اخترنا لكم

حازم صاغية: لماذا شكّل الإغريق القدامى الحرف الأوّل في أبجديّتنا؟

ما لا شكّ فيه أنّ مساهمة الإغريق القدامى لحضارتنا الإنسانيّة خضعت للأسطرة والمبالغة. لكنّها تبقى، بعد حذف الأسطرة والمبالغة، مساهمة جبّارة وأكبر من أيّة مساهمة أخرى.

فهناك حضارات كثيرة سبقتها وعاصرتها، وفاقتها في مجالات الدين والروحانيّات والميثولوجيا. لكنْ حين يصل الأمر إلى فهم عالمنا وتأويله على نحو عقلانيّ غير ميثولوجيّ، يأتي الإغريق، لا سيّما أثينا، أوّلاً.

فالأخيرة استفادت من موقعها البحريّ واعتمادها على التجارة واتّصالها بالعالم الخارجيّ، وكان هذا على الضدّ من معظم الحضارات النهريّة التي قام اقتصادها على الزراعة، ما جعلها أشدّ انكفاء وأكثر انضباطاً بإملاءات الطبيعة.

ولربّما كان بروميثيوس، بين الأبطال الأسطوريّين الكثيرين الذين أنتجتهم ثقافة الإغريق، الأشدّ تمثيلاً لتلك الروحيّة الثقافيّة المتجرّئة: فمن حبّ البشر انبثق الإلحاح على تزويدهم بنار الآلهة، تلك الشعلة المقدّسة، وذلك في تحدٍّ صريح لرغبة زوس، إله السماء في الأساطير الإغريقيّة.

أمّا المعادل العمليّ لامتلاك الشعلة المقدّسة فإنّ الفلسفة والديمقراطيّة وفنّ العمارة والرياضة والتراجيديا باتت تجد أصولها الأولى هناك، علماً أنّ تغيّرات نوعيّة طالت معانيها لاحقاً. كذلك اختُرعت النقود، بين 600 و700 قبل المسيح، في مملكة ليديا باليونان. كذلك فالكثير من الكلمات التي نستخدمها راهناً، ومعظمُها يصف مفهوماً أو سلوكاً عريضاً، فجيء به من أسماء المدارس الإغريقيّة التي سبقت سقراط: يصحّ هذا في «ذرّة» (atom) و»كلبيّ» أو «سينيكيّ» (cynic) و»متشكّك» (sceptic) و»أكاديميّ» (academic) و»رواقيّ» (stoic) و»تجريبيّ» (empirical)...

إذاً هكذا كانت بداية البداية، مع القرنين السادس والخامس قبل المسيح، وقد مثّلتها موجة الفلاسفة والعلماء الذين سُمّوا «فيزيائيّين» و»فلكيّين»، تبعاً لاهتمامهم بالعلوم، وخصوصاً الفيزياء وعلم الفلك.

ولئن أثبت التطوّر العلميّ اللاحق أنّ هؤلاء ارتكبوا قدراً معتبراً من الأخطاء، فالعالم القديم الذي خرج منه العلم، كما الفلسفة، كان مليئاً بالأساطير والقصص المُتخيّلة في تأويله. والحال أنّ الخلفيّة العلميّة التي كانت متوافرة حينذاك، وشكّلت مادّة انطلاقهم، بدت فقيرة جدّاً تكاد تقتصر على فكرتين: وجود العناصر الأربعة الأولى، النار والماء والأرض والهواء، ومبدأ التناقضات ما بين سخونة وبرودة، ورطوبة وجفاف، وارتفاع وانخفاض... لهذا فحين تُقرأ تلك البدايات ينبغي التفكير دائماً بحدود ذاك الزمن وقدراته.

فعلماء ما قبل سقراط وفلاسفته هم علماء ما قبل العلم وفلاسفة ما قبل الفلسفة ممّن طرحوا أسئلتهم عن نظام الطبيعة وعمليّاتها وموادّها، وكذلك عن أصول الكون، بحيث بدأ معهم ميلاد العلم مصحوباً بميلاد الفلسفة. وبرفضهم الأخذ بالقصص والأساطير، أو الملاحم، صار فهم العالم يتمّ في العالم نفسه عبر تعميق معرفتنا به. وفي مقابل أسئلة «سِفر التكوين»، وقبله ملاحم ما بين النهرين، لم يَدُرْ اهتمام الإغريق حول مَن صنع الكون، بل انصبّ على الأسئلة العمليّة: ممّاذا صُنع الكون، وكيف تشكّل؟... وبدل أسئلة «مَن؟» و»لماذا»، أُعطيت الأولويّة لسؤالي «كيف؟» و»ماذا»؟ وكان من أبرز هؤلاء طاليس الذي حاول العثور على تفسير طبيعيّ للظاهرات بدل التفسيرات التي تردّها إلى أهواء الآلهة، كما تكهّن بالكسوف، وتلميذه أناكسيمندر، وكان أوّل إغريقيّ يضع رسوماً بيانيّة فلكيّة وجغرافيّة، وأناكسيمِنيس الذي وصف الحالة البدائيّة للأشياء ككتلة تتعرّض للضغط فتغدو ريحاً وغيوماً وماء، وأنيكساغوراس، أستاذ بيركليس، أبرز حكّام أثينا الديمقراطيّة، والذي اكتشف عمليّة التنفّس في النبات والأسماك، وهيراقليطس الذي نقل العلم من الفلك إلى الأرض، فرأى أنّ كلّ شيء يتدفّق ويتغيّر، وحتّى أكثر الموادّ جموداً ينطوي على حركة غير مرئيّة، فيما النار محرّك الأرض والتاريخ، وإيمبيدوكليس الذي دفع فكرة التطوّر إلى أعلى، حيث لا تنشأ العضويّات عن تصميم مسبق بل عن فعل انتخاب، ولوسيبوس الذي رأى أنّ الضرورةَ الدافعُ الدائم وراء الأشياء وحركتها، وتلميذه ديموقريطس الذي اعتبر أنّه لا يوجد في الواقع سوى الذرّات والفراغ، وأنّ عدداً لا محدوداً من العوالم سبق أن نشأ قبلاً، كما ينشأ الآن، وسوف ينشأ دوماً، وأنّ الكواكب تتصادم وتموت فيما تنهض من الفوضى عوالم جديدة، وفيثاغور صاحب الكثير من الاكتشافات العلميّة ومعادلات الرياضيّات، ما أجاز تسميته «أب الرياضيّات»، وتلميذه فيلولوس الذي قال إنّ في الإمكان تقسيم العالم إلى موادّ غير محدودة وأشكال تحدّ منها وتؤطّرها، وأنّه يمكننا استخدام الرياضيّات كي تُظهر التناسق الذي يجمع بين الموادّ والأشكال المتنافرة كما يحصل في الموسيقى، وبارمينيدس الذي دفع الفلسفة نحو المنطق الاستنتاجيّ (deductive) بوصفه وسيلة لتوكيد الحقيقة، مقابل الاكتفاء بمراقبة الظاهرات الطبيعيّة، وزينو الذي لا يزال يُذكر مرفقاً بالمفارقات التي استخدمها دفاعاً عن وحدة الواقع، وكان النقاش مستعراً حول ما إذا كان الكون واحداً أم كثيراً، وميليسّوس الذي جادل بأنّ الواقع غير محدود وأنّ الفضاء الفارغ مستحيل، وبروتاغوراس السفسطائيّ الذي صوّر الإنسان بوصفه مقياس كلّ شيء آخر، وعُدّت آراؤه تعبيراً راديكاليّاً مبكراً عن النسبيّة...

وقد تفرّع هؤلاء وسواهم إلى مدارس فكريّة تسمّت باسم مكان المدرسة، كالإيليّين نسبة لمستعمرة إيليا، أو باسم مؤسّسها، كالفيثاغوريّين، أو باسم أطروحتها الأمّ، كالذريّين والسفسطائيّين ممّن امتدّ الزمن بمدرستهم حتّى عاصروا أرسطو.

هذا ولم نصل بعد إلى ثالوث سقراط وتلميذه وتلميذ تلميذه ممّن ارتكزوا إلى الجهد الذي قدّمه السابقون ليقدّموا لمن جاء بعدهم كنوزاً أشدّ إبهاراً.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: 25 – 6 – 2023م

في المثقف اليوم