اخترنا لكم

محسن المحمدي: الفيلسوف بين طهر الفكر ودناءة السلوك

قوة الفكر في ذاته بصرف النظر عن حامله

كانط: «إذا كان كل الناس يكذبون، أيكون الصدق تبعا لذلك مجرد وهم؟» ويقصد بذلك، أن الأخلاق متعالية عن قائلها، بغض النظر عن التطبيق. قد أعطي درسا رائعا في الأخلاق وبشكل مقنع جدا. لكنني خسيس وفاسد في الحياة العملية. فهل يعني هذا أن الدرس باطل؟ أكيد لا. فالدرس قوته في ذاته، بغض النظر عن الممارسة. وبحديثنا عن الفيلسوف خصوصا، فنحن ننتظر منه سلوكا نبيلا، ونريد منه أن يعيش عمليا، مثاله المقترح، وهو ما يزيد من إجلالنا له. لكن هل تصدق المعادلة هذه في كل الحالات؟ وهل سيرة الفلاسفة الواقعية تتلاءم وأفكارهم؟ ومن ثم، هل نكتفي بقراءة أطروحة الفيلسوف، أم من الضروري أن نعرج على حياته الخاصة، لنرى مدى التطابق بين الادعاء والتطبيق؟ هل نحكم على الفيلسوف من خلال نسق فكره ومعقولية موقفه وحججه المقدمة للإقناع؟ أم نراهن على سلوكياته وأعماله الميدانية؟ بكلمة واحدة، هل ينبغي الربط المباشر بين أفكار الفلاسفة وتصرفاتهم؟ أم لا بد من الفصل بينهما والنظر إلى الفكر بصرف النظر عن قائله؟

بالطبع، ما يدعو إلى طرح هذا الإشكال، هو ما نجده في سير بعض الفلاسفة من إحراجات قد لا تليق بهم كنخبة مفكرة، إلى حد أنك لو قرأت حياة بعضهم أولا، قبل متن فلسفته، لربما كان ذلك مانعا للاستمرار في القراءة، ومن ثم الاطلاع على أطروحاته التي تكون في الغالب عميقة جدا.

سنقف في مقالنا هذا، عند بعض النماذج التي فيها شرخ بين عمق الفكر وتفاهة الحياة، بين مواقف البعض الصلدة المدعمة بقوة، وبين سلوكا هذا البعض اللاأخلاقية والمخجلة أحيانا. إذ من النادر أن نجد تلاؤم السلوك بالفكر، وكأن الفكر أنظف وأطهر، أو لنقل إن الفكر مستقل عن العمل.

فرنسيس بيكون

يعد فرنسيس بيكون (1561-1626)، أحد كبار المنهج الاستقرائي في العلم. حيث عمل على مهاجمة سلطة القدماء بكتابه الشهير: «الأرجانون الجديد»، معلنا فيه أن الإنسان بحاجة إلى جهد شاق حتى يستطيع قراءة العالم على ما هو عليه، وليس كما يريد. وذلك لن يتم عنده إلا بتنقية العقل وتطهيره من أغلاطه وأوهامه، وحصرها في أربعة هي:

* أوهام القبيلة، أو أوهام الجنس: خاصة بالطبيعة الإنسانية (خداع الحواس مثلا).

* أوهام الكهف: وهي مرتبطة بكل ذات، من حيث: طبيعة الشخص، وتجربته، وصلاته الخاصة، وقراءاته.

* أوهام السوق: خاصة باللغة، باعتبارها عائقا يشوش على العقل.

* أوهام المسرح: خاصة بتقليد أنساق التفكير والمذاهب. فهي بمثابة مسرحيات تخلق عوالم زائفة وهمية، وتوجه التفكير وتعطل إمكاناته.

لكن إذا كان هذا الفيلسوف قد كتب وأبدع، فإن تأملنا لحياته الشخصية قد يثير فينا الاشمئزاز. فهي مليئة بالغدر والدناءة والخسة. فذات يوم، ترافع، وهو المحامي، ضد أحد رجالات البلاط البارزين، ويدعى إيسيكس Essex، مطالبا بتوقيع أقصى العقوبات عليه. وأعدم سنة 1601، والغريب أن هذا الشخص هو من كان السبب في أن يصبح بيكون مستشارا للتاج الملكي. ومن جهة أخرى، كان يصطنع الملق والدسائس لبلوغ أغراضه. بل اختلس أموال الدولة ومثل أمام المحكمة في قضية رشوة، فتم تغريمه أموالا وحرم من عضويته في البرلمان.

* جان جاك روسو

إنه الفيلسوف الأنواري (1712 - 1778) المعروف، الذي لا يخلو زماننا من بعض أفكاره. فهو كاتب «الاعترافات» التي قدم فيها نموذجا فريدا في السيرة الفضائية. وكتب في التربية مؤلفه الشهير «إميل أو التربية»، حيث قال عبارته الشهيرة: «كل شيء يخرج من يد الخالق صالحا، وما أن تلمسه يد الإنسان يصيبه الاضمحلال». وقد أعلن صرخة انتقاد مبكرة لخطورة التقدم على القيم الإنسانية. كما أنه كان من دعاة فكرة صلاح الفرد وفساد المجتمع. فالفرد يولد بفطرة طيبة نقية وطاهر، لكن بيد المجتمع إفسادها أو حمايتها. فالشر الذي يحدثه الإنسان ليس أصيلا فيه أبدا. كما ألف روسو في الفلسفة السياسية «في العقد الاجتماعي». وهو الكتاب الذي جرى حمله في الثورة الفرنسية. وساهم روسو بنظريته في عقلنة العمل السياسي وترشيده. فأصبح التدبير العام، يجري بمعزل عن الأشخاص، ويتجه نحو التجريد الجماعي وقوة الإرادة العامة والتعالي. بكلمة واحدة، لا أحد أصبح مع روسو سيدا، بل السيادة للقانون المفروض من طرف الكل.

لكن هذا العطاء الفكري وهذا التأثير الذي أحدثه في الأجيال اللاحقة، لا توازيه أبدا سلوكياته اليومية. فسيرته، تظهر لنا أنه عاش، أحيانا، على نفقة الأغنياء وأصحاب النفوذ. كما أنه وهو المنظر للتربية الحديثة، إلى درجة أن كتابه يسمى «إنجيل المعلمين»، حيث يعظ فيه بأهمية التربية الصالحة للأطفال وللأبوة والأمومة الجيدة، نجده يقيم علاقة غير شرعية مع خادمة الفندق «تيريز»، التي تنجب له خمسة أولاد، يسلمهم إلى ملجأ اللقطاء غير عابئ بالمسؤولية، ومن غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل. ناهيك عن بعض ممارساته الجنسية ذات الطابع المازوشي. إذ ظل طوال حياته، يعبد الشابات الارستقراطيات، وكانت لديه عنهن خيالات ساذجة. وعندما استقر لسنوات عند «مدام دو فارن»، التي كان يعتبرها كأمه التي حرم منها، كان يلتذ بالركوع تحت قدميها، ويطيع أوامرها المتعجرفة، ويسألها الصفح والغفران. وكان يتقن دور العاشق الباكي.

* مارتن هايدغر

يعد مارتن هايدغر (1889-1976)، من أكبر نقاد الحداثة والحضارة الغربية. فهو من اعتبرها انغمست في الموجودات وأهملت الوجود. وهو السؤال الحقيقي عنده. إنه صاحب كتاب «الكينونة والزمان» الصادر سنة 1927، والذي يعده الباحثون أهم إصدار في القرن العشرين. وهو صاحب مفهوم «الدازاين»، الذي يعني به الوجود الإنساني لحظة اكتشاف الوجود، لحظة الإنصات لندائه والاستجابة لصوته من لدن الإنسان، باعتباره الكائن الوحيد المعني بمسألة الوجود. يعتبر هايدغر أن الحضارة الغربية جعلت سؤال الوجود مغيبا ومنسيا ولا مفكرا فيه، لصالح سؤال الموجود. فالعقل الغربي، منذ سقراط حتى الزمن الحديث، انغمس في عملية محاصرة الموجودات بطريقة محكمة ورياضية، لكنها أهملت الوجود. هذا الهجران للوجود هو لب فلسفة هايدغر، وسبب أزمة الغرب ودخوله في تقنية ضربت المعنى، الذي لن تكون استعادته إلا بالدازاين، وهو الخيط الهادي الرابط لجسور شعرية مع الوجود.

لقد اعتبر هايدغر أن الحضارة الغربية حفرت قبرها بنفسها، حين حولت الوجود إلى طبيعة.

بكلمة واحدة، يعد فكر هايدغر، كما قالت عنه عشيقته الفيلسوف، حنا أردت: «المساهم في تحديد الشكل الروحي للقرن».

هذا جزء من بعض عمق الرجل، لكن ماذا عن حياته الخاصة؟

إنه رجل الريف الألماني المتشبع بالحس الجرماني، ذو النزوع النازية، الذي سيتنكر لأستاذه اليهودي الفيلسوف «هوسرل»، الذي لعب دورا أساسيا في المكانة الأكاديمية التي حظي بها. كذلك سيتنكر لحبيبته وطالبته حنا أردت، التي كانت أيضا يهودية، عاشت معه علاقة حب عاصفة رغم كونه متزوجا. وكان يلقبها بـ«حورية الغابة»، وتلقبه هي «بقرصان البحر». في سنة 1933، جرى انتخاب هايدغر رئيسا لجامعة فريبورغ، وانضم إلى الحزب الاشتراكي الوطني، وقدم خطاب العمادة الداعم للنازية وكله حماسة، معلنا أن الجامعة يجب أن تعكس معنى الإثنية4 والوطنية، وأن تشارك في المهمة الروحية للشعب الألماني. فـ«القيم البطولية لهذا الشعب جاء وقتها، وهتلر هو الإحساس العميق المجسد لطموح ألمانيا». هذه الموالاة للنازية بكل إسهامها في تصفية اليهود من الوسط الثقافي الألماني، جعلت هايدغر في وضع محرج في المستقبل. وبدأ التساؤل: كيف لفيلسوف فذ من طراز هايدغر، أن يتوجه نحو ميول عنصرية؟ وكيف يمكن حل معضلة الالتزام السياسي بالإبداع الفكري؟

* ميشال فوكو

ينتمي ميشال فوكو (1926-1984)، إلى التيار المسمى «ما بعد حداثي». وهو صاحب عبارة «موت الإنسان». حيث سيوجه ميشال فوكو نقده للحداثة، بنحته مفهوم «الإبستمي»، ويقصد به ذلك النظام الخفي المستثمر بصمت أثناء الممارسة، الذي يحدد شروط المعرفة في حقبة تاريخية معينة، والتي بمقتضاها يعترف لخطاب عن الأشياء بأنه الحقيقة. فهو نظام لا أحد يفكر فيه ولكن يخلق شروط التفكير. ولقد استخدمه فوكو بمرادفات متعددة كالنسق، والبنية، وفضاء للتنظيم والأرضية الإبستمولوجية، وشروط الإمكان وأوليات تاريخية، وكلها تجمع على معنى واحد، هو أن هناك «لا شعور معرفيا»، أي ذلك المستوى المتخفي والعميق، وتلك الطبقة التحتية التي تشكل شروطا قبلية لإنتاج المعرفة. كما أن هذا الفيلسوف، هو من نبه إلى «ميكروفيزياء السلطة»، حيث لم تعد السلطة فقط فيما عهدناه (الملكية، الحكومة، البرلمان...) بل هي توجد في كل مكان حيثما وجد الصراع. بين العاشق والمعشوق، بين المعلم والتلميذ، بين رب العمل والعامل.. وتوظف في هذه العلاقات كل استراتيجيات السلطة الممكنة.

لكن رغم كل المنجز الهائل لهذا الفيلسوف، فقد كانت حياته مخجلة ومقززة. فقد كان يتعاطى المخدرات بأصناف متعددة (الحشيش، الأفيون، مخدر L.S.D). بل كان مثلا، يمارس اللواط، ويعيش مع شريكه «دانييل ديفيرت». بل عندما كان يدرس في تونس، وقع في كمين وضعته له الشرطة، حيث اقتاد شابا إلى المنزل كان، في الحقيقة، شرطيا متنكرا. الأخطر من كل ذلك، أنه كان يتردد على صالات السادية والمازوشية، وحمامات الشواذ العامة في سان فرانسيسكو، بعد إنهائه مباشرة لمحاضراته، ليموت بالإيدز، وكان يقول: «كيف أخاف من الإيدز وأنا قد أموت في حادث سيارة».

***

المغرب: محسن المحمدي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في: 3 أغسطس 2016 م ـ 28 شوّال 1437 هـ

في المثقف اليوم