حوارات عامة

مع الشاعر والأديب والناقد سامي العامري

samey_alamriفي البداية أهدي أجمل التحايا إلى القراء الأفاضل وأنا أحاور الكاتب والناقد والشاعر والأديب سامي العامري، إنه شاعر يجمع بين المرح والحزن شاعر رائع وشفاف ورقيق جداً وكلماته جميلة رائعة.

كلماته تملك القلوب فشكراً جزيلاً له على قبوله إجراء الحوار الحر والمفتوح وعلى استجابته، إنه لقاء ودي أدبي وثقافي معرفي وهو وقفة مع شاعر وفيلسوف عن قرب واليكم الحوار مع محبتي للجميع:

للعامري حبيبان لا يفارقانه حتى وإن قررا هلاكه فهو رهين حبهما المدمر . القهوة التي لا تبرد أبداً والسيجارة التي لا تنطفيء وعندما تنتابه حالة غضب تجاه إحدهما يتوارى خلف ستارة شُباكه ليراقب من خلال زجاج النافذة حركة السير في الشارع الممتد بلا نهاية، وحينما يفتح النافذة ويطل برأسه تربت على كتفيه ذرات المطر ليبدأ يحس بالإرتياح والإنشراح من جديد ويعود يعانق حبيبيه اللذين يستقبلانه بفرح ويَقبلان توبته !

وعندما تنتابه لحظة الجنون يهجم على ما تبقى في فنجان القهوة برشفة شرهة ومصة طويلة من بقايا سيجارته التي أنهكها الإحتراق ...

تسأله عن ماضيه فيتحسر ويكاد يذرف دمعة ولكنه سرعان ما يستدرك ويقول دعك من الماضي ودعنا نرى الحاضر ونستشرف المستقبل  .... ولما يصمت تتبسم عيناه إذْ تحدقان في فضاءات المخيال الشعري فترعد أصابعه وتتفتح أساريره فيروح يفرغ حالات جنونه على البياض ليخرج لنا أحلى القصائد وأرقها، لكنه بين الحين والحين يرنو بعينيه صوب الدانوب معاتباً: (مالك لا تحيّي دجلة أيها الدانوب؟) ...

سامي العامري مزيجٌ متجانس من الشعر والنثر والسرد، 

فعندما تراه يضحك فضحكه بكاء لكنه يخنق دموعه فتروح هي تبحث عمن يطلق سراحها فيبدأ يضحك على استغاثتها ...  هكذا هو صاحب ربة الشفاء .

الشاعر والكاتب والأديب سامي العامري، القارئ يريد أن يعرف من هو العامري المبدع والإنسان؟ أقصد بطاقة تعريف سامي العامري. متى كانت بداياتك الشعرية والأدبية؟ وأي موقف تأثرت به وكتبت عنه؟

- عندما انتقلنا من قرية (أبو غريب) إلى مدينة بغداد في حي المأمون وكان عمري خمس سنوات أحسستُ بفقد هائل وغربة حقيقية ومن شطحاتي آنذلك أني سألتُ والدتي بحزن عن أمها، عن جدتي التي تركناها مع بقرتها في القرية فقالت لي أمي بإشفاق: هي لا تقدر على المجيء يا ابني فلديها بقرتها ودجاجاتها ووو .

هنا سألتها ببراءة نادرة: ولماذا لا تجلب بقرتها معها !؟

هذه الجدة الحنون كانت تحبني بشكل عجيب وأنا كذلك وتسمِّيني: سومان، وعندما سقطت أسنانها الأمامية لاحقاً راحت تناديني بـ ثومان !!

تلك كانت أولى قصائدي !

أنت هربت من العراق ولجأت إلى إيران وهناك رأيت كل الأشياء على حقيقتها فماذا وجدت؟

- كلاجيء هارب من نظام مريع في دمويته وحرب عبثية مأساوية كان فقط خروجي من العراق يعني أني من القلائل المحظوظين غير أني كما هو شأن أغلب أبناء وطني وعوائله هناك سرعان ما أحسست بفتور نشوة الخلاص وراحت أخبار الوطن والحرب تواكب زادنا اليومي والذي كان عبارة عن حساء وخبز في مركز اللجوء في شمال طهران والذي كان يدعى (أوردكَاه كرج) وعلى أية حال كانت حالنا تعسة ولكن لا يمكن مقارتنها مع تعاسة الجيش والموت والإهانات والذل والإنضباط والمخابرات في الداخل، كان الهم الأول لأغلب العراقيين في إيران هو كيفية السفر إلى بلدان اللجوء الأوروبية أو الولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا غير أن السفر كان ممنوعاً أو قولي محرماً شرعاً !

إلا لأصحاب الإنتماءات الدينية طبعاً ومن هو محسوب على السلطة الإيرانية مع بعض الإستثناءات لذلك لم يكن هناك سبيل إلا بشراء فيزا أو جواز مزور أو عبور الحدود مجدداً إلى بلدان الجوار أما على المستوى الثقافي فالكثير من المواهب والكفاءات العراقية عبرت إلى إيران أو هُجِّرت إليها فكان هناك متنفس ما للحديث عن الحرية والإبداع وتقاسم الحلم يتم بشكل مخفيٍّ ولكنه ملموس .

أمضيت فترة طويلة في كولونيا 12 سنة انتقلت بعدها إلى برلين فماذا تركت وراءك هناك؟

- في الحقيقة سنوات طويلة نسبياً من حياتي في ألمانيا رُسمتْ بشكل بوهيمي وكل هذا بسبب كوابيس الحرب التي رافقت الكثير ممن عاشوا تجربتي وهي أيضاً ردّ فعل لا شعوري على سنوات الإذلال متمثلة بالهروب وفترات السجن والخطوط الأمامية فأنا لم أضع في حسابي عندما اشتريت جوازاً مزوراً وفيزا في طهران بعد عام وسبعة شهور من العيش فيها، إلا الوصول إلى أوروبا حيث كنت بسبب حساسيتي المفرطة جداً بحاجة إلى هامش من الحرية لأطلق العنان لصهبائي أو القزالقرت !

بتعبير الأصدقاء وهكذا عشتُ بحدود سبع سنوات مع النعناع أو الزقنبوت !

بتعبير الرائعين يحيى السماوي وحمودي الكناني وبعد ذلك تغيرت طبيعة الكوابيس ونضجتُ أكثر وكنت مع ذلك لا أنقطع عن القراءة وأكتب بين الحين والآخر في كل مكان ممكن، في المسكن، في المقهى، في القطار، في الحدائق وكنت كثير التنقل بين المدن وبدون تخطيط لهذا فبعد عدة سنوات في هامبورغ وسنتين في فرانكفورت ثم في هانوفر حططت الرحال في مدينة كولونيا ومن عجب الأقدار أني تعرفتُ على امرأة بمستوى حلمي هناك ولم أكن أتخيل أنها ستشغل روحي بهذا العمق والتكريس وكانت أكبر مني بعشر سنوات ومرهفة وغاية في اللطف والرقة وغنية كذلك وكان هذا أحد أهم أسرار بقائي في هذه المدينة طيلة تلك السنوات !!

وفي فترة عيشنا سوية استطعتُ مراجعة مخطوطاتي السابقة وتنقيحها وإنجاز ثلاثة مؤلفات في الشعر والقصة والمقال .

ما حكاية ربة الشفاء وهل شفيتَ فعلاً؟

- في سنوات عيشي مع رفيقة دربي الراحلة ريتا نيبركَال كان عليَّّ أن أهجر القزالقرط أو أقلل منه وبالفعل كان في ذلك امتحان لإرادتي فنجحتُ حيث صرتُ أفقد عقلي بشكل عقلاني ! أي بدأتُ أتناول الخمر بمزاج ولا أحنُّ إليها طالما القهوة العربية وشحنة الدخان والراين معي والدافع المشبوب للتعبير بعد الإنغماس في طقسِ التأمل الذي رافقني منذ سنوات حياتي المبكرة، التأمل الذاتي والكوني وتأمل الحياة مع تيارات لذيذة نشوى أسميها الحب، في واحدة من أغزر فترات العمر تفاعلاً مع الحقائق الشعرية وراء الأشياء ورغم نوبات الشقاء التي كانت تلمُّ بروحي بسبب متابعتي لأخبار الوطن والكتابة عنه في مطبوعات الخارج وبعض صحفه الإسبوعية كالوفاق والوطن وعدد من المجلات كالثقافة الجديدة والإغتراب الأدبي وغيرهما كنت أجد في يومي ساعات تتسامى فيها روحي وتلامس جوهرها الخلاق فأبكي هنا فرحاً وأعرف الإبتسام والتفاؤل وكل هذا كان يتم بتطويب وفرح من قبل رفيقة دربي فهي التي وفرت لي الحنان والتفرغ وكان هذا حلماً دون أن أنسى أنني كنتُ أفعل كل ما يفرحها ولا يجعلها تحس ربما بالوحدة أو السأم عند عودتها من بيت أمها الكبيرة في السن والتي كانت ترعاها كثيراً فأنا معروف عني بميلي للنكتة وروح المرح والتحدث في الشؤون العامة والخاصة بحرص وتهوين العقبات وكون فكري وقلبي أكبر من فجيعتي على أية حال،

وبعد عشر سنوات عانقت صديقتي الملكوت فجأة ودون سابق إنذار أو إخطار وحتى هي لم تكن تشكو إلا من ألم بسيط في المعدة ولكنها قبل وفاتها بليلةٍ قالت لي كلاماً غامضاً حمل كلمة الموت ولكن لم أكن أدري .

متى سنرى كتاب ربة الشفاء مطبوعاً؟

- بمساعدة إحدى الزميلات الأديبات الرائعات وتمويلها أرجو أن يصدر كتابي في بداية العام القادم عن إحدى دور النشر .

لماذا ربة الشفاء وليس غير ذلك؟

- إذا كانت علتي غير أرضية فأطبائي غير أرضيين بالضرورة !

الكتاب جاء وأنا في أتون صدمة عاطفية عنيفة وشعور بالأسى وتارةً بعبث الحياة فقد ترجلتْ كلُّ أسئلة الحياة قديمها وجديدها واعتاشت على خلايا فكري ومكنونات وجداني وقاسمتني الفراش مثلما الأرصفة حتى دخلتُ المستشفى طالباً استراحة لا استشارة كما عبَّرتُ في قصيدة:  من أثدائي أُرضِعُ الوحوش ... وهذا الكتاب مُهدى لريتا وهو بدأ بوحيٍ من وقع غيابها ثم اتسعَ في محاولة لاحتواء كل عناصر حياتي بقلقها وإحباطاتها وبساطتها ومصادفاتها وغرائبية العالم ومحاولاتي لمحاصرة أسئلته بدءاً من لب قضايا الوجود حتى لحاء العدم !  قلتُ لحاء العدم لأني لا ألمس في العدم جوهراً وإذا وجد البعض فيه جوهراً فهذا ما حطت عنده سفائنهم أما بالنسبة لفطرات الشاعر فحتى الموت وجود وتكامل أو تحوّل .

هل كل الشعراء مجانين؟

- إذا عنيتِ بالشاعر المبدعَ الحقيقي الأصيل الموهوب المسؤول فما من شاعر إلا مجنون .

حسناً ومتى تعتري سامي العامري نوبات الجنون؟

- بل قولي: متى تعتري سامي نوبات الصحو !؟ ففي الواقع ومن خلال التجربة الحية اليومية والتماس الرهيف مع الشعر وعوالمه الأثيرية ومواجده والفكر وأغواره وتضاريسه وهي تدعو للدهشة والحذر، أقول ما قال الكاتب الفرنسي الرفيع هنري باربوس بعد استغراق شعري فذ في تأمل ما يدور في الغرفة المجاورة وبعد تحليلٍ ذهني عميقٍ له يسأل نفسه بالتفاتة بارعة: هل جُننتُ؟ فيجيب: كلا، لستُ مجنوناً وإنما الحقيقة هي المجنونة !

قرأت فصولاً من رواية يكتبها الأديب القاص حمودي الكناني مهداة لك والأمر الثاني أنه قد انقطع عن كتابة بقية الفصول هل لك أن تنتف ريشه حتى يكمل ما بدأ؟

- رأس الفتنة حكايته حكاية فهو أولاً صديقي الحميم وشقيق روحي وأرتبط معه بصوفية أسميها صوفية الحرف فهو عراقي عذب صاحب مزاج نعناعي ومبدع مؤثر وأكبر من تفاصيل محيطه، تُميته الكلمة الحلوة مثلما تُحييه، أما عن نتف ريشهِ فاسأليه إن كان لديه ريشٌ بعدُ، ولكنه قال لي أنه سيواصل نشر الفصول الأخرى من روايته بعد فترة قصيرة ولديه فصل آخر جاهز للنشر تقريباً وإذا لم يوفِ بوعده فسننتظر حتى ينبتَ له الريش مجدداً فنعاود نتفهُ وهكذا ! 

البرامج الخاصة بالشعراء مثل شاعر المليون ! أو أمير الشعراء وغيرها ما هو رأيك بتلك البرامج؟

- عجيب!!؟ هل صار لدينا نحن العرب مليون شاعر؟ بل لا عجب فالأمم كلما تقدمت حضارياً وعلمياً وتقنياً وإنسانياً كلما احتاجت إلى طاقات بلاغية مليونية موازية للتقدم في ميادين المعرفة الأخرى والعرب اليوم خير من يجسد هذه النظرية !

إنها أصوات معلبة وجاهزة للتناول الفوري، أصوات يرثى لها .

إلى أي حد هناك انعكاسات لتجاربك الشخصية على كتاباتك وأشعارك؟

- قلتُ في نص قادم من كتابي: (النهر الأول قبل الميلاد) على لسان مالك الحزين:

لا تكتب للناس فتكونَ كالمهرج بل اكتبْ لنفسك وسترى أنَّ ذلك أقرب إلى قلوب الناس .

والآن أقول: ذات الإنسان وجود عظيم وتُعبِّر هذه العظمة عن نفسها بأروع صورها حين يكون همها اقتناص لحظات الجمال، وما يحتاجه الإنسان لاستكمال وجوده الكوني الإلهي هو لحظة الإنخطاف مختزلةً في التعبير القرآني: كنْ فيكون، أي اللحظة – الخلق بإطلاقٍ، اللحظة – الوجود مضغوطاً، ومثل هذه اللحظة قد تأتيك بشكل استلهامي مباغت وقد تأتيك بعد تمهيد مدروس لها وهذا ما هو قريب مما يسميه بعض أهل العرفان المُشاهدة أي تلك التي تأتي بعد تمارين ومجاهدة وفضّلتُ أن أسميها أنا في بعض كتاباتي الرؤيا الذاهلة . حسناً إذا سلّمنا بهذه الحقيقة المهمة فما نفع الخوض في المباشر والآني والطاريء مهما كان جاداً وأعني هنا طبيعة الشعر تحديداً وخلاصة معناه؟ الشعر العظيم يعطي الحدث العابر صفة الإستمرار بانتزاع ما يخبيء من إشارات إنسانية خالدة، إذن فهو يوميء للأحداث ولا (يتناولها)، إنه يكشف عما فيها من وميض أما ما هو غير شعري من أجناس الكتابة كالمقال والتقرير والخبر الصحفي والدراسات الميدانية وغيرها فهو يسمح بوضع نقاط معيّنة على الحروف بتقريرية عملية أو إنشائية مبررة أو مفهومة رغم أني - وهذا ميل شخصي - حتى في مقالاتي ذات الصبغة السياسية أو الإجتماعية أحاول أن لا أحيد عن النثر الفني وأجنح بتلقائية إلى الإستشهاد بالشعر أحياناً وبالرسم والأغنية والمثل الشعبي وكل ما يضفي على كتاباتي حياة ويبعد عن القاريء الضجرَ أو النعاس !

  

بمن تأثرت من الشعراء في بداياتك الشعرية وحالياً أيضاً؟

- كنتُ أقرأ شعراً للكثيرين ودون منهجية فمن المتنبي إلى ابن الفارض إلى رابعة العدوية إلى ابن زيدون إلى أبي نؤاس فالشريف الرضي إلى السياب فنازك فالبياتي فمحمود البريكان إلى عبد الأمير الحصيري ولاحقاً اكتشفتُ بغبطةٍ الماغوط وأمل دنقل وسليم بركات وبودلير ورامبو وسان جون بيرس والعديد من الشعراء الإنجليز والروس وأعتقد أن كل واحد منهم أثّر في تكويني الشعري بشكل أو بآخر عندما حاولتُ الكتابة بشعور الرجل المسؤول .

متى بدأت كتابة الشعر؟ وما هي أول قصيدة لك؟

- تجربتي الأولى تمخضت عن قصائد عديدة عندما كنتُ في الثامنة عشر، قصائد موزونة وبلغة سليمة ولكن ما أروعه من غَزَل ساذج !

هل لك مشاركات في مهرجانات شعرية وثقافية داخل الوطن وخارجها أين ومتى؟

- لدي قصيدة منشورة عنوانها: مهرجانات سرية !

أرجو أنها تعطي الإجابة الكافية نوعاً ما فأنا أكتب الشعر والقصة والنثر منذ ثلاثين عاماً وأنشر منذ ربع قرن ومع ذلك إذا كانت هناك دعوات لمهرجانات باستثناء مؤسسة النور المرموقة وعدد من المنابر المستنيرة فالمسؤولون عن تنظيمها في أغلبهم لا يفكرون إلا بمن يعتقدون أنهم أسماء لامعة أي أبطال صحافةٍ من أجل الدعاية والترويج لأنفسهم ويفكرون ثانياً بأصدقائهم وأكثرهم نظّامون أو ثرثارو نثرٍ بليد ولكنهم أصدقاء على أية حال وهنا لا بد من تهيئة الهوتيلات وبطاقات السفر وثلة التصفيق ... الخ  ومن ناحية أخرى أنا بطبعي لا أحب الإحتكاك المباشر بوسطٍ أعرف منذ البداية أنه ليس صحياً، والطريف أني وجدتُ أن طبعي هذا لا يدعوهم للإستفسار ومحاولة فهم الأسباب وإنما يفرحهم !

ولكن طوبى لهم لأني عندما أكتب فلا يقلقونني هم وإنما التأريخ .

في أي وقت تجد الإلهام الشعري يفرض نفسه عليك؟ مع علمنا أن الإلهام يأتي دون موعد ! ولكني أعني ما هي طبيعة تجربتك معه؟

- نعم، الإلهام الشعري يهبط على الروح كما البرق فيهزها كشجرة تين أو توت ويثريها أي يمنحها فيما هو يدعوها لأن تمنح ويعلمها معنى الديمومة والتدفق في الزمن فلا يعود الزمن سداً وعليه فكثيراً ما نهضتُ في منتصف الليل مضطرباً بجمال وحزن مفتشاً عن ورقة وقلم وطالما استأذنتُ من مسؤول القسم في عملي السابق وأنا أرتجف قائلاً له: المعذرة فهناك ما يجب أن أؤديهِ وسأعود سريعاً ! وكذلك كتبتُ قبل هذا وبانفعال غريب تحت القصف اليومي المستمر في فترات حرب الإستنزاف بين العراق وإيران رغم قصر مدة بقائي هناك، والإلهام يذكر بجوهر الإنسان، هذا الجوهر المقدس فهو كل ما هو نابض ومشاكس وحيوي وينتمي للمُثُل فأسهو عني نفسي ومحدوديتي

والإلهام يدجِّن فيَّ لفترات طويلة شراسة الحيوان ومخالبه البراقة !

وعندما أكون في حضرته فشعوري القديم بالخسارة يزول فأراني في مركز الكون ...

لا أملك شيئاً في الحياة ولكني أحسُّ بأن الحياة هي التي تحتاجني .

حسناً عندما تكون مندمجاً بالكتابة ويأتي ظرفٌ يمنعك من الاستمرار فيها ماذا تفعل وبماذا تشعر؟

- لا أدري فلكلِّ مقام مقال ولكن عموماً إذا اضطرني ظرف طاريء

فهذا حقيقة يثير نوعاً من الشعور بالغضب أو الإستياء وقد يكون في هذه الحالة مفتاحاً للإقرار بفاعلية كؤوس النعناع أو الـ (حَبة حِلوة) !

على علمي صدرتْ لك مجموعة شعرية قبل سنوات، أليس كذلك؟

- نعم، فمن بين سبعة مؤلفات لديَّ، صدرتُ لي عام 2004 عن دار سنابل في القاهرة مجموعتي الأولى (السكسفون المُجَنَّح) وهي عن تجربة خروجي من العراق وبدايات حياتي في المغترَب، وسيصدر لي قريباً ديوان بدعم من صديقة مبدعة أيضاً وسأشير إلى ذلك في وقته، والديوان المذكور هذا استغرق معي تأليفه بحدود عشر سنوات

وعن النشر في بلداننا العربية عموماً أحسُّ بنوع من الإحباط بسبب النشر السهل لكتب وإصدارات بائسة تسمى دواوين فهي أغرقت الأسواق باسم قصيدة النثر ولكن ما العمل؟ يقول الطغرائي في لامية العجم:

تقدمتني أناسٌ كان خطوهمُ

وراءَ خطويَ إذْ أمشي على مَهَلِ !

وقد كنتُ سأفرح بالطبع لو أنها بالفعل شعر جاء بعد تعب وعذاب إنساني خالص أو فرح عميق خالص .

والآن أريد أن أسأل ماذا تمثل المرأة في حياة القاص والناقد والشاعر سامي العامري؟

- سؤال جميل ومتجدد، أنا عشتُ مرحلة غير قصيرة من حياتي دون امرأة لذا كنتُ أتخيلها فحسبُ أي أنها محور أحلام، وكان يحزنني عدم وجودها ولكني كلما فكرت في الماضي أقول بابتسام وصدق كبير مع النفس: الحرمان العاطفي والجسدي كان من الأسباب المهمة في انجرافي نحو الكتابة والتأمل، إذن فلاحظي معي مدى مركزية المرأة في كياني أو تكويني فهي نبع إلهام وصلاة حينما كانت بعيدة عني وهي نبع إلهام وثناء واغتباط حينما أصبحت معي .

أنا أقف بلا هوادة مع الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة في كل مناحي الحياة ومن دون استثناء .

ظاهرة الإغتراب ذات ملامح ومظاهر متعددة لا يكاد يخلو منها مجتمع من المجتمعات الإنسانية كما هو معروف فهناك اغتراب الداخل والخارج فالاغتراب أو ابتعاد الفرد عن الوطن مثلاً يعد اختباراً ذاتياً كميكانيزم دفاع ضد الصراع النفسي في أحد أوجههِ وللإغتراب إذا رصدناه عدة مراحل:

أولا: مرحلة التهيؤ للإغتراب: وهي المرحلة التي تتضمن فقدان المعنى، اللامعيارية، التشيؤ، العجز، اليأس

ثانيا: مرحلة الرفض والنفور الثقافي وهي المرحلة التي تتعارض فيها اختيارات الأفراد مع الأهداف والتطلعات الثقافية .

ثالثا: مرحلة الشعور بالإغتراب ويصاحب هذه المرحلة مجموعة من الأعراض تتمثل في

الإنسحاب، ويظهر ذلك من خلال العزلة الاجتماعية

النشاط: ويظهر بالثورة والتمرد .

أو التظلم: ويظهر من خلال المسايرة والخضوع والامتثال .

ما هــو السبب الرئيسي الذي جعل من الشاعر والأديب سامي العامري يتخذ قرار الهجــرة والسفر خارج العراق؟

- حددتِ في معرض تشخيصك لظاهرة الإغتراب مراحل وهي كذلك ولعلَّ أهمها هو النفور الثقافي وهو ما حصل لي ولأغلب الباحثين عن هوية ذاتية واستقلالية فكريةٍ حقة، طبعاً عنينا هنا تصادم ثقافتين، الأولى طامحة حية مشككة متجددة والثانية منظومة تفكيرٍ وسلوك مجتمع ودولة منذورة للخرافة سواء الخرافة السياسية أو الدينية فالناس بما أنهم الغاية والمحرك فهم يبقون الشلال الهادر إلا أن العوامل المعطلة له أو المغيِّرة لمصبِّهِ عديدة عندنا ولا أضيف جديداً عندما أؤكد أن أول العوامل هو الجهل والتجهيل والإرهاب فمثلاً الماء نفسه في العراق كان له بفضل القيادة السياسية لون وطعم ورائحة وأي تعريف آخر يخالف هذا التعريف المقدس للماء يعني المقصلة أو نقرة السلمان !

فأنت داخل مجتمعك غريب لأنه لا يفكر مثلك، والأسباب التي تبكيه هي ليست الأسباب التي تبكيك، ثم تتحول إلى السلطة فتجدها تغامر بالثوابت والمقدسات من أجل أمجاد وفروسيات هي تفاهات عتيقة، وهي من أجل ذلك تنصِّب اللص وزيراً للثقافة والمُفسِد وزيراً للأوقاف وهكذا ناهيك عن التصور الصوفي أنَّ الإنسان هو أصلاً منفيٌّ على الأرض وغصنٌ مخلوعٌ من شجرة الخلود، وفي هذه الحالة لا يبقى أمام الإنسان الأعزل  الحساس الحريص عزاءٌ غير محاولة شدِّ الرحال لتنسُّم بعض هواء من حرية فكان الهرب مما أسميتهِ أنت بحذقٍ (التشيؤ واللامعيارية) وكانت المجازفة شبه اليائسة .

لمن تقرأ من الشعراء والكتاب الآخرين وما هو آخر كتاب قرأته؟

- منذ ست سنوات وصديقي المقرَّب هو الإنترنت حيث أن الكثير مما كنت أحلم بقراءته صار في متناول اليد ومن أجله تهون آلام الظهر وحتى تقوسه ! أشتري الجريدة العربية أحياناً وأحياناً أصوُّر من النت المواضيعَ التي أحب مطالعتها وأحملها معي إذا خرجتُ .

ليس عندي برنامج محدَّد للقراءة فأنا أقرأ في كل التخصصات ولكن تستهويني كتب التراث الأدبية في الآونة الأخيرة ومنها الشعر والرواية فأقرأ باللغتين العربية والألمانية ولديّ حالياً سيرة حياة الشاعر الألماني هاينرش هاينه مع طائفة من أشعاره أحملها معي،

ومنها:

(ضَعي خدكِ إلى جانب خدي

لتسيل دموعنا معاً !)

وأقرأ لابن حزم وجبران وريلكه وعبد الرحمن منيف . 

كيف يستطيع الشاعر (المغترب) أن يؤدي رسالته في ظل الظروف الصعبة  للغربة !؟ وكيف تصف لنا الإغتراب بعد تجربــة عشتها و تتعايش معها منذ عام 1984 ولحد الآن؟

- في واحد من نصوصي الأخيرة وهو: أوراق خريف في نيسان، قلتُ التالي: (المنفى وهمٌ، نحن الذين رسَّخنا أسُسهُ، وإلا فما معنى أن يشاركني الوطن حتى ارتداء القميص؟ هذا نفيٌ للنفي .)

وأردتُ هنا الغربة عن الوطن حصراً .

وإذا نظرنا للمغترَبات من وجهة أخرى فسنجد فيها منافع جمة وهي تلوح شخصية ولكن بإمكانها أن تصب في مجرى رفعة الوطن مثلاً وقد أثبتت كل الحلول السابقة فشلها في إحداث التغيير الحقيقي لدينا فما زال الخراب عميقاً وقد نفضتُ يدي من التعويل على مخاطبة الناس البسطاء غير المتعلمين بما يكفي وهم الأغلبية وصرتُ أركز على الفئة المتعلمة التي تملك ثقافة معينة وأخص منها رجل السياسة لا بإسلوب الإملاء والأستاذية الساذج وإنما بدفعه للتحاور وكسبه إلى أصل الجرح، إلى خارطة النزف الحقيقي فنحن الشرقيين شئنا أم أبينا ليس للشاعر أو المثقف الأديب في بلداننا دور مباشر ومحوري في عملية النهوض الحياتي والعلمي والمعرفي والإنساني وإنما مازال الناس يُلقون ذلك على عاتق السياسي وهذه حقيقة آن الأوان للإعتراف بها والتعامل مع شؤون وطننا وفق معطياتها فمنذ نشوء الدولة الإسلامية عندنا والسياسي هو الموجِّه والقائد وله الرأي النهائي مَهما كان على درجة من الحمق أو التهور، أقول هذا وأنا أعرف الخسائر المفترضة ولكن لا بد من قبولها للتقليل من الإنحدار المتسارع نحو هاوية لا نعرف غورها لهذا فالتغيير يحصل تراتبياً هرمياً ولكن تفاعلياً وغير منفصل الأجزاء .

كان جان كوكتو يقول: (إني أخاف من الإنسان الذي لا يقرأ الشعر)

وأنا أقول: صحيح تماماً ولكن علينا أن نجعل السياسي نفسه يطلب منا أن نقرأ له قصيدة لا أن نرغمه على سماعها وهنا التوكيد على دور المحبة السامية .

وعلى الجانب الآخر ورغم أني أمضيتُ أوقاتٍ مفيدة ولذيذة مع تنظيرات هنتغتون وفوكوياما وإدوارد سعيد وأدونيس وغيرهم بشأن رؤيتهم لمستقبل العالم أحسُّ بأننا كعربٍ خارج التأريخ فأنا أرى من المهم بمكانٍ أن أشير أيضاً إلى دور المثقف في التركيز وبإلحاحٍ على مبدأ العلمانية وترك السياسة لأهلها وليس لرجل الدين، فالسياسة العالمية اليوم وكيفما نظرنا إليها وغربلناها لا نجدها مبنية إلا على أساس تشابك المصالح والسعي إلى الكسب الوفير والسريع بعيداً عن القيم التي ينادي بها الدين فالسائد في هذا العصر هو المنافسة ورجل السياسة اليوم هو الإقتصادي وهو صاحب المؤسسة الربحية الذي يهمه الربح المستمد من توفيره الرخاء والسلاسة في جعل البضاعة بيد الزبون ولا يهمه كثيراً مصدرها وكيف وهو يعمل كلَّ ذاك انطلاقاً من مقولة: الغاية تبرر الوسيلة، وهذا ما لا يقول به الدين أيُّ دين وعليه فالدين يجب أن يبقى نقياً ويُمارَس كعلاقة بين الإنسان وخالقه، يلجأ إليه الفرد دون وصاية ولذلك فالمثقف الحقيقي عليه أن يناقش السياسي الحقيقي في أمر الوصول إلى إقناع رجل الدين بالإهتمام بالمجالات الروحية والحثِّ على الفضائل بأخوة وتسامح لا أن يخوض في الساسة المعروفة بمكرها وشيطنتها، نعم، لا بد أن ينبري المثقف والسياسي للتعاون من أجل تبديد هذا الإشكال وبحزم .

 تابع القسم الثاني من الحوار

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1260 الجمعة 18/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم