حوارات عامة

حوار مع د. هاشم عبود الموسوي في العمارة والعمران (4)

د. هاشم: مع الزيادة السكانية والحاجة إلى التوسع العمراني لتلبية احتياجات السكان من السكن والخدمات والمرافق اللازمة ظهرت صور جديدة وأنماط متباينة من المنشآت أثرت على البيئة البصرية للمدينة مما كان له الأثر السيئ في تلوث المدينة بصرياً وافتقادها لطابعها المميز.

ويرجع التلوث البصري لكل ما يتواجد من أعمال من صنع الإنسان تؤذي الناظر من خلال مشاهدتها وبمرور الوقت تفقده الإحساس بالقيم الجمالية، وتكون تلك الملوثات عادة غير طبيعية ومتنافرة مع ما حولها من عناصر أخرى وبناء على ذلك فالتلوث البصري يأتي نتيجة للإهمال وسوء الاستعمال وسوء التخطيط والتصميم إلى جانب سوء السلوكيات الاجتماعية والاقتصادية خاصة في مجتمعات العالم الثالث ذات التعداد السكاني الضخم والنقص في مواردها الاقتصادية ووعيها الاجتماعي والثقافي.

 

م.صبا: هل لكم أن تتحدثوا لنا بشكل أكثر تفصيلاً عن مظاهر هذا التلوث وأسبابه؟

د. هاشم: نعم لقد قلنا من أجل مواجهة تحديات التوسع السريع للمدن والعواصم العربية يحتدم الصراع بين القديم والحديث بالإدخال السريع لتقنيات التصنيع وطرق الإنتاج الجديدة مما أدى إلى اختلال عام في الهيكل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ويكون ذلك واضحاً في المناطق ذات التراث مما يعرضها لفقدان الهوية والذات ورفض القيم المتوارثة لصالح نماذج غريبة مستوردة في تشييد البناء، بالاضافة إلى ذلك اعتبار الجماليات تلعب دورا ضئيلاً وثانوياً في التصميمات المعمارية الحديثة مما أدى إلى التلوث البصري بالاضافة إلى استبدال المسكن التقليدي الذي كان ملائماً للحياة المعيشية بنموذج جديد غير مناسب نمطي ومستعار من الخارج يمكن تطبيقه في أي مكان بالمدينة، وبذلك يتم القضاء على صفحات كاملة من تاريخ أمتنا وذاكرتها المرئية بالإزالة والإحلال والإهمال في الصيانة والتلوث البصري.

وبالرغم من الاتجاه الداعي إلى تعمير الصحاري على أطراف المدن لامتصاص التوسع المدن العمراني إلا أن التعديات مازالت مستمرة على المدينة القائمة وضواحيها للقضاء على تراثها.

 

م.صبا: أراكم تتحدثون أحياناً عما يُسمى بـ«القيمة البصرية»، فكيف تتكون هذه القيمة

د. هاشم: إن استمرارية بعض الملامح البصرية للمباني في مكان ما تعطي إحساساً بالوحدة وبالقيم المشتركة مما يؤكد الإحساس بذلك المكان ككيان واحد، والطابع هو حصيلة ملامح التشكيل الخارجي السائد في مكان ما وتميزه وتدعم قدرة المشاهد على إدراكه وتعطي له شخصية موحدة تميزه عن غيره من الأماكن.

وينقسم الطابع تبعا لصفات الملامح السائدة إلى ثلاث مستويات هي الطابع العام والطابع العمراني والطابع المعماري…

فالطابع المعماري هو حصيلة صفات التشكيل الخارجي السائد في تكوين الواجهات أو الغلاف الخارجي للمباني في مكان ما. ويكون الطابع المعماري هو أحد مكونات الطابع العمراني الذي يعرف بأنه حصيلة صفات التشكيل الخارجي السائد في تكوين مجموعات المباني والمسارات والفراغات العمرانية والمحيط الطبيعي في مكان ما، ثم يكون الطابع العمراني هو أحد مكونات الطابع العام الممكن تعريفه بأنه حصيلة الإدراكات المستْقَبلَة عن طريق الحواس السائدة في مكان ما (بصرية – سمعية – لمسية - … الخ).

ويجب الإشارة إلى أن قيم أو ملامح التشكيل السائدة في مكان ما والمكونة لطابعه لا تعمل كلا منها منفردة بل تساند بعضها بعضا، ففي مكان ما عندما تنتشر قيمة واحدة فقط وتحقق استمرارية دون غيرها من الملامح الأخرى نحصل في النهاية على طابع ضعيف، ويكون الطابع أقوى وأسهل في إدراكه لمكان ما كلما زاد عدد الملامح المميزة للمكان.

أي أنه يجب حدوث قدر معين من التكرار للقيم والملامح التشكيلية السائدة للحصول على طابع أقوى وهو ما يمكن حدوثه في حالات متعددة.

 

م.صبا: ماهي الحالات التي يمكن أن نقول عنها، أنها تؤدي إلى وجود طابع قوي للمدن التي نتحدث عنها حسب رأيكم؟

د. هاشم:

أ) عندما يكون عدد مكونات الطابع من الملامح التشكيلية السائدة اكبر.

ب) عندما تكون نسبة انتشار أو سيادة كلا من مكونات الطابع أكبر.

ج) عندما تكون الأهمية النسبية لمكوناته الفعالة أكبر.

وأخيراً يجب التنبيه بأن توفير الاستمرارية للملامح التشكيلية في مكان ما لإضفاء طابع محسوس له وبنسبة زائدة عن الحد (تقترب من 100% مثلا) يؤدي إلى الإحساس بالملل.

 

م.صبا: ما هي مصادر التلوث البصري في المدن وما هي مظاهرها؟

د. هاشم: تكمن خطورة التلوث البصري في ارتباطها بالدرجة الأولى بفقد الإحساس بالجمال وانهيار الاعتبارات الجمالية والرضا والقبول للصورة القبيحة وإنتشارها حتى أصبحت بالمقياس المرئي للعين عرفا وقانونا موجودا، وتزداد خطورة التلوث البصري عندما يصبح أمراً واقعياً يصعب إصلاحه. وتقع مسئولية وجود مصادر التلوث البصري على المهندسين (المعماريين والمخططين) والإداريين والمسؤلين القائمين على هذه المناطق إلى جانب المصدر الهام والرئيسي المتمثل في سلوكيات المجتمع اجتماعياً واقتصادياً بصفة عامة وسكان المناطق الملوثة وزائريها بصفة خاصة، ويمكن رصد مصادر التلوث البصري ومظاهرها في شوارع وميادين المدينة فيما يأتي:

1- زرع مباني حديثة ذات ارتفاعات متفاوتة وبشكل صارخ محل المباني ذات الطابع التي هدمت بفعل أصحابها لصالح مزيد من الاستثمارات ولتحقيق أرباح اقتصادية، وعدم تجانس المباني الحديثة بتصميماتها وتشطيباتها مع طابع الإطار العام المحيط أدى إلى وجود بؤر تلوث بصري معماري لا يمكن إخفائها.

2- الإتجاه إلى إزالة الفيلات والعقارات ذات الارتفاعات المحدودة (2-4 أدوار) وما تحويه من مسطحات خضراء لتحل محلها كتل بنائية صماء ذات كثافة بنائية وسكانية مرتفعة واختفاء الحدائق والاشجار مما كان سبباً في التلوث البصري الجمالي والوظيفي.

3- الامتدادات الرأسية والأفقية أحياناً للمباني القديمة بأسلوب حديث دون إحترام أو دراسة لطابعها الأصيل أوجد تنافر بين القديم وإمتداده الجديد وأصبح مصدر تلوث بصري للمكان.

4- التسابق إلى استخدام الألوان الصارخة في الواجهات كشكل من أشكال إثبات الذات والتفوق على الغير.

5- أدى القصور في تحقيق الاحتياجات المعيشية داخل المساكن إلى قيام السكان بإجراء إضافات على العناصر الخارجية للمباني وتعديل واجهاتها سواء بالتغيير في موضع الفتحات أو إغلاق البلكونات وغيرها مما أدى إلى تشويه الطابع المعماري لواجهات تلك المباني.

6- تحويل الدور الأرضي في العمارات السكنية إلى محلات تجارية في بعض المناطق غير التجارية طبقاً للأهواء الشخصية والذوق الخاص لصاحب المحل مِما أفقد الطابع العام لتلك المناطق.

7- تعد (الجسور) الكباري العلوية للمشاة والسيارات إحدى مصادر التلوث البصري، ومن أهم آثارها أيضاً جرح الخصوصية للمباني المطلة عليها وارتفاع نسبة الضوضاء واختفاء واجهاتها وتشويهها.

8- أدت الحاجة إلى المزيد من أماكن انتظار السيارات ومع عدم توافرها في المخططات العامة للمدينة مما أدئ إلى استخدام الميادين والأرصفة المخصصة للمشاة لانتظار السيارات مما أدى إلى تشويه المنظر العام بالإضافة إلى إعاقة حركة المشاة والمرور الآلي.

9- الإشغالات المستمرة للطرق والأرصفة بأعمال التشويقات إلى جانب ازدحام الأرصفة والحدائق بغرف الضغط العالي والمحولات الكهربائية والأكشاك وإشغالها باستعمالات مختلفة.

10- الإعلانات بأنواعها المختلفة من ناحية أشكالها وأماكنها والتركيز الشديد على العنصر المادي دون النظر إلى الجوانب الجمالية أو الراحة النفسية للمارين بها حيث يتم وضع الإعلانات بدون ضوابط أو قيود على استخداماتها على الرغم من كونها وسيلة بصرية مؤثرة على الذوق العام للأشخاص والمظهر العام للمدينة.

 

 

م.صبا: هل لكم أن تذكروا لنا في هذا المجال نوعيات من الإعلانات المشوهه للصورة البصرية في المدينة.

د. هاشم: الإعلانات المشوهه للصورة البصرية على أنواعٍ مختلفة منها:

أ- الإعلانات على حوامل خشبية أو حديدية والتي تحجب ما خلفها من منظر.

ب- الإعلانات على واجهات المباني رأسية أو أفقية أو غير مضاءة أو أعلى تلك المباني مع اختلاف أحجامها ومسطحاتها والغرض من وضعها وتأثير ذلك في تشويه الواجهات والمظهر العام للمبنى والإطار المحيط به.

ج- إعلانات أقيمت بطريقة تسترية أو تحايلية ذات مضمون وظيفي أو جمالي إلا أنه تطغى عليه الناحية المادية بوضع الإعلانات بطريقة لا ذوق في أغلبها وبعيدة كل البعد عن الغرض الوظيفي والتشويه أكثر بكثير من نفعها بسبب سوء تصميمها من ناحية الشكل العام أو الصناعة. ومن أمثلتها الساعات ونافورات المياه ومظلات الجلوس والقوائم التي توضع عليها أسماء الشوارع.

 

م.صبا: هل توجد مصادر أخرى للتلوث البصري على مستوى المدينة؟

د. هاشم: نعم إنّ التعديل المستمر للقوانين التي تحدد اشتراطات البناء وخطوط التنظيم إلى جانب عدم احترام القوانين المنظمة للعمران والتحدي المستمر لها من قبل ملاك العقارات مما أظهر مشاريع  متنافرة الاستعمال والارتفاع وغير متجانسة مع ما حولها. هذا إلى جانب أن غالبية مناطق العمران تفتقر إلى القوانين والاشتراطات الخاصة التي تحافظ على طابع كل منطقة.

 

م.صبا: أخيراً نود منكم أن تذكروا لنا بعض التوصيات التي ترونها مهمة ومناسبة للمحافظة على جماليات البيئة البصرية في المدينة.

د. هاشم: نظراً للتعدي المستمر على الطابع العام للمناطق العمرانية وتشويه الصورة البصرية للمدن التراثية الأصيلة وللحد من ظاهرة التلوث البصري بمناطقها والحفاظ على ما تبقى من جمال وتحسين الأداء والتذوق المرئي يمكن وضع مجموعة من الأسس الواجب مراعاتها للمحافظة على البيئة وجمالها بصرياً ورفع كفاءتها توفيراً للراحة والجمال لكل ما يحيط بنا. وهذه الأسس تشمل النقاط الآتية:

1- الاهتمام بدراسة نظريات الجمال لرفع المستوى الثقافي والفني للمعماري وطلبة العمارة والفنون ومحاولة تنمية قدراتهم على التشكيل الفني الجمالي إلى جانب رفع المستوى العام للذوق لدى أفراد المجتمع عن طريق برامج توعية يساهم فيها قطاع الإعلام بالدولة.

2- ضرورة تدعيم الإدارات المحلية المسئولة عن إصدارات التراخيص بأصحاب الخبرة الفنية من خارجها مع إعطاء سلطة القرار وتنفيذه للجهات المختصة فنياً لإبداء الرأي بالسماح أو الرفض لما هو معروض عليها من مشروعات.

3- إعادة تقنين اللوائح الحاكمة لوضع الإعلانات ومشاريع تجميل المدينة وتشكيل لجان من المتخصصين لها أيضاً سلطة القرار مع دعم دور الجامعات ومراكز البحوث كلا في تخصصه للمشاركة بالرأي والعمل في المشاريع المقدمة.

4- ضرورة تطبيق القانون بحزم ومراجعة الاستثناءات والثغرات الموجودة بالقانون والتي تعد المخرج القانوني للمخالفين مع تحديد المسئولية ومحاسبة المسؤل (مهندس – إداري) المتسبب في تعطيل تطبيق وتنفيذ القانون ومتابعته.

5- الالتزام بالطابع العام للمنطقة عند القيام بمشاريع الإحلال والتطوير مع ضرورة إلزام المحلات التجارية بعدم التعدي على الفراغات الأمامية بهدف إتمام أعمال الديكور وإلزامهم بحدود المحل فقط، ومراعاة الطابع العام للمنطقة.

6- الالتزام بتطبيق معدلات الكثافة البنائية كما نصت عليها القوانين المنظمة للعمران حفاظاً على الهيكل العام للكتلة العمرانية وإزالة المخالفات وتطبيق العقوبات اللازمة مع ضرورة إلغاء بنود الاكتفاء بتحصيل الغرامات على الأعمال المخالفة دون إزالة لها بهدف التصليح.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1485 الخميس 12/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم