حوارات عامة

المثقف تلتقي في القاهرة الاستاذ د. عبد المنعم تليمة

من خلال إشرافه علي المئات من الطلاب ورسائل الماجستير والدكتوراه لباحثين من أرجاء الوطن العربي. ومشاركته في المؤتمرات والندوات. وإلقاء المحاضرات التي تتابع الإبداعات الجديدة وتناقش التيارات الفنية والنقدية المختلفة. بالإضافة إلي ندوته الأسبوعية التي تستهدف تعميق لغة الحوار بين جماعة المثقفين.

والدكتور عبد المنعم تليمة له مكانة بارزة علي خارطة الثقافة العربية عامة وحركتها النقدية خاصة، فهو عضو جمعية الدراسات الشرقية بطوكيو، عضو مؤسس لاتحاد كتاب مصر، عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية للأدب المقارن، عضو مؤسس للجمعية المصرية للدراسات اليونانية واللاتينية، عضو مؤسس وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للنقد الأدبي، خبير بمجمع اللغة العربية. وله العديد من المؤلفات الأدبية والنقدية. -حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة .

التقته في القاهرة صحيفة المثقف متمثلة بالاديبة العراقية وفاء عبد الرزاق فاجرت معه الحوار التالي:

 

المثقف: بعد التجربة الأولى أو النشأة الأولى وعلاقتك مع الكتاب في مكتبة الأسرة خاصة وأنك تشبعت بكتب البخاري والقرآن الكريم والسير الشعبية وكتاب ألف ليلة وليلة انتقلت إلى القاهرة . ما هي علاقتك مع على أحمد باكثير؟

- ولدت في يوليه سنة 1937 وانتقلت مع أسرتي إلى القاهرة سنة 1946. في هذه السنوات التسع الاولى من حياتي درست في كتاب القرية وفي المدرسة الأولية حفظت القرآن الكريم ومبادئ علوم التربية، وحملت معي ذكريات غالية مع الحواديت والقصص الشعبي والمواويل والتواشيح مع صلة مباشرة بكتاب الفقه على المذاهب الأربعة وتفسير ابن كثير وصحيح البخاري وقصص الأنبياء وفي القاهرة التحقت بمدرةس الدواوين الإعدادية الثانوية حيث كان علي أحمد باكثير يقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لازمته خمس سنوات وجهني في قراءاتي وعرفني بكثير من زملائه وأصدقائه من المبدعين والأساتذة في الصحافة والجامعة.

 

المثقف: كيف اتصلت بالرواد الكبار وكيف تأثرت بهم؟

- صاحب أكبر الأثر كان الرائد الخالد طه حسين درست على يديه بكلية آداب القاهرة وظللت على صلة حميمة به إلى أن رحل آخر اكتوبر سنة 1973 . مات أحمد أحمد شوقي قبل أن أولد بخمس سنوات لكن خوالده الشعرية كانت لي زاداً شعورياً وجمالياً هائلاً، وكانت باباً دخلت منه إلى علاقة فريدة بشيخ الإبداعية العربية الحديثة الموسيقار محمد عبد الوهاب . وشدني حزم عباس محمود العقاد وانضباطه الفكري والحياتي يحيى حقي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ كانوا مداخلي إلى عوالم الأدب المسرحي والقصصي والروائي أما سلامة موسى فكان معلمي الأول في الفكر العصري والتقدمي والاشتراكي .

 

المثقف: ما الانتقالات الفكرية والعلمية الأساسية في مشوارك الطويل وهل كنت تبحث في كل مرحلة عن تليمة جديد؟

-  أول مرحلة كانت للتأسيس الضروري:

علوم العربية وآدابها الموروثة، والنص القرآني الكريم وتفاسيره الكبيرة والموروثات الشعبية . ومررت بمرحلة ثانية تفتحت فيها على الأبنية الثقافية والحضارية والإبداعية للأمم الأخرى القديمة والوسيطة والحديثة فبدأت باليونانية واللاتينية القديمتين ثم رحلت إلى الشرق الأقصى حيث عشت عشر سنوات في اليابان اتصلت فيها بالأديان والفلسفات والابداعات الشرقية: هندية وصينية ويابانية وانتهيت إلى المرحلة الراهنة التي أخلص فيها جهودي في حقلين كبيرين، أولهما المشاركة في تأسيس علم الجمال، وثانيهما الاجتهاد في الفكر الاستراتيجي لصور المستقبل.

 

المثقف: ماذا تقول لنا عن علم الجمال؟

- شغل البشر منذ درجوا على كوكب الأرض بتفسير الظاهرة الفنية . وعرفت العصور القديمة ومضات انطباعية وتأثرية ترد الفن إلى مصادر غامضة وسحرية، ثم عرفت البشرية في تراث العرب واليونان والفرس والهنود والصينين نظرات عميقة في حقول اللغة وفلسفة البلاغة وما هية الجمال والسمو والجلال. لكن القرنين التاسع عشر والعشرين قد شهدا نتائج غير مسبوقة في علم اللغة وفي الدرس الكيماوي والطبيعي لأدوات الفنون الأخرى: الضوء والنور والظل والمساحة والفراغ والكتلة والتتابع الزمني .. الخ. كل هذا وفر مواد غزيرة لتأسيس علم منضبط للفن.

 

المثقف: أخذت عن شيخ الأدباء طه حسين محددات صارمة لمهمة المثقف وواجبه الاجتماعي هل من ضوء؟

- نعم تعلمت من طه حسين مصطلحين يحددان بنصاعة بيان وحسم فكري مهمة المثقف وواجبه:

• المهمة مدارها العمل الفكري والعلمي المنهجي المنظم حتى يتساوى المثقف العربي مع أقرانه الدارسين والعلماء والمبدعين في أكثر الدوائر تقدماً في العالم.

• والواجب مداره نشر ما حصله المثقف بكل الوسائل مؤسسات المجتمع المصري الديمقراطي المنتج، من جماعات وجمعيات واتحادات ونقابات ومنظمات العمل الديمقراطي المستقلة.

 

المثقف: ألا ترى أن أدباء العصر بعيدون كل البعد عن منطقك هذا أو المبدأ الذي نتمنى جميعاً أن نحذو حذوه على يد أستاذ الجليل؟

- المثقفون العرب يعلمون في ظروف بالغة القسوة:

إن الأنظمة الحاكمة تحتكر إدارة البلاد وتنتصر للفكريات المتخلفة والجامدة، وتحاصر وتصادر أي ابداع فكري وأي توهج فني حقيقي.

ولا نعطي المثقفين الذين شارك بعضهم في إقامة أعمدة الاستبداد.

وعلى الرغم من هذه الأوضاع التعسة فإن ثمة صحوة إبداعية عربية راهنة بخاصة في ظل أدوات الاتصال وتقنيات التوصيل العصرية.

المثقف" هلا حدثتنا عن رحلتك إلى اليابان؟

عشر سنوات في اليابان محطة أساسية طويلة في حياتي .

لم أذهب لزيارة سريعة ولم أذهب طالب بعثة لسنتين أو ثلاث وإنما ذهبت وأنا في الأربعين وقد رقيت إلى درجة استاذ كنت أعرف ما أريد :

 التعرف المباشر على حضارات الشرق البعيد وعقد الأوامر والصلات مع الدوائر العلمية ودرس طرائق إدارة الحياة الثقافية والمنظمات الديمقراطية، والحياة الحزبية والاجتماعية .

كان عملي الأكاديمي منتجاً: أشرفت على رسائل وبحوث وأنجزت أعمالاً مشتركة مع العلماء اليابانيين، وأقمنا حوار إسلاميا بوذياً لمدة سنتين، وحواراً عربياً يابانياً لمدة سنتين، وترجمنا أمهات من التراث، مروج الذهب للمسعودي ومقدمة ابن خلدون وألف ليلة ورحلة ابن جبير، ومن الأدب العربي الحديث أعمالاً لتوفيق الحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف أدريس ومنتخبات من أشعار جبران وأدونيس ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور.

وثمة ذخيرة هائلة عدت بها ولا تزال معي وستظل إلى آخر العمر: الصداقات مع الإعلام من المفكرين والعلماء والفنان، واتفاقات العمل المشترك في الحقول المعرفية والعلمية والاستراتيجية.

 

المثقف: حبذا لو تعرف قراء المثقف بـ (لقاء الخميس).

- في يولية سنة 1956 حصلت على الثانوية العامة، في نفس اليوم الذي أعلن فيه جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. أصبح العالم في قلب مناخ ينذر بحرب عالمية كبرى. بعد افتتاح الجامعة بأسبوعين بدأ العدوان الثلاثي الاستعماري على مصر. لم تكن هناك في معظم الدول العربية جامعة، ولم تكن الجامعة الأقليمية في مصر قد نشأت وجدنا أنفسنا أعداد كبيرة من الشباب العربي والمصري: نحضر نهاراً التدريب العسكري، ونلتقي ليلاً في بيتي، ولما أنجلى الموقف كنا قد ارتبطنا بعلاقات وصداقات مفيدة ودافئة، فقررنا أن نلتقي في بيتي مساء كل خميس.

كان اللقاء في البدء طلابياً يتسع للتجارب المبكرة في القصة والشعر والموسيقى، ثم صار بعد التخرج يضم شباباً من المبدعين والنقاد والدارسين وتطور الأمر بعد انتقالي إلى حي الدقي، فصار اللقاء برنامج وخطة ومجلس إدارة وعلاقات قوية بداخل مصر وخارجها.

وعند تقويمنا لعملنا بمناسبة مرور نصف قرن على بدئه وجدنا:

-  أن اللقاء قد كان ولا يزال وعاء للعمل الثقافي في الديمقراطي المستقبل .

-  أنه قد شهد اجتهادات فكرية وابداعات فنية مرموقة .

-  أنه قد شهد نشوء تيارات واتجاهات تجديدية .

في المجالات الشعر والقصة القصيرة والمذاهب الاجتماعية والمناهج الفكرية والعلمية والاستراتيجية .

-  أنه يتطور هذه الأيام ليصير جمعية مسجلة مشهرة باسم : الجمعية المصرية للدراسات الجمالية.

 

المثقف:  حدثنا عن المشروعين العلميين الذين لفتا أهل الاختصاص :

- أولاً: الثقافة العربية بين الوحدة والتنوع.

أنشأت الأمم المتحدة سنة 1978 جامعة العلماء والباحثين (جامعة بلا طلاب) وبدأت هذه الجامعة بمشروعات أربعة: أمريكا اللاتينية – وأفريقيا – وآسيا – والعالم العربي. وكان من نصيب الأشراف على المشروع الثقافي العربي، ومعي من الدارسين العرب والأجانب خمسون وعملنا أربع سنوات وخرج العمل في ثلاثة مجلدات طبعت في بيروت سنة 1986:

-  الأدب العربي بين الوحدة والتنوع .

-  الهوية القومية في السينما العربية .

-  العمارة العربية الإسلامية .

والمشروع الثاني : مصر 2020 .

غايته دراسة الوطن المصري من كافة الوجوه وفي كافة الحقول: الحضارية،التاريخية، الاجتماعية، الثقافية، السياسية .

في مجريين كبيرين :

تقويم مصر منذ وفاة جمال عبد الناصر سنة 1970 في ربع قرن تنتهي 1995: ربع قرن فات وتخطيط رؤى لمستقبل البلاد في ربع قرن 1995 / 2020 : ربع قرن أت .

وعمل المشروع 130 دارساً وعالماً وخرجت أعماله سنة 2004 في حوالي 30 مجلداً.

أشرفت على المحور الثقافي، الذي شاركني فيه عشرون باحثاً. والرؤى التي صنعناها صارت واستقرت في الدوائر العلمية وأهل الاختصاص وأهل الحل والعقد.

 

المثقف: تعتبر في كثير من كتاباتك أن المفكر المستقل عليه أن يقيم مداخله على أسس حضارية وتاريخية.

- عنيت طول حياتي باكتشاف الموازنة بين الابداع الفكر والعلمي والجمالي، والتشكيلات الحضارية والتاريخية للمجتمعات البشرية، وفي صدارتها مجتمعي، ومن هنا نضج لدي بقوة مفهوم الالتزام الذي بدونه يفقد المفكر مغزى وجوده.

 

المثقف: وهل رأيت أن التشكيلات الابداعية قد ساعدت هذه المجتمعات ووجهتها إلى سلوك الخير والعدالة والحرية.

- بدون التشكيلات الجمالية تصير المجتمعات البشرية غابات همجية تسودها شرائح القتل والسفك .

 

المثقف: في هذا الأفق الذي تصوغ مسئولية الابداع عن تجديد وتطوير المجتمعات البشرية، كيف ترى إلى تجديد الشعر العربي في العصر الحديث، وبخاصة أخر حلقات هذا التجديد : قصيدة النثر؟

- الشعر هو القطعة العظمة الغالية في حقول الابداعية العربية من قبل الإسلام بقرنين إلى يوم الناس هذا لذلك كان الشعر ولا يزال قاعدة الابداعية في سعيها إلى التجدد في النهضة العربية الحديثة القرنين التاسع عشر والعشرين إلى اليوم وسيظل كذلك مادامت هذه الإبداعية متفتحة متوهجة.

تجديد الشعر العربي هو القضية الثقافية المركزية في تاريخنا الحديث وهو الوعاء الحافظ لكل المعارك الفكرية والسياسية والاجتماعية . هو الذي حمل ألوية التحرر الوطني والتحديث الاجتماعي وهو الذي مجد العقلانية وأضاء سبيل المستقبلية.

وقصيدة النثر هي التجلي الراهن لتجديد الشعر العربي . لقد رسخت هذه القصيدة بمواهب عالية لعشرات الشعراء المبدعين الذين احتلت دواوينهم مكاناً مرموقاً في الانتاج الابداعي العربي.

 

المثقف: ما قولك في السعي الراهن إلى عقد قمة ثقافية عربية؟

- العروبة ثقافة، وإذا لم تم دعوات وحركات التضامن والتوحيد على أسس ثقافية متقدمة فإن الأمر ينتهي إلى دائرة الاستبداد والأنظمة المتخلفة.

العروبة ثقافة . ولقد تأخرنا كثيراً في تثبيت هذا القول إيماناً في القلوب وعقيدة في العقول.

إنما رجاؤنا اليوم أن نجيد الاعداد لهذه القمة التي أدعو أن يشارك في الترتيب لها وفي أعمالها عناصر من الجمعيات المدنية والمنظمات الديمقراطية المستقلة وعلماء ومفكرون وفنانون أحرار من كافة المدارس والاتجاهات والمذاهب والمناهج.

 

المثقف: أنت استاذ علم الجمال، ومفكر كبير في رأيك كيف يمكن للجمال أن يقوم بدور ثوري في تحريك الوجدان والعقل العربي نحو آفاق أوسع وأكثر تقدماً .

- خلق الله الإنسان واختصه بطاقة ليست لغيره من الكائنات والمخلوقات: طاقة الخيال هي امكانية فذة لإعادة بناء الواقع. كل واقع مقهور مستغل مفتت مبدد، وطاقة التخيل تعيد البناء في اتجاه واقع أكثر انسانية، موحداً عادلاً، نبيلاً، حراً، عصرياً، ديمقراطياً، حراً.

تتعدد صور القهر، سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، إنما اخطر صور القهر هو القهر الجمالي الذي يسلب الإنسان جوهره البشري الحق ويعود به إلى الهمجية والبدائية.

أنص دائماً على الطريق إلى الفن والخلاص به.

الطريق إلى الفن مغزاه العميق إعداد البشر بالتربية وتدريب الذائقة وعادات التلقي، ووصل هؤلاء البشر بالمورثات والخوالد الإبداعية التي أنجزتها الحضارات والأبنية الثقافية عبر التاريخ الإنساني الطويل.

بالذائقة الجمالية المدربة

والاتصال المنهجي المنظم بالخوالد

والعادات الصحية والصحيحة في التلقي

بهذا كله نحرر الإنسان من كل قهر، فيعود

إلى طبيعته الإنسانية وجوهره المبدع الحق

 

المثقف: كلمتك إلى المبدع والمثقف العراقي :

- إنكم طليعة شعبكم العراقي العظيم، في نضاله الباسل لتحرير الوطن وتوحيد صفوف الشعب وبناء المستقبل الحر الديمقراطي معكم على الطريق.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1460 السبت 17/07/2010)

 

في المثقف اليوم