اخترنا لكم

السيد ولد أباه: فلسفة الأخلاق وصراع الكليات

لا شك في أن الصديق فتحي نقزو، أستاذ الفلسفة في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، قد أحسن إذ أصدر مؤخراً الترجمة العربية للكتاب الأخير للفيلسوف الألماني الأشهر كانط «صراع الكليات». في هذا الكتاب الذي نادراً ما حظي بالاهتمام المستحق، يتناول كانط العلاقة المعقدة بين الفلسفة واللاهوت والقانون (بالإضافة إلى الطب الذي ينتمي للكليات العليا).

لا يهمنا تلخيص هذا الكتاب الذي اعتبره البعض «الوصية السياسية» لكانط، وقد احتفى فيه بوضوح بالثورة الفرنسية، كما تضمن دفاعاً مستميتاً عن حرية التفكير والتعبير في مواجهة الجمود والتعصب.ما يهمنا من منظور كانط هو تناول هذه العلاقة الإشكالية المعقدة بين الفلسفة واللاهوت والقانون في سياقنا العربي الإسلامي، حيث يتم في الغالب الفصل بين هذه الأنظمة الخطابية المتمايزة.

وبغض النظر عن تحديد هل يمكن اعتبار علم الكلام الإسلامي لاهوتاً والفقه قانوناً، تتعين الإشارة إلى الروابط الكثيفة في تاريخنا الثقافي بين هذين المجالين وبين الفلسفة التي لم تكن في غالب الأحيان خطاباً جامداً يترجم النص اليوناني ويعلق عليه. ما نريد أن نبينه هو أن الاهتمام الفلسفي لم ينشأ في السياق الإسلامي الوسيط، كما يظن البعض عادةً، كمجرد استيراد لمدونة نظرية جاهزة ومكتملة، سواء من أجل تناول المسائل العَقَدية التي أثارت اهتمام المتكلمين، أو من أجل التبشير بأخلاق الاعتدال والسعادة التي شغلت الأدباء والكتاب في الحقبة الوسيطة.

في هذا السياق، تتعين الإشارة إلى أن الجوانب الميتافيزيقية من الفلسفة اليونانية لم تكن هي محور اهتمام فلاسفة الإسلام، كما يظهر من الكتابات الفلسفية المبكرة (الكندي وأبوبكر الرازي وثابت ابن قرة)، بل إن تركيزهم كان على الطبيعيات والأخلاقيات. بيد أن الطبيعيات لا تعني هنا الكوسمولوجيا الأرسطية، مِن صور وجواهر وأجسام فلكية، بل هي مظهر لـ«مجرى الخير في الوجود» حسب اصطلاحات ابن سينا، وهي إذن داخلة في المنحى الأخلاقي بدلالته الواسعة. عندما طرح الفارابي سؤال غياب مفهوم للوجود في اللغة العربية، كان يدرك أن نمط التفكير الفلسفي في الإسلام لا يتم عن طريق المنظور الأنطولوجي، بل من خلال المقاربة الأخلاقية العملية التي تتم من خلال مسارين هما: التدبير المدني للعيش المشترك والتشريع السلوكي وفق ضوابط وأحكام ملزمة وضرورية. ومن هنا أدرك كبار قراء الفارابي، من نوع ليو شتراوس ومحسن مهدي، مركزيةَ المسألة الأخلاقية القانونية (الشرائع والنواميس) في المنهج الفلسفي الذي أطلق عليه الفارابي نفسه تسمية «السياسة المدنية». وعلى عكس التصور السائد، لم يكن علم الكلام (الذي هو البديل الإسلامي عن اللاهوت باعتبار غياب منظومة مقننة تتناول مضامين وتفاصيل الاعتقاد الإيماني) بعيداً عن الفلسفة ولا عن التشريع القانوني.

لقد لاحظ المستشرق الألماني «جوزف فان أس» أن نظام الاعتقاد في الإسلام يقوم على الممارسة والتطبيق لا الاستكناه العقلي للمضمون الباطني للإيمان، بما يعني أن الاعتقاد بصفته نطقاً باللسان وتعبداً بالشرائع من باب الفقه والعمل. أما الفقه نفسه فلا يمكن اعتباره نسقاً قانونياً حتى في جوانب التشريع والمعاملات، بل هو من حيث أحكامه المتعلقة بالأفراد والمجموعة داخل في صلب الأخلاق بمنظورها الشامل. الأخلاق هنا بطبيعة الحال ليست أخلاق الواجب أو الأوامر العقلية الكونية بالمعنى الكانطي الحديث، بل هي مقاصد للعمل وموجهات للعمل وضوابط للفعل. ما نستخلص من هذه الملاحظات هو أن محددات الفلسفة في السياق الإسلامي الوسيط كانت بالأساس أخلاقية لا ميتافيزيقية، تدور حول الأوامر والالتزامات الإنسانية الكونية، لا المنظور الكلي الوجودي الذي تدور حوله الفلسفة اليونانية.

وفي إعادة بناء ميتافيزيقا أرسطو التي اضطلع بها ابن سينا في إلاهياته، نجد أنه أدخل تصورين جديدين على هذه الفلسفة، وهما: نسف أطروحة تلازم الوجود والماهية وما يترتب على هذا النسف من تفريق جوهري بين الكليات الذهنية والأعيان الفردية، وتقويض مسلمة أحادية العالم بالتمييز بين الوجود الضروري والوجود الممكن وما ينتج عن هذا القول من تعددية العوالم التي تبناها الكثير من مفكري الكلام والفلسفة. الفلسفة تصبح إذن ضمن هذا التصور ممارسة أخلاقية شرعية تهدف إلى إبلاغ الإنسان أعلى درجات الفضيلة والسعادة، وليست تأملا في جواهر الوجود وكلياته أو تكيفاً مع نظام الكون المطلق. ومن هنا نخلص إلى تأكيد العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والكلام والفقه في السياق الإسلامي، بما يعني غياب صراع الكليات العليا والسفلى بالمعنى الكانطي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 فبراير 2024 23:45

في المثقف اليوم