض أفكارهم،لأنها جد مهيمنة وبطريقة أو بأخرى قلصت دور الأسرة والمدرسة فلم تسمى السلطة الرابعة عبثا.

وسائل التواصل الإجتماعي:

تمكنت وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها، من تنصيب نفسها كمؤثر ومساهم في عملية التنشئة في وقت وجيز جدا، سواء على المستوى الإيجابي أو السلبي، حيث أنها تؤثر على سلوكيات الافراد وعلى هويتهم ايضا كما أنها تساهم في تعزيز العزلة ونشر المغالطات وتقديمها في قالب مقبول ومحبب، خصوصا مع موجة من يسمون ب "المؤثرين والمؤثرات"، فقد اصبح أمر الإقتداء بهم ومتابعتهم مفروغ منه، بالرغم من أنه لا ضامن لنا أن هذا المؤثر(ة) شخص يستحق أن يكون قدوة أو مثالا يحتدى به فعلا، مما يتطلب معه الضبط واليقظة.

لكن في المقابل لا يمكن نكران الأثر الطيب والإيجابي، الذي قد تتركه هاته الوسائل فهي تساهم في نقل المعرفة والقيم، والتعريف بالثقافات والحضارات وترسيخ الوعي حول مجموعة من الظواهرالاجتماعية وإخراجها من دائرة العتمة، بالإضافة إلى تعزيز التفاعل الإجتماعي وبناء العلاقات وتطوير التواصل، وبالتالي وجب تأطيرها وفرض الرقابة عليها، على الرغم من صعوبة الأمر لكون العالم الرقمي متشعب وسهل الإنتشارو كوني.

المجتمع:

المحيط الاجتماعي يساهم أيضا في تشكيل الهوية الاجتماعية للافراد، من خلال تعزيز القيم والمبادئ بالإضافة الى نشر الوعي حول مجموعة من القضايا المجتمعية.

فالإنسان طبعا هو كائن إجتماعي وعلاقة التأثير والتأثر تظل قائمة ومستمرة، من خلال تفاعله مع باقي الأفراد، كما يتم في خضمها تحويل الأعراف الاجتماعية، إلى قواعد مُلزمة للفرد كما يتم توريث هاته القواعد من جيل لآخر، وهي بمثابة تدريب للأفراد على أدوارهم المستقبلية، كما تعمل على تلقينهم القيم المجتمعية السائدة والمتفق عليها والأعراف والتقاليد السائدة، بحيث تختلف التنشئة الاجتماعية من مجتمع إلى مجتمع ومن ثقافة إلى أخرى.

التنشئة الإجتماعية إذن هي بمثابة توجيه عام لأفراد المجتمع، وهي عملية تبدأ منذ ولادة الشخص الى غاية مماته، والهدف الأساسي منها هو إنتاج أشخاص مؤطرين فكريا، أخلاقيا، عاطفيا وإجتماعيا...

فهي المحدد الرئيسي لجعل الإنسان ناجحا أو فاشلا، معقدا أو منفتحا، خائنا أو أمينا،صالحا أو طالحا،عادلا أو ظالما...

مما يحيلنا على قول جون واطسون رائد المدرسة السلوكية:

اعطني إثني عشرة طفلا أصحاء سليمي التكوين، وهيء لي الظروف المناسبة لعالمي الخاص لتربيتهم وسأضمن لكم تدريب أي منهم بعد اختياره بشكل عشوائي لان يصبح اخصائيا في أي مجال، ليصبح طبيبا ليصبح محاميا أو رساما أو تاجرا أو حتى شحاذا أو لصا، نحن من نصنع أطفالنا من خلال طريقة تربيتنا... بالرغم من لإنتقاذات أو الإختلاف مع رأيه او توجه المدرسة السلوكية، سواء من معارضيه أو رواد مدارس أخرى إلا أنه لا يمكن نكران أنه وضع الأصبع على نقاط جد مهمة تفيد الإعداد والاستعداد للعملية التربوية والتنشئوية.

نحن إذن إزاء صناعة صعبة لأنها ليست مرتبطة بمنتوج أو شيء، بل ترتبط بالإنسان كبة من من العواطف والأحاسيس، ومجموعة من الأفكار والسمات والآراء والقدرات والميولات إلخ. وكما يبدو ان الأمر ينبغي أن يسير وفق خطوات وقواعد مهمة للعملية وذلك لانتاج كيان فعال ومتكامل وأبرزها:

* التخطيط المسبق: من خلال وضع خطط تربوية تأهيلية مستقبلية، ننشد من خلالها التأسيس للقيم والتطوير المتعلق بالأفراد.

* الجودة والتحسين: التطلع دوما نحو اسثمارات وأساليب تربوية جديدة، تنهل من الدراسات والعمل دوما على توجيه الأفراد وتحسين سلوكاتهم.

* التفاعل مع البيئة: لتطوير شخصية أي فرد، لابد من الاحتكاك مع باقي أفراد المجتمع والتفاعل معهم.

*  الوصول إلى الهدف: إنتاج افراد فاعلين في المجتمع ومساهمين في بناءه، مما يخلق نوعا من التوازن وضبط للسلوك واكتساب حس المسؤولية والقيم والمهارات الإجتماعية الإيجابية.

و بالتالي إحقاق هاته الأهداف السالفة الذكر، يعطينا من دون شك أفراد سليمين نوعا ما، وناضجين نفسيا وهو مكون أساسي إلى جانب النضج العقلي والعاطفي والإجتماعي.

***

احيزون سميرة - المملكة المغربية

أخصائية إجتماعية ومدونة.

في المثقف اليوم