حوارات عامة

الشخصية المركبة .. حوار مع الدكتور قصي الشيخ عسكر

الهوية الملتبسة من الظواهر التي تقود نشاط الإنسان في المجتمع المعاصر، فإذا كان المكان هو الذي يساعد على بلورة الشخصيات والمجتمع سابقا بسبب ضعف الحركة وبطئها واستغراق وقت طويل للتنقل، فإننا اليوم نعبر القارات بلمح البصر، ونعيش في مكان ونفكر بغيره. ويبدو أن الهوية الملتبسة واضحة في معاناة الإنسان العربي، لاسييما أن العرب أمة موزعة على دويلات. وهذا يختلف عن الأوروبيين. فهم شعوب توزعوا على دول مستقرة، وأول دليل على ذلك هو الاختلاف في اللغات. وما يترتب عليه من إشكالات في التواصل، لا أنكر أن اللغة الألمانية عابرة للحدود، وكذلك الفرنسية. لكن اللسان الإنكليزي محصن بالمياه التي تحيط به من كل جانب. ولو نظرت إلى العراق لا تزال هناك مناطق مختلف عليها مع بلدان الجوار. كالأحواز والكويت وإقليم كردستان. وربما أشهر كاتب يحمل أعباء التباس الهوية هو عبد الرحمن منيف.

توجهت بسؤال حول هذه المسألة للدكتور قصي الشيخ عسكر باعتبار أنه روائي يعيش في المنفى من أكثر من ثلاثة عقود. ويحمل جنسيتين، عربية عراقية ودانماركية. ويتكلم بثلاث لغات. بالإضافة لما سبق الإنكليزية لأنه يقيم في إنكلترا من حوالي ربع قرن. الدكتور الشيخ عسكر مرشح لتمثيل مشاكل التباس الهوية. وهو خير من يعيش هذا الهم النفسي والوجودي.

 

* عبد الرحمن منيف

سألته هل  برأيك أن الروائي ذائع الصيت عبدالرحمن منيف  سعودي الجنسية ويعكس هموم وحساسيات العراق في الفن والاقتصاد السياسي والسياسة؟..

رد يقول:  عبد الرحمن منيف كاتب سعودي، ومشروعه (مدن الملح) يؤكد ذلك. ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد ما يتعلمه من العراق والرواية العراقية.

 

س- ألا تعتقد معي أن (مدن الملح) عمل موسوعي ويغطي منطقة البادية الممتدة بين شبه جزيرة العرب وبلاد الشام ووادي الرافدين.

ج- طبعا، هو عمل كبير الحجم ويعكس الطبيعة الأنانية لمنيف، فخماسيته تقفز من فوق الواقع ولا تعرف كيف تتعامل مع الإنسان الطبيعي البسيط.

 

س- لكن منيف قدم لليسار العربي خدمات جليلة وأصبح رمزا من رموزهم. وأعتقد أنه اشترك مع المرحوم سعد الله ونوس في نشر كتاب غير دوري صدر في دمشق بعنوان (شهادات) استقطب أهم الأقلام العربية.

ج- يا عزيزي دار نقاش عن وجود الشيطان وذكائه وقدرته على الغواية، هذا اعتراف أنه موجود لكن لا يعني إطلاقا أنه يقدم للإنسانية خدمات باهرة أو إنجازا رائعا.

 

س- ألست معي أن لمنيف إلماعات وهفوات مثل أي كاتب، من ينسى عمله الهام (حين تركنا الجسر) و(شرق المتوسط) وكلاهما فاتحة لموسم نقد السلطات سواء من ناحية سوء إدارة أزمة المجتمع العربي أو سوء إدارة الأرض وخسارتها في حرب ال 67. ومن لا يتذكر (قصة حب مجوسية) التي ترقى لفصل من فصول (آنا كارنينا)، والإشارة للحفل الراقص الذي يقيمه الكونت لتقريب زوجته الشابة من حياة النبلاء.

ج- هذا ليس دليلا على شيء، أريد أن أقول إن منيف مصاب بالنرجسية، والكاتب اليساري يجب أن يتسم بالتواضع. لا يوجد كاتب إنساني ومؤثر لكنه مريض بالعنجهية وبداء التكبر والانحياز لمصالحه.

 

س- نعم، لكن موضوعنا هوية الكاتب كما تعكسها أعماله، منيف كاتب شمولي، فهو عربي ولا يمكن حصره بتصنيفات خانقة وحشره في هوية لبلد ناشئ سياسيا، فهو يكتب عن البوادي وهي ظاهرة مشتركة، إنما تكلم كثيرا عن سياسة واقتصاد النفط، وكلا العراق والسعودية يعتمدان على هذه الثروة.

ج- مع ذلك فقد كان ميالا للواقع السعودي، يوجد في ضميره جيب أسود يشده إلى السعودية، وكل ما عدا ذلك جزء من العموميات.

 

* شفيق الكمالي

س- سمعت منك أن شفيق الكمالي من البو كمال وهي مدينة في سوريا. ومع ذلك شغل منصب رئيس اتحاد الكتاب في العراق ووزارة من وزارات الدولة في عهد البعث. ألا يوجد هنا التباس نظامي معاكس لغموض المعارضة التي يمثلها منيف؟.

ج- الكمالي إنسان نظيف، ولو أنه بعثي فهو طاهر السريرة، وشعره مجدد. ويعكس هذه الإرادة الروحية في  النظافة والوضوح.

 

س- ولكن ألم يلتزم بفلسفة العصا والجزرة التي تغشنا بها حكوماتنا.. نأكل مما نصنع و نتلقى الضربات لنهضم ما أكلنا؟.

ج- هذا لا علاقة له بشعرية شفيق الكمالي. حتى أنه دفع حياته ثمنا لعدم رضاه على سياسة صدام، وإذا أشيع أنه مرض وتوفي فهناك أيضا أقوال تؤكد أنه مات مسموما أو في ظروف غامضة. كان رحمه الله قلقا ونفد صبره في أواخر حياته من سياسة صدام الأهوج واختفى ليس من المنصة ولكن من الحياة كلها، وتشير أصابع الاتهام لمخابرات صدام.

 

س- هل يمكن أن تصفي المخابرات شخصية أدبية لامعة مثل الكمالي؟.

ج- بالطبع، كان صدام حاقدا عليه ووضع اسمه في قائمة التصفيات. واعتقل لثلاثة شهور في 1983 ثم خرج من المعتقل يئن من الأمراض والأوجاع واكتشف الأطباء أنه مصاب بسرطان الدم، ولم تكن لديه فرصة للعلاج.

 

س- وهذا الموت المحقق وراءه مكيدة سياسية؟.

ج- على الأغلب فقد أخبر زوجته بعد الإفراج عنه أن الأطباء حقنوه بمصل ضد ارتفاع ضغط الدم ولكن هو يشك أنه حقنة قاتلة.

 

س- ولماذا صمت وهو يعلم أنه ميت لا محالة؟.

ج- لتنجو زوجته و أولاده.

 

س- وأين هذه المعاناة في شعره؟.

ج- شفيق الكمالي مولود في سوريا عام 1929 وانتسب في الأربعينات للبعث، وشارك صدام منفاه في القاهرة، لذلك هو يعرف عنه أشياء كثيرة ويجد من الحكمة التكتم عليها. وعلى الغالب إن تكتمه هو سبب اهتمامه بالشعر الوطني وليس السياسي. وكان هو مؤلف النشيد الوطني العراقي، وحين يردده الطلبة  في المدارس كان هو يقبع في أقبية الأمن تحت التعذيب. ومن كلمات هذا النشيد قوله:

وارتدى مجد الحضارات وشاحا

بوركت أرض الفراتين وطن

عبقري المجد عزما وسماحة

هذه الأرض لهيب وسنا

وشموخ لا تدانيه سماء

جبل يسمو على هام الدنى

وسهول جسدت فينا الإباء

بابل فينا وآشور لنا

وبنا التاريخ يخضل ضياء

نحن في الناس جمعنا وحدنا

غضبة السيف وحلم الأنبياء

حين أوقدنا رمال العرب ثورة

وحملنا راية التحرير فكرة.

 

س- واضح أن الرموز لوادي الرافدين ولا توجد إشارة لبلاد الشام أو بني أمية..

ج- هو شاعر عراقي، وأساسا في العشرينات كانت الحدود غير مرتسمة بين سوريا والعراق فالاستقلال أنجز الحدود السياسية الحالية. ثم كان ولاؤه لبغداد واضحا كما في قوله:

بغدادُ ما سطّرت للعزّ ملحمة

إلاّ وأنت لها العنوان والصّورُ

وقوله:

بغدادُ يا جنّــة الدّنيـا وزهوتهـا

ويا حقيقـة ما قالوا وما سطّروا

بغدادُ كنتِ لكلّ العــربِ مفخرةٌ

واليـومَ أنت لكـلّ العربِ مفتخر

 

س- إذا الملحمة السياسية التي حرضت شفيق الكمالي هي البعث والعراق؟.

ج- بالضبط. فقد خدم بغداد في اتحاد الطلبة ووزارة الشباب والإعلام وكان سفيرا في مدريد. واختتم حياته بإدارة مجلة (آفاق عربية). وكانت النهاية الاعتكاف في البيت بعد أن سحب الأمن منه سيارة هي هدية من صدام.

 

س- هذا يدل على التباس سياسي أيضا، فهو يعاني من أعراض الشخصيات الإيديولوجية القلقة بتعبير عبد الرحمن بدوي لو اعتبرنا الإسلام منظومة أفكار أو إيديولوجيا. ولكن لماذا انقلب عليه صدام؟..

ج- لأنه عرف أكثر مما ينبغي، كان معه عضوا في مجلس قيادة الثورة وفي انتخابات الطلبة في مصر، وحاز على غالبية الأصوات لتمثيل طلاب العراق في المنفى بينما حاز صدام على 2-3 أصوات، ولربما حقد عليه من ذلك اليوم.

 

*جبرا إبراهيم جبرا

س-  أنت تذكرني بسليمان العيسى، هو أيضا من البعث ولكن لم يستلم أي منصب، وكان يعيش بعيدا عن الأضواء في اليمن كمعلم مدرسة. أيضا غوركي اعتكف في إيطاليا بحجة الاستشفاء من مرض السل ومات بعيدا عن اتحاد الكتاب الذي أسسه، ناهيك عن تروتسكي الذي قضى في البرازيل، وكان حكم الإعدام مسلطا على رقبته طوال الوقت لأنه لا ينصاع لأوامر ستالين. المناشفة والبلاشفة يكررون أنفسهم في البعث، يوجد بعث ليبرالي وبعث سلفي، ندفع ثمن أخلاقه الرجعية والضيقة حاليا، فهم زمرة من المؤمنين بأنفسهم وبالتسلط، حتى أن فكرة السلطة لا يفهمونها، وينظرون للبلاد على أنها مائدة مفتوحة وجاهزة للسرقة والنهب والاستغلال. كان العيسى أيضا حاملا لهوية ملتبسة، فهو من مواليد اللواء، المنطقة التي ترزح تحت حكم الأتراك والتي قدمتها فرنسا لقمة سائغة للجمهورية كرشوة مقابل الإجهاز على بقايا العثمانيين. هذه السياسة تضعنا على المشرحة في ضوء النهار. نحن جثة جاهزة للسلخ. وإذا كنت لا أدعو لعودة اسكندرون إلى سوريا، فأنا أفكر متى تبتلع تركيا حلب أو مدينة أصغر محاذية للحدود. المهزلة أو الكوميديا السياسية مستمرة، ولا مجال للتردد في الاعتقاد أننا في غرفة العناية المركزة. ولكن لا ضرورة لمناقشة هذه المواجع، ولننتقل إلى حالة جبرا الشاعر والروائي المعروف. فقد لمع اسمه كروائي عراقي مختص بالقضية الفلسطينية، ونحن نعلم من مذكراته أنه من نازحي 1948، واستقر في بغداد وتزوج من لميعة العسكري المسلمة. وقد أضاف ذلك عدة التباسات على شخصيته، بالإضافة إلى أنه مسيحي، كما أن أول رواياته (صيادون في شارع ضيق) مكتوبة بالإنكليزية وتفسر الواقع المتردي لبغداد، كيف تنظر لشخصيته؟. وما دورها في ميوله الفنية؟.

ج- جبرا مثل الكمالي، هما ألصق بالهوية العراقية من ناحية البناء النفسي والفني، ويقترن اسم جبرا بغائب طعمة فرمان، لا يمكن أن تذكر (السفينة) لجبرا دون أن تذكر  (خمس أصوات) لفرمان. كلاهما لديه محبة لجو العراق. وكل صفحة من أعماله تنبض بهذه العاطفة.  وهذا الكاتب المبدع من بيت لحم كما أظن، إنه مثل الكمالي المولود في البوكمال السورية. لا يمكن أن تعزل أي واحد منهما عن المشهد الأدبي في العراق، بخلاف منيف، فهو أقرب للبداوة ولجو السعودية المتصحر.

 

 س- لماذا تشن حملة على عبد الرحمن منيف وهو  ليبرالي وله تأثير واضح على شريحة واسعة من المثقفين العرب لا يدانيها أحد غير إدوارد سعيد.

ج- اليساري إنسان متواضع، يستوعب من معه ويحاول امتصاص من عليه، ولكن منيف ليس كذلك وهو غير محبوب في العراق، إنه يتعالى على نفسه يا رجل.

 

س- تعتقد أن عبد الرحمن منيف منفصل عن مشهد الأدب في العراق، ويحمل صفة سياسية عامة تستهوي اليساريين بشكل عام. لست ضد الجزء الأخير من الجواب، فرواياته تهتم بالظلم السياسي دون تحديد جهة أو مكان، (شرق المتوسط) يمكن أن تكون سوريا أو العراق أو الاردن. و(سباق المسافات الطويلة) هي عن حكومة مصدق في إيران، بينما روايته (حين تركنا الجسر) تكيل الهجاء للسياسيين دون أية إشارة محددة تدل عليهم، هل هم سياسيو مصر أم الأردن أم سوريا، فالفكرة الأساسية تشبه توبيخ الذات على هزيمة نكراء. منيف كاتب شمولي. لا يحدد الأمكنة التي يتكلم عنها، ولذلك هجائياته تنصب على مرحلة وشخصيات نموذجية، يعني هو ناقد لعصره وليس لبلد معين. باستثناء (عروة الزمن الباهي) فهي مديح غريب الشكل لصعلوك مثلما فعل الطيب صالح في روايته الوثائقية (منسي إنسان نادر على طريقته). وباستثناء (سيرة مدينة) التي يمتدح فيها عمان.

ج- ربما لا أريد أن أدخل معك في هذه التفاصيل، وكنت أنوه بالقطيعة التي تحملها حالة منيف، فهو كاتب لا ينتمي لا للعراق ولا لأدبنا العراقي الحديث.

 

س- ولكن توجد حالات كثيرة تعكس مواقف غير منتمية والإسقاطات عامة بسبب تشابه الظروف في الشرق الأوسط.

ج- هذا إجحاف بحق كثير من الأدباء الذين لديهم أزمة لغة وأزمة عرقية، ولكنهم عاشوا في العراق و أحبوه وحملوه في جوانحهم  وأصبحوا سفراء لهذا البلد أينما حلوا. نستطيع أن نذكر من هؤلاء بلند الحيدري أحد رواد الأدب الحديث وهو يشكل خطا من خطوط المربع الذهبي، نازك والسياب والبياتي. بلند كردي القومية ولا يكتب باللغة الكردية، جده كان يحمل رتبة شيخ الإسلام زمن الدولة العثمانية، أخوه صفاء الحيدري شاعر شعره بالعربية، وهناك أيضا الشاعرة المبدعة لميعة عباس عمارة، هي مندائية لغتها الأصلية الآرامية، وهي ابنة خال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي هو مندائي، لميعة كتبت بحوثا جميلة عن الكلمات المندائية في لغتنا العربية، وكلاهما لميعة وَعَبَد الرزاق يكتب الشعر باللغة العربية، ولدينا الشاعرة ناجية المراني المندائية التي تكتب بالعربية. أذكر كذلك الأديب العراقي أنور شاؤل رائد القصة العراقية ١٩٠٤-١٩٨٤ الذي يكتب بالعربية مع أن لغته الأم العبرية، أنور  لم يهاجر إلى إسرائيل بل مات في بريطانيا، ومثله الأديب مير بصري حتى أنه حين هاجر إلى لندن أوصى أولاده أن يتحدثوا في الشارع الإنكليزية أما في البيت فقد ألزمهم أن يتكلموا العربية مع أن لسانه الأصلي عبري. ولا بد من الإشارة لجعفر الخليلي، كان أبوه يعمل في وزارة الخارجية الإيرانية والابن في العراق، وهو من رواد القصة العراقية مع أنور شاؤل، وهذا التداخل بين أصول فارسية ولسان أو هم عراقي يحمل أكثر من دلالة. تاريخيا يشير لسياسة التتريك وحركات مقاومتها. فالعراقيون كانوا يهربون من خدمة الجيش العثماني بتسجيل أنفسهم في التبعية الإيرانية، ولكنهم ماتوا عراقيين، إنه أسلوب للتملص والمناورة، وللأسف استغله صدام حسين أسوأ استغلال واستفاد منه في استبعاد المعارضة، وتسفيرهم إلى إيران. لو دققت النظر في أعمال الخليلي لن تجد أمامك غير قصة عربية تحمل الصفات الهجينة لكتابات الرواد. لكن الواقع المحلي واضح، إنه الهم العراقي المحلي  بطبيعته المتميزة.  لقد فكرت في يوم من الأيام أن أضع معجما للشعراء غير العرب المعاصرين  الذين لم يكتبوا بلغتهم الأصلية بل بالعربية  عنوانه "شعراء مستعربون" لكني أعرضت عن الموضوع لأسباب خاصة.

 

س- يا دكتور هؤلاء يكتبون بلغة الضاد فهم من مجال اختصاص الأدب العربي و ليس العراقي؟.

ج- ما الفرق، العراق جزء من مشروع العقل العربي، مع ذلك كنت أقصد أنهم انغمسوا بحياة الداخل العراقي وكانوا يعايشون الهموم العراقية، وأسماء الشوارع والمدن في أعمالهم عراقية. كانت هويتهم ملتبسة لكن شخصيتهم الفنية واضحة ولا تعاني من الخلل، إنهم جزء من العراق ومن تاريخه، وكتاباتهم وثيقة عن تطور المجتمع والإنسان في العراق الحديث طبعا ضمن إطار الثقافة العربية. فهذا  واقع مستمر منذ سقوط العثمانيين وحتى الوقت الحالي، ولم ينجح أحد في إلغاء هذه الشخصية المتميزة وامتدادها.

 

س- كيف تعامل الكتاب الغربيون مع هوياتهم الملتبسة، فالحائز على نوبل غونتر غراس بولوني من غدانسك وكتب ثلاثية غدانسك بعنوان (طبل الصفيح). لكنه ينشر باللغة الألمانية وبعد سقوط هتلر أقام في برلين، وكان ضابطا في جيش هتلر برتبة ضابط إشارة. هل لديك فكرة كيف كانت تبدو أعمال غراس بهذا الخصوص، هل تعامل مع واقعه الغامض بطريقة ملتوية انعكست على رواياته؟؟!.

ج- لكنه ليس أجنبيا على ألمانيا، هو ألماني ويكتب بالألمانية وأعماله مترجمة إلى لغات مختلفة بخاصة بعد حصوله على نوبل عام١٩٨٨ وفق ظني، وقد مات في løbek شمال ألمانيا فهو لم يعش في بلد آخر ويكتب لغة البلد الآخر.

 

س- فاتتك هنا حقيقة أن غدانسك هي مقر نقابة التضامن التي وضعت حدا للنظام الشيوعي في بولونيا. لقد ولد غراس فيها، وحملها معه في قلبه، وكتب عنها أولى وأضخم رواياته (الطبل الصفيح) وأتبعها بـ (قط وفأر) ثم (سنوات الكلاب)، وكلها عن غدانسك وطفولته وتشرده على سواحلها. وفي عمله المتأخر (مئويتي) مونولوجات في مديح غدانسك.

ج- عفوا كنت أظنه ألمانيا لأن المقاطعة التي ولد فيها يتكلم معظم أهلها الألمانية مثل الألزاس واللورين التي ضمت إلى فرنسا ومثل جنوب الدنمارك الذي تم ضمه سنة ١٨٨٨ بالقوة في ألمانيا حين خسرت الدنمارك الحرب.

 

س-  توجد التباسات شديدة الإرباك في بولونيا. فالكهول في غليفتسة،  وهي من مقاطعة سيليزيان، يتكلمون الألمانية لكن الشباب واليافعين يتقنون الروسية المفروضة عليهم بالقوة. هذا التردد في الهوية اللغوية له عواطف متناقضة، كبار السن يحبون لغتهم الأم وهي الألمانية، والصغار يكرهون لغة التعليم السياسي وهي الروسية. ولذلك يوجد تمزق في المجتمع، وله انعكاسات على الوضع التربوي والعقلي. فهل يوجد خلل في كتابات غراس، هل فيها شقوق تنم عن هوية مكسورة وحائرة؟.

ج- برأيي إنه على شاكلة أمين معلوف، لبناني ولد في القاهرة عام ١٩٤٩ وعمل في الصحافة العربية في لبنان ثم هاجر بعد اندلاع الحرب إلى فرنسا. ورواياته التاريخية تنظر بعيون الفرنسيين لماضينا الإسلامي أو العربي المعاصر. وتحمل شكلا من أشكال المقاربة للماضي. وهي مختلفة عن أعمال جرجي زيدان المكتوبة للتسلية. إن إسقاط لغة غريبة على جزء هام من الذات كالماضي التاريخي يدل على التزام بالجذور. كما هو حال غراس، بولوني ويكتب بالألمانية عن بولونيا.

 

س- مفهوم، لكن ماذا عن تجربتك الشخصية. فأنت بجواز سفر دانماركي ومقيم في إنكلترا، ومتعلق بالمشكل السياسي العراقي. (قصة عائلة) عن انقلابات ما بعد الاستقلال. و(الرباط) عن متاعب الهجرة والغربة. و(المقصف الملكي) عن الحب في أزمنة الفتن والحروب الداخلية. لماذا لم تندمج في البلد الحاضن وتركت مسافة بينك وبينه، وركزت على الماضي الذي انسلخت عن آلامه وعذابه. ونفس السؤال أكرره عن كثير من الأدباء الذين يعيشون في منفاهم، مثل فاضل العزاوي فهو لم يكتب إلا عن العراق ومن خارجه.

ج- العزاوي من القومية الكردية، ويكتب بلسان عربي. أما نحن بشكل عام نكتب عن مشاكل العراق بلغة الرقابة، ليس التسلط ولكن الحساب والنقد والتوضيح دون اهتمام بالممنوعات والمحظور سياسيا أو دينيا. مهمتنا نقد العيوب وأسبابها. ووجودنا في المنفى وحملنا لجنسية غريبة تفرض علينا منطقا مختلفا، فنحن من موقعنا الجديد ننظر للحاضر والماضي ونخاطبه بتراكيب وصيغ لا يعرفها من يعيش في جحيم الداخل، وهذا لا يعني أننا بلا معاناة، العكس هو الصحيح، فمعاناتنا لا حدود لها ولا يمكنك تقدير حجمها. وأنا شخصيا لا أعرف معنى الراحة من أربعين عاما هي فترة اغترابي. وإذا كانت هناك ملاحظات يوجهها إلينا الأساتذة الأفاضل المتخصصون باللغة العربية، ولا سيما بخصوص التراكيب والنحو الذي نميل إليه، فهذا لأنهم يكيلون بمكيال قديم وجامد. اللغة كائن حي. وهدف الكاتب توظيف لغة يفهمها القارئ المعاصر ويستوعبها المغترب الذي يقرأ ولكن لا يكتب، فنحن شريحة وأعدادنا بالملايين وربما تنوف على عدد من يعيش داخل حدود العراق. من واجبنا أن ننبه إلى هذه الشخصية المركبة وطريقة تفكيرها والهم الذي تحمله، فنحن لدينا عين على الداخل وعين على واقع المنفى، و أعتقد أن هذا يحتاج لأدب بعينين وليس لكتابة مسطحة وذات بعد وحيد.

 

س-  ولكن الهوية الملتبسة شكلت بعض التحدي للكتاب في المنفى، فلا هم عرب عاربة ولا هم أوروبيون أو من العالم الجديد. الشعر واضح، خذ حالة يحيى السماوي، فهو في أستراليا ولكن إصداراته تأتي من دمشق أو بغداد وتحمل شخصية مضعضعة تبكي وتذرف الدموع على واقع المأساة وحال النكبة الذي يعيش فيه العرب. كل كلمة وكل صوت لديه مغموس بدماء عربية ومعجون بتراب وحجارة عربية. لكن لو ابتعدت قليلا باتحاه كاتب مثل نيبول، تلاحظ أنه يتكلم عن الغربة والتشرد بلا أي ارتباط بالأرض، فهو يفكر بالحياة ولا يعيشها. ويكتب عن المأساة دون أن يحاول تخفيف آثار العاطفة المأساوية. ومعظم رواياته عائمة. تدور أحداثها بين الهند ومصر وأنغولا والكاريبي، والقائمة لا نهاية لها. كاتب ضائع وشريد. كيف تفسر عدم التزام اللغة بالوطن اللغوي أو الوعاء الحاضن، حتى الإنكليزية مقسومة إلى لسان إنكليزي وآخر أمريكي؟.

ج- الأدب العالمي متداخل في الأشكال ولغة التعبير. فالإنكليز هم غير البريطانيين. والفارق يعود لمشكلة الأصل العرقي وليس لمشكلة اللغة أو اللسان. الأصل يبدل أسلوب التعبير حتى لو أن اللغة من عائلة واحدة، ولكن في اسكندنافيا يختلف الوضع حسب الجيل. كبار السن من المهاجرين يعانون من اللغة بينما أبناؤهم ينصهرون بها. هناك حوار في رواية علاء الدين وهي مخطوط لي لم يطبع بعد يقول فيه وضاح لبطل الرواية: أقول لك حكمة اسمع مني وضعها حلقة في إذنك. نحن الذين لم نولد هنا نعيش حياتين. هناك نتحدث مع الدنماركيين وهناك فراغ. بيننا وبينهم شيء غامض لندركه. أما الجيل الذي يولد هنا فليست هناك من عقدة عنده ولداي الآن ينتميان لهذا المجتمع وكذلك ستكون ذريتك فلا تيأس.

عندما كنت في الدانمارك قرأت عن الأدب الدانماركي في بداية القرن العشرين وما قبل. كان الدانماركيون يسمون أمريكا بلد الذهب والحليب. وكانت الرحلة تستغرق شهرا بالباخرة. وعندما يصلون هناك يصدمهم الواقع فلا حليب ولا ذهب.على الأغلب الإنسان يتمسك بلسانه. فهو أقدر لكشف ما لديه من كنوز فكرية. لكن في الأجيال التالية تضعف العلاقة. خذ اليهود على سبيل المثال إنهم يتكلمون في بيوتهم بلغة موطنهم ولكن يكتبون بلغة البلد الذي ينتسبون إليه. اليهودي العراقي يكتب أدبا عراقيا واليهودي البريطاني يكتب أدبا إنكليزيا والأمريكي أدبا أمريكيا.. مع ذلك أقول الدم يحن. حينما كنت أستاذ مدرسة في الدانمارك التقيت بطفلة هي حفيدة غسان كنفاني. جلست في حضني عدة مرات. وروت لي أن أباها ألف قاموسا دانماركيا عربيا. وكان يتحدث العربية بلهجة فلسطينية و له علاقة مشروعة مع امرأة يونانية الأصل.

 

س- آسف ضعت في هذه التفاصيل. سؤال واضح من خبرتك الشخصية.. لماذا يكتب الكاتب العربي المهاجر عن إشكاليات وطنه ولا يذوب في المجتمع المضيف ودائما يلجأ لأساليب  تنسف تراث الحكايات العربية من جذورها؟.

ج- لأن الكاتب يتجاوز حدود بلاده ويميل نتيجة ظروف الغربة لمخاطبة موطنه الجديد.

 

س- عفوا هنا نقطة نظام. أهداف سويف في (خارطة الحب) اختارت موضوعا فلسطينيا وتكلمت عنه بلغة إنكليزية مع أنها من مصر. ومقيمة في بريطانيا.

ج- هذا وارد أيضا. فالأدباء العرب في المهجر من ثلاثة أشكال: إما أنهم يفضلون تجاوز حدود الهم الخاص لينسوا المعاناة من فراق الماضي والذي يتجسد أحيانا بصفة ذاكرة وتاريخ. أو أنهم يكتبون عن خبراتهم الماضية بسبب العزلة التي يعيشون فيها في المنفى ولكن بأساليب تفرضها شروط الحياة الجديدة. والغلبة في الرواية والقصة للغرب بلا منازع. فأساليبه مباشرة وبسيطة لو قارنتها مع البلاغة العربية المعقدة والتي تموت حتى في بلداننا وتفسح الطريق لقطار التقنيات الغربية. ويوجد اتجاه تاريخي مثل حالة أمين معلوف. يستمد كل شيء من لا شيء. بلغة أخرى إنه يبقى في الماضي.. الأحداث عربية ومن التاريخ الإسلامي والأسلوب غربي لكن من أيام بلزاك والذي أصبح تراثا أوروبيا. فرواياته لا تحفل بالتجريب ولا يضرب رأسه بجدار التقنيات المتسارعة للتبدل والانقلاب على الأصول.

 

حاوره: صالح الرزوق

 

 

في المثقف اليوم