حوارات عامة

حوار مع الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور

ثم درس في كلية باليول في أكسفورد (Balliol College)، قبل أن يعود من جديد إلى ماجيل ليدرس الفلسفة والسياسة. وفي رصيده سلسلة من المقالات المؤثرة في مفاهيم الحرية وطبيعة التفسير في العلوم الاجتماعية والعديد من الكتب عن فريدرش هيجل (Hegel)، وكتاب مهم بعنوان ينابيع الأنا: تكوين الهوية الحديثة . وكتاب أحدث بعنوان زمن علماني (2007).

منح تايلور في العام 2007 جائزة تيمبيلتن (Templeton Prize) عن مجمل أعماله، وتبلغ قيمتها مليون ونصف المليون دولار؛ وفي العام 2008 منح جائزة كيوتو (نوبل اليابان) بمكافأة تبلغ نحو نصف مليون دولار. وقد حاوره تلميذه كرس بلور، المدرس في جامعة لندن، ونشر الحوار في مجلة الفلسفة اليوم .:

 

 هل فاجأك الفوز بجائزة كيوتو؟

- وأي مفاجأة! إنه تكريم نادر جدا لم أكن أتوقعه. أستطيع أن أفهمه الآن أكثر بعد أن ذهبت إلى اليابان وتحاورت مع لجنة التحكيم، وعرفت أنهم لا يهتمون فحسب بالناس الذين قدموا شيئا مهما على المستوى الثقافي، وإنما أيضا بأصحاب المواقف الفكرية. أعني من لهم إسهامات مميزة في مساعدة البشرية. إن التقدم إلى عالم السياسة بفكرة من شأنها أن تساعد الإنسانية كان وما يزال حافزا مهما جدا بالنسبة إلي.

 

وقبل ذلك فزت بجائزة تيمبيلتن؟

- ذلك صحيح. كان ذلك مفاجأة أكبر، لكن بمعنى مختلف، ذلك أن الجائزة كانت تمنح في سنوات سابقة لعلماء الطبيعة الذين تتعلق دراساتهم بأمور روحانية، أما أنا فشخص يعمل في مكان ما بين علم الاجتماع والإنسانيات.

 

ماذا ستفعل بالمال؟

- سأوظفه في أمور ذات صلة باهتماماتي الفلسفية. فأنا وبعض من أعمل معهم بحاجة إلى أن نجتمع معا، ولا نستطيع الانتظار ببساطة حتى ندعى إلى حلقة دراسية في لندن أو في أي مكان آخر. من المهم جدا أن يكون المرء قادرا على التحرك بسهولة، لهذا سأعمل على دعوة الآخرين حول العالم، وجمعهم في مجموعات صغيرة، في نيويورك أو شيكاغو أو أوروبا، أو حتى في دلهي؛ وهي بالمناسبة من الأماكن التي نجتمع فيها. ذلك أمر ضروري لكل شخص في مضمار كهذا، لأن البديل أن تكون ناسكا بالكامل وتعتمد عقلك الخاص، وهو أمر لم أتمكن من القيام به، فأنا أحتاج إلى العمل بطريقة جماعية. إن عملي يتطلب مني عبور حدود العلم، ومن المحتمل أنني أقترف العديد من الأخطاء عندما أعبر هذه الحدود وأشتغل في أرض المؤرخين أو علماء السياسة أو علماء الاجتماع. لكن المرء يرتكب أقل الأخطاء الفظيعة إذا كان يعمل مع علماء الاجتماع والمؤرخين المتفهمين.

 وجدت الفلسفة التحليلية في كلية باليول في أكسفورد جافة وباردة. هل لديك نصيحة إلى طلبة الفلسفة الذين لم يحتملوا دراسة الفلسفة أو وجدوها خلاف ما كانوا يتوقعون؟

- نصيحتي أن يعتمدوا أنفسهم، لا خيار أمامهم. دعني أقوم بتوضيح هذا الأمر بالإحالة إلى جزء من سيرتي الذاتية. عندما شعرت ذلك الشعور إزاء الفلسفة التحليلية وأنا في أكسفورد، وجدت بعض الطلبة الخريجين يشعرون الشعور نفسه، واكتشفنا معا وبسرعة، المؤلفين الذين يثيرون اهتمامنا وقمنا بقراءتهم. أذكر أن الفيلسوف مورلوبنتي هو الذي لفت انتباهنا آنذاك. فإذا لم يكن أحد الموضوعات أو أحد الفلاسفة مدرجا في الفصل الذي تدرسه، فما عليك إلا الاعتماد على جهدك الخاص. واليوم، سهلت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) العثور على المادة المثيرة ومناقشتها، وهو أمر كان صعبا في خمسينيات القرن الماضي.

 

بعض الطلبة، خصوصا في الفصول متعددة التخصصات، يجدون الفلسفة بحثا ساحرا لكنه مغمور؛ فهم يبدؤون بقراءة نصوص مثل كتاب هيدجر الوجود والزمان، أو بعض أعمال فوكو، لكنهم لا يستطيعون فهمها، ثمة شيء مفقود بحثوا عنه، لكنهم لم يعثروا عليه. ماذا تنصح مثل هؤلاء الطلبة؟

- قد تستغرق قراءة أعمال فوكو مثلا وقتا كبيرا جدا، خصوصا إذا كنت وحدك في مواجهة النص، تقرؤه للمرة العاشرة، وتسأل: ما هذا؟ ومع ذلك فالمرء لا يعدم وجود بعض الشروح أو التعليقات الجيدة التي تجسر الفجوة فعلا بين الفلسفة الأوروبية (الفرنسية الألمانية)، والفلسفة في العالم الناطق بالإنجليزية (Anglo-Saxon Philosophy). لكن قراءة فلاسفة مثل هيدجر وفوكو تغنيك فكريا. وهذا أمر يصعب أن تحققه مباشرة، لأن هؤلاء الفلاسفة لا يكتبون بلغة توصلك على الفور إلى اللغة التي تعودت أن تستعملها.

 

لماذا هناك مشكلة في محاولة وضع مثل هؤلاء المفكرين المختلفين والصعبين في خطة جامعية دراسية تقليدية؟

- في كل مكان وزمان هناك فرضيات بلغت من العمق مبلغا جعل الناس عاجزين عن النظر إليها بوصفها فرضيات فحسب، لأنها تبدو لهم واضحة جدا؛ تبدو مثل معادلة رياضية: اثنان واثنان يساوي أربعة . إن المثال العظيم الذي ما أزال أخوض معه الحرب في حياتي كلها، هو الإبستومولوجيا الديكارتية الممتدة في تاريخ الفلسفة من ديكارت حتى اليوم.

يقول ديكارت في إحدى الرسائل، إننا نكون كل أفكارنا من تأثير العالم الخارجي في عقولنا. عندما قال ديكارت ذلك كان كمن يقول: اثنان واثنان يساوي أربعة : إنها فكرة واضحة رغم أنها خاطئة تماما، ومن جوانب عدة. لكن الناس لا يرون ذلك؛ فهم يألفون هذه الطريقة الواضحة في التفكير ولا يخطر لهم أبدا أنها قد تكون خاطئة.

عندما تجد شخصا ما يفكر أبعد من تلك الأفكار التي تبدو واضحة، فإنك ترتبك في بادئ الأمر: سيبدو ما يقوله هراء: كأنه يقول: اثنان واثنان خمسة!، ولهذا قلت إن على المرء أن يكون قادرا على النظر في الأطر اليقينية وغير القابلة للمساءلة ليكتشف أنها ليست كذلك بالضرورة؛ أو ربما هي كذلك -بطريقة ما- في النهاية، لكن ربما احتاج الدفاع عنها إلى طرق جديدة مختلفة. ذلك تغيير كبير جدا. وقبل أن تتأخر فتفهم ما سبقك إليه الآخرون بزمن طويل، ستقع في حال من الارتباك الكامل من خلال نص تحدى به أحدهم افتراضاتك البسيطة. سيبدو لك من تحدى تلك الأفكار كمن ينكر حقائق واضحة حول العالم أو العقل.

 

 ما تزال تحاول في ما تكتب أن تصحح نوعا من الفشل في فهم الذات في ثقافتنا. فقد قلت إن كتابك ينابيع الأنا هو مقالة في الاسترجاع. وكأنك تقول: ثمة شيء مفقود في معرفتنا يتصل بمعنى أن نكون قد وصلنا إلى هذه النقطة في تاريخنا، فرحت تركز في عملك على محاولة كشف الثقافة الغربية في بدايات القرن الحادي والعشرين أمام نفسها. أليس كذلك؟

- تماما. وقد حاولت فعل ذلك بالحفر في التاريخ. إذا عاش واحدنا مرحلة من التحول؛ فقد يفهم شيئا عن الحالة التي وصلنا إليها الآن. لكن الأجيال اللاحقة قد تتغاضى عن التاريخ، فيأخذون الإطار العقلي الذي يعتنقونه كما لو كان طبيعيا بشكل كامل. فيضيع شيء من طبيعة ذلك الإطار العقلي، ومن طبيعة الأفكار المحددة للهوية. إنهم يتبنونها لا بوصفها أفكارا مرجعية محتملة، لكن بوصفها شيئا واضحا لا يستطيعون الشك فيه. لهذا يعيشون هويتهم بطريقة تخفي أبعادا وخصائص مهمة جدا فيها، الأمر الذي دفعني إلى القول إن المسألة المهمة هنا هي الاسترجاع: تسترجع الطريق التي أوصلتك إلى المكان الذي تقف فيه اليوم، يجب أن يكون ذلك جزءا مهما من العمل الفلسفي.

 

أريد أن أسألك عن كتابك ينابيع الأنا . هذه السنة يمر على صدور طبعته الأولى عشرون عاما؟

- يا للأيام كيف تجري بسرعة! كأنه نشر أمس! كان ذلك أول كتاب أقدم فيه ما أردت قوله بشكل منظم. قبل ذلك، كتبت كتبا عن هيجل، ومقالات كثيرة عن علم الاجتماع. لم يكن الكتاب فرصة لعرض موقفي الرافض لبعض المواقف في علم الاجتماع؛ فقد كنت أحاول أن أفهم لماذا كان كثير من الناس يدافعون عن تلك المواقف التي توصلت إلى قناعة بأنها كانت مواقف خاطئة وغير قابلة للتصديق. وحتى تفهم السبب عليك أن ترى تطور المفهوم الحديث للذات. كانت تلك الخطوة المحاولة الأولى لفتح الطريق. لم يكن الأمر إذن تقديم مواقف ضد بعض الأخطاء فحسب، وإنما كان محاولة من أجل توضيح الوضع الذي يمكن أن يسمح لتلك الأخطاء أن تغدو معقولة بالنسبة إلى كثير من الناس.

ما أزال أحس أن ذلك كان نقطة تحول حقيقية في عملي. ومنذ ذلك الحين تسنى لي أن أتوسع وأعمل على ذلك النوع من المشكلات؛ كيف وصلنا إلى وضع نتجادل فيه بشأن تطبيق هذا الخيار أو ذاك -لماذا يبدو واضحا أن البدائل هي هذه وليست شيئا آخر؟ ذلك جهد حقيقي سميته: الاسترجاع، وهو منهج حاولت فيه فهم الكيفية التي أوصلتنا إلى النقطة التي نحن فيها اليوم. لقد حاولت فهم الأمر بشكل مختلف.

 

كيف يمكن أن يصبح هذا المنهج أمرا واقعا؟

- هناك لحظات معينة في تاريخ التدريس الجامعي سهلت ممارسة عملية الاسترجاع على نحو ما وصفت. ففي وقت ماكس فيبر -ربما نبالغ هنا بدافع الحنين إلى الماضي- وربما بعد ذلك بشكل أقل، كنت تجد طلبة الفلسفة في ألمانيا يدرسون فصلا طويلا جدا في الفلسفة الإغريقية وتاريخ الفلسفة، وكانط والمثالية الألمانية؛ لكنهم كانوا يقرؤون فيبر أيضا وأرنست ترولتيش (Troeltsch) ودوركايم (Durkheim) ودلثاي (Dilthey). كان لديهم فهم واسع للأسئلة التي كانت تناقش، والآلية التي وصل فيها النقاش إلى شكله ذاك في تلك المرحلة.

لقد صدمت عندما سمحت لي الظروف أن أشهد نهاية هذا التقليد الفلسفي بنفسي. أعتقد أنها ظاهرة تنقرض حتى في ألمانيا. عندما زرت هابرماس (Habermas) مؤخرا كان يعطي ذلك النوع من التعليم لطلبته، رغم أنه هو نفسه لم يكن يوافق بالضرورة على أشياء كثيرة في المادة التي كان يعطيها إلى الطلبة. ما أغاظني -عندما ذهبت إلى أكسفورد- أن الأساتذة كانوا ضيقين جدا، كانوا لا يقرؤون حتى عشر التراث الفلسفي الذي أوصلهم إلى المكان الذي هم فيه.

 

تبنيت العديد من الآراء القوية حول الهوية الحديثة، معتمدا الفلسفة وتاريخ الأديان والأدب والفن وغير ذلك في مقاربتك، مما يجعل من الصعب على المرء الذي لا يملك تلك المعرفة العريضة أن يقوم بتقويم تلك الآراء بشكل مرض.

- لهذا يذهب الناس ويقرؤون نتفا مما كتبت! إنه امر يرتبط بما كنت أقوله حول الصورة المثالية عندي عن الجامعة الألمانية في العام 1920: يجب أن يكون لدينا ذلك النوع من المعرفة العريضة في نظام تعليمنا الخاص، خصوصا ما يتصل بتاريخ العلوم الإنسانية وعلم الاجتماع وسواه. لهذا تجدني غير مستاء من رد الفعل على ما كتبت. إذا أراد الناس أن يعرفوا هل إحدى الأفكار صحيحة أم غير صحيحة، فسوف يذهبون ويقرؤون، وهذا سيجعلهم قادرين على تشكيل وجهة نظرهم الخاصة، حيث يفهمون كيف وصلنا إلى ما نحن عليه.

 

يتضمن كتابك ينابيع الأنا تعليقا قصيرا يلخص نقدك للسمات الأكثر ضحالة في ثقافتنا، فقد قلت: لا شيء يعد إنجازا في عالم لا شيء مهما فيه بالمعنى الحرفي إلا تحقيق الذات .

- ما يجعل الأشياء مهمة في النهاية، لا يمكن أن يعتمد ببساطة على إرضاء الذات فحسب. ذلك أمر سيفضي إلى نوع من الارتداد أو النكوص: بمعنى أننا سنعود لنسأل: وما الشيء الذي يمكن أن يمنحني الشعور بتحقيق الذات؟ ولهذا قلت إن هناك حاجة إلى التطلع -في النهاية- إلى هدف أعلى من قدرة الفرد: شيء يتعلق بحالة الأشياء أو الكون، أو حالة البشر، أو مسار التاريخ الإنساني. تلك أشياء يراها الناس عميقة وتتميز بقدرتها على تحقيق الذات. ستجد من يقول: أريد العمل مع أطباء بلا حدود في الكونغو، وستجد آخر يقول: أريد كتابة الرواية الكندية العظيمة . يجب أن يكون واضحا أن هذه الأشكال كلها من الرضا الذاتي العميق، تشير إلى شيء أعلى من طاقة الفرد. إنها جمل بسيطة، لكنها تنطوي على حقيقة مهمة.

 

 كنت أفكر بشأن كتابك الأخير زمن علماني (Secular Age) هذا الصباح، حين مرت بي سيارة كتب عليها صاحبها ويبدو أنه ملحد (أو بتعبير أدق لاأدريagnostic ) شعارا يقول: الأرجح أن الله غير موجود: فتوقف عن القلق وتمتع بحياتك؟

- سبق لي أن سمعت هذه العبارة! شيء مضحك جدا. شاذ وغريب، أليس كذلك؟ لهذا السبب حاولت فهم ما يحدث في زماننا هذا من خلال كتابي زمن علماني . هذه الظواهر الجديدة محيرة. ألم نسمع عن ملحدين غاضبين يريدون نشر الإنجيل؟ ربما كان رد فعلهم مثل رد فعل بعض الأساقفة على دارون في القرن التاسع عشر عندما كان لديهم إحساس بأن العالم كان ذاهبا في اتجاه معين، ثم وجدوا أنفسهم بسبب جريان الأمور خلافا لتوقعاتهم في حالة من الاضطراب، الأمر الذي أفقدهم توازنهم وجعلهم يغضبون. والأمر نفسه يقال اليوم عن المثقفين العلمانيين الليبراليين الذين أحسوا أن العالم كان ذاهبا في اتجاه معين، وأن كل شيء كان يسير وفق الخطة، وعندما بدا أن الأمور تسير خلافا لما كانوا يتوقعون، ارتبكوا وفقدوا توازنهم. لهذا ترى هذه الظواهر المثيرة للشفقة. توضع أشياء كهذه على الحافلات كما لو أن ذلك سيجعل الناس يغيرون رأيهم في الله، والكون، ومعنى الحياة. شعار على سيارة! ليس من المحتمل أن يحرك أو يفعل أي شيء أساسي في أي شخص.

 

يبدو أننا أمام حالة مرضية. فالناس في الزمن الحديث ملزوزون بين قطبين، كما قلت أنت: إلحاد قوي من ناحية، وتدين قوي من ناحية أخرى. هذا الأمر يترك الإنسان العادي متأرجحا بين الاثنين، لا ينجذب إلى هذا القطب ولا إلى ذاك: إنه يتخبط في المنتصف.

- هذا الوضع الذي أتيت على ذكره يقود إلى الحيرة، أو إلى اختلاط. وفي كتابي زمن علماني ذكرت الكثيرين من الأمثلة. كان فكتور هيوجو من فرنسيي القرن التاسع عشر الممتازين مثالا للناس الذين شكلوا موقعا متوسطا، وأعتقد أنه ظاهرة واسعة الانتشار جدا اليوم. طبعا هناك حالات فيها خليط بين الموقفين (الإلحاد الشديد والتدين الشديد) بحكم الواقع، بمعنى أننا نكون أمام موقف في الوسط يتشكل دون وعي من صاحبه. وثمة حالات نجد فيها أناسا يقومون بذلك بوعي ذاتي. هذا في أغلب الأحيان ما يعنيه الناس عندما يقول الواحد منهم: أنا روحاني، لكني ليست دينيا . لست دينيا، بمعنى أنني لا أنتمي إلى أي تقليد بصيغته السابقة بحيث أكون ملزما به بشكل صارم؛ و روحاني بمعنى أنني أستكشف هذا المجال ككل.

هذا المشهد المكون من مثل هذا العدد الكبير من المواقف المختلفة -الروحانية من جهة، ومعاداة الروحانية من جهة أخرى، والمواقف التي نعتنقها بشكل تلقائي في المجتمع نفسه- لم يسبق له مثيل في التاريخ، خصوصا أن عدد هذه المواقف يتضاعف. ثمة مواقف ما كان يمكن أن تفكر فيها قبل مائة سنة مطلقا. ذلك المرور نحو موقفين على طرفي نقيض ورد الفعل تجاههما كان سببا في قيامي بمحاولة النظر في بعض الديناميات التي تقف وراء تلك الحالة.

 

 كتبت عن الديمقراطية التحررية أو الليبرالية، وقلت إنها تتحول إلى فكرة مختلطة أو مشوشة متى نظرنا إليها بوصفها فكرة محايدة. لذلك قلت إن الديمقراطية الليبرالية هي نفسها قيمة تتعارض أحيانا مع قيم أخرى، وعددت ذلك أمرا حتميا يجب أن نعترف به.

- لا وجود لشيء أو قيمة حيادية بالكامل، خصوصا إذا اتصل الأمر بالكلام على الحياة المرفهة. ففكرة المشاركة، أو المواطنة، أو مشاركتك في تقرير مستقبلك ومجتمعك ليست قيما اختيارية . إنها إذا جاز التعبير: أشياء وثيقة الصلة جدا بمجرى الحياة الليبرالية، والمجتمع الديمقراطي. يجب أن نكون واضحين وصريحين حول ذلك.

 

وفي أمر ذي صلة، اقترحت في مقاربة الكلام على المنظورات الثقافية المختلفة ضرورة تبني لغة المقارنة الواضحة، وأهمية البحث دون كلل عن شكل للخطاب يبرز الاختلافات بين تلك الثقافات، بدلا من محاولة تسويغها أو التوفيق بينها.؟

- أعتقد أن ذلك ما يجب أن نهدف إليه إذا كنا نريد إخراج هذه الاختلافات إلى مستوى المناقشة العقلانية والهادئة، أعني مناقشة كيفية العيش معا مع وجود توترات بين المجموعات المختلفة. بمثل هذه اللغة فقط يمكن أن نصل إلى مناقشة لا ترتد إلى نوع من وشم الآخرين واتهامهم. ليس هذا مهما فقط في قاعة الدرس أو عند دراسة علم الأجناس البشرية، بل هو مهم جدا في نقاشنا العام. هو أمر نحتاجه بشكل ملح في مجتمعاتنا المتنوعة. أنا مسرور بشأن ما حدث مؤخرا في النقاشات العامة في كيبيك في كندا حول التطرف الديني. فقد تحدث بعض الحضور بأشياء تشبه الخوف من الأجانب، ووجدنا آخرين من المسلمين يقولون لهم: أنتم مخطئون، وتطور النقاش إلى شكل غير كاريكاتيري في عرض الاختلافات. أعتقد أن ذلك ما يجب دائما أن نحاول القيام به.

 

في مقابلة مع براين ماجي (Bryan Magee) في العام 1978، قلت إن هناك درسا نتعلمه من ماركس: في اللحظة التي طور فيها البشر إمكانية هائلة للسيطرة على حياتهم وخلق أنفسهم بأنفسهم -إذا جاز التعبير- سحبت هذه القوة من أيديهم بفعل انقساماتهم الداخلية، ثم وجدناك تكتب بهذه الروح نفسها في كتابك أخلاق الأصالة عندما تحدثت عما أسميته الكفاح المستمر، وهو تعبير استعرته من اللواء الأحمر الإيطالي. هل أردت أن تقول اليوم إن هذه الدرجة من الفوضى وعدم الاستقرار في المجتمع الغربي حتمية؟

- أتمنى أن لا يكون من الضروري أن نتعايش مع هذا المستوى من الفوضى في اقتصادنا! لكن بالمعنى العام لا توجد حلول حاسمة ونهائية. هناك معضلات عميقة، وخيارات مختلفة، ويجب أن نجد طريقا أقل دمارا عند الجمع بين الأشياء المختلفة. أعتقد أن ذلك صحيح أيضا بالنسبة إلى المعضلة الحالية. هناك من ناحية الحاجة إلى الأسواق مع درجة معينة من الحرية، وهناك من ناحية أخرى الحاجة لكبح النتائج الفظيعة التي يمكن أن تجلبها تلك الأسواق إذا تركت دون رقابة: سيصبح القرار في هذه الحال صعبا.

الأمر نفسه يصدق على اتجاهين فلسفيين عريضين، سميت الأول الاتجاه التقني، والثاني الاتجاه التعبيري . أعتقد أن لدى معظمنا كلا التوجهين، لكن من الواضح أن ثمة أناسا يميلون أكثر إلى واحد دون الآخر، وكل فريق في حال من التأهب ضد الفريق الآخر. لا أعتقد أننا سنصل إلى حل نهائي وجازم. هذا ما كنت أعنيه عندما تحدثت عن الكفاح المستمر. سيكون لدينا دائما مشكلة في التوفيق بين الرؤى المختلفة. ثمة من يدفع دائما بشكل قوي جدا في اتجاه واحد، ولا يعير انتباها إلى المتطلبات الأخرى. وأنا مقتنع أننا نحتاج دائما إلى العمل معا لحل يستمر بين الاتجاهات المتعارضة.

 

 إذن، فالأمل بقدرتنا على الكفاح من أجل الوصول إلى مستوى أعلى تنحل فيه النزاعات الثقافية الأساسية ليس سوى أمل كاذب؟

- إنه أمل كاذب حلم جميل فحسب. وليس هو بالشيء الذي يمكن تحقيقه أصلا كي نتطلع إليه. إنه أمل كاذب بالمعنى الذي ورد في الماركسية الأصلية. وهذا بالمناسبة ما يجعل قراءة الماركسية فلسفيا أمرا مهما، لأنها تتضمن تعريفا دقيقا للتناقضات الثقافية الرئيسية، مع أن الماركسية في شكلها ذاك ترتكب خطأ أساسيا عند الكلام على طريقة حل ذلك التناقض. وكما هو سيئ أن لا نرى التناقض -في هذا الشكل من الليبرالية الجديدة التي لا تعي وجود تناقضات ثقافية رئيسية مطلقا- كذلك هو النظر إلى هذه التناقضات وكأنها ستتلاشى بسهولة بدعوى تحول الجميع إلى العولمة. هذا نظير السمت المطلق للعمى. يجب أن يلقن هؤلاء الليبراليون الجدد ماركس تلقينا، وإذا حدث وتحولوا كليا إلى الماركسية، فربما وجب أن يستفيقوا بعد ذلك منها بجرعة خفيفة من الحقيقة!.

 

ترجمة: أيمن حمودة -الأردن

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1370 السبت 10/04/2010)

 

في المثقف اليوم