حوارات عامة

حاتم حميد محسن: ارسطو والرواقيون.. مقابلة مع جون سيلر (1-2)

في 19 شباط الماضي أجرت مجلة كيليت Quillette الاسترالية مقابلة مع جون سيلر المؤلف واستاذ الفلسفة في جامعة لندن حول ارسطو والرواقيين. المحاور هو رايلي مور . بالنظر لأهمية المقابلة سنقوم بعرضها على جزئين:

مور: من الصعب الحديث عن ارسطو بدون مناقشة كل شيء، لأن ارسطو كتب حول كل شيء – الاخلاق، المنطق، بايولوجي، السياسة، الادب، وكل ما قام بتحقيقه. انت ذهبت في هذا بالتفصيل في كتابك الجديد (ارسطو: فهم أعظم فيلسوف في العالم). دعني اتظاهر بأني لم أسمع بارسطو من قبل. منْ كان ارسطو؟ هل كان تلميذا لإفلاطون مثلما كان افلاطون تلميذا لسقراط؟ هل هناك علاقة نسب مباشرة؟

سيلر: نعم هناك. ارسطو في الأصل كان من شمال اليونان. ابوه كان طبيبا و مات عندما كان ارسطو بعمر 10 سنوات. تربّى ارسطو عند عمه الذي كان تلميذا في اكاديمية افلاطون قبل وقت مبكر. عندما بلغ ارسطو سن 17 او 18 ذهب الى أثينا للدراسة في أكاديمية افلاطون وبقي هناك لمدة 20 سنة. افلاطون بالتأكيد كان مرجعية رئيسية. سقراط وافلاطون وارسطو شكّلوا هذا الثلاثي من المفكرين اليونانيين العظام، وكانوا جميعهم منشغلين في أسلافهم. نحن نرى ارسطو يكافح تجاه افكار افلاطون وبالنهاية يحاول الخروج منها لكي يطور افكاره الخاصة. تلك كانت بداية عمل ارسطو المهني.

بعد ذلك، مات افلاطون وانتقلت ادارة الاكاديمية الى ابن اخ افلاطون. ارسطو ادرك ان هناك سببا جيدا للمغادرة. ربما لم تكن العلاقة جيدة بين ابن اخ افلاطون وارسطو، نحن لا نعرف، لكنه اتجه الى مينور الاسيوية وهي ما نسميه الآن تركيا مع عدد من الطلاب الآخرين من الاكاديمية الذين غادروا في نفس الوقت. بعد ذلك انتقل مسافة قصيرة الى ليسبوس التي هي أقرب جزيرة يونانية، وبدأ دراسة العالم الطبيعي. بالذات، هو درس علم الأحياء البحرية . قام بهذا لعدة سنوات ومن ثم دُعي للعودة شمالا لمدينته من قبل الملك فيليب من مقدونيا ليعلّم الابن الشاب فيليب الاسكندر الذي استمر ليصبح الاسكندر الاكبر. كان ابو ارسطو الطبيب فيزيائيا في مقدونيا. لذا، ربما كان هناك ارتباط عائلي.

ازداد الاسكندر نضجا بعد عدة سنوات من الدراسة مع ارسطو وبدأ مغامرته الكبرى في الشرق الاوسط والى الهند. فيليب مقدونيا قُتل في نفس الوقت، وارسطو كونه ضيف فيليب مقدونيا أدرك عدم وجود بيئة آمنة لذا هو عاد الى اثينا وبدأ مدرسته الخاصة (ليكيوم)، كبديل للاكاديمية. هو أمضى السنوات الاخيرة من حياته بشكل رئيسي في اثينا. لذا، هناك فترة مبكرة كبيرة في اثينا وفترة لاحقة فيها . هناك فاصل زمني قصير حينما كان يسافر الى ليسبوس ومقدونيا.

مور: يُعتقد ان موت افلاطون شجع ارسطو على مغادرة اثينا عندما لم يرث الاكاديمية. موت فيليب مقدونيا شجع ارسطو للعودة الى اثينا. هذان الحدثان للموت لهما تأثير قوي على حياته.

سيلر: نعم، ذلك صحيح. بالطبع، عندما يأتي ارسطو الى اثينا هو خارجي. هو ليس مواطن اثيني. هذا ربما لعب دورا في القصة. كونه غير اثني، هو لم يكن مؤهلا للملكية الخاصة. اذا كان خليفة الاكاديمية يستلزم نقل الملكية، ذلك يعني ان ارسطو لم يكن خليفة معقول لأنه لم يستطع امتلاك أي شيء. هو خارجي وذو اسلوب حياة عابر. ولكن في نفس الوقت، ربما كان ابوه في محكمة مقدونيا. من الواضح ارسطو حصل على دخل خاص كافي ليخصصه لمتابعة حياته الفكرية . هو كان يتحرك في حلقات راقية جدا. ولكن في نفس الوقت، هو ليس لديه الاستقرار الاجتماعي والأمان الذي يريده المرء.

مور: هل تستطيع رسم ارضية او خارطة بأعمال ارسطو؟

سيلر: انها تغطي تقريبا كل شيء. تغطي كل شيء نفكر به كفلسفة اليوم. الميتافيزيقا، ابستيمولوجي، الاخلاق، الجماليات، الفلسفة السياسية، المنطق. كل الاشياء التي نفكر بها كجزء من الفلسفة، هو فعل كل ذلك. لكنه ايضا منخرط في سلسلة من المساعي الفكرية الواسعة التي اصبحت الان حقول بذاتها. هناك احساس انه أسّس حقا حقل البايولوجي. لا احد قبله قام بذلك النوع من العمل بعناية وبقرب في دراسة انواع المخلوقات.

هو بدأ بالميتافيزيقا عندما كان في اكاديمية افلاطون – وهي المادة الأكثر تجريدا وتعقيدا. ومن ثم انتقل لدراسة الطبيعة. هناك منْ يرى ان وقته اللاحق مع فيليب مقدونيا والاسكندر شجعه ليصبح اكثر اهتماما بالأسئلة السياسية. هو أمضى وقته يدرس الادب، متأملا في تراجيديا اليونان، يفكر حول ما الذي يجعل الفن عملا جيدا . من جهة، نحن قد نعتقد ان ارسطو كعالم باحث لكن هذه الايام نحن لا نتصور ان عالِم البحث ايضا مهتم باسئلة النظرية الادبية. لكن ارسطو قام بكلاهما. في عالمنا اليوم المفرط في التخصص، ذلك نادرا ما يحدث.

مور: هل تستطيع تعريف "الميتافيزيقا" بشكل أوسع؟ ماذا تعني لارسطو؟

سيلر: "الميتافيزيقا" كلمة حديثة. هي ليست تلك التي عرفها ارسطو ذاته. طبقا لـ قصة معينة – والبعض قد يعارض القصة – ان ملاحظات محاضرات ارسطو قد ضاعت بعد وقت قصير من وفاته. احد تلامذته ورثها. لكن الملاحظات تم تجاهلها لقرن او قرنين ومن ثم اعيد اكتشافها وروجعت. سلسلة من الاعمال حول العالم الطبيعي جرى تجميعها الى بعضها واعطيت عنوان فيزياء. وسلسلة من اعمال اخرى جرى تجميعها وسميت ميتافيزيقا، وتعني "بعد الفيزياء". لذا، الكلمة لا تشير لشيء وراء العالم المادي او فوق الطبيعة او اي شيء من هذا القبيل. انها فقط العمل الذي يأتي بعد الفيزياء. ارسطو أطلق على محتوى تلك الاعمال اسم "الفلسفة الاولى" – الاسئلة الاساسية التي تتعامل مع الحقائق الاساسية حول طبيعة ما موجود. لذا، اذا كنا نسأل حول طبيعة الوجود، نحن نسأل السؤال الاكثر جوهرية لأنه ينطبق على كل شيء. بعد ذلك نحن نستطيع ان نسأل سؤالا مثل "ما هو الكائن الحي؟" لكن هذا سؤال ضيق لأنه لا ينطبق على كل شيء، هو فقط صنف فرعي.

مور: ارسطو غاص في العديد من المواضيع لدرجة اُعتبر في العصور الوسطى كـ "الفيلسوف". في الكوميديا الالهية، دانتي أطلق على ارسطو اسم "سيد العارفين" لكن انت تجادل ان هذا الاتجاه لارسطو هو ضد الارسطية. لماذا؟

سيلر: ارجع الى اعمال ارسطو وانظر في ما كان يعمل. حقا هو كان يحاول فهم العالم الذي حوله ويطرح بعض الاجوبة المعقولة لأسئلة. لكنه واضح جدا في اعماله المنهجية لدرجة ان الاجوبة التي كان يعطيها مؤقتة فقط، وان أحسن التوضيحات التي يستطيع تقديمها هي حول اساس الدليل الذي حصل عليه . في احدى اعماله البايولوجية، هو يقول هذا بصراحة – الدليل يجب دائما ان يتفوق. لذا، عندما يأتي دليل جديد للضوء، بالطبع، النظرية يجب تبنّيها. هو واضح جدا بان لا شيء من نظرياته يجب التعامل معها كحقائق دوغمائية. هو سيُصاب بالفزع لو وجد في الاجيال اللاحقة جرى التعامل مع نظرياته بتلك الطريقة بدلا من فرضية تناسب الدليل بشكل أفضل وانها مفتوحة دائما للمراجعة.

مور: هل عارض ارسطو من حيث المبدأ شخصية سلطوية في الفلسفة؟

نعم بالضبط. بالنسبة له، الشخصية السلطوية كانت معلمه، افلاطون. والكثير من فلسفته تحاول الهروب بعيدا عن فلسفة افلاطون ليطور جوابه الخاص به. هناك مقطع شهير جدا في احد كتبه يقول فيه نحن مدينون بالتزامنا لأصدقائنا، لكننا مدينون بالتزام اكثر للحقيقة. نحن يجب ان نتجنب أي سلطة تقف في طريق سعينا للحقيقة.

مور: ارسطو يرغب ان يتجه الناس نحوه مثلما اتجه هو نحو افلاطون.

سيلر: نعم. هذه أفضل طريقة للتفكير حوله.

مور: انت تدّعي في كتابك ان تأثير ارسطو كان سائدا في كل مكان لدرجة لايمكن تمييزه . كيف يمكن تصوّر الصورة الحقيقية لارسطو؟

سيلر: انا اعتقد يمكننا التمييز بين ارسطي دوغمائي ملتزم حرفيا بما يقوله ارسطو، ونوع مختلف من ارسطي ملتزم بروح ما يعمله ارسطو. انه قليل حول العقائد والكثير حول الطريقة. انا اعتقد نحن نستطيع ان نكون ارسطيين بذلك المعنى في كوننا ملتزمين بطريقته واتجاهه بدلا من استنتاجاته. معظم العلماء الحديثين هم ارسطيون بذلك المعنى لأنهم يتبعون فكره. نحن نعيش في عالم تكوّن بفعل افكار ارسطية، سواء أحببناه ام لا. الأسس التي خلقها في البايولوجي والمنطق والنقد الادبي وكل تلك الاشياء التي صاغت العالم الحديث بطرق لا نتوقعها. فمثلا، كتابه، (فن الشعر)، الذي يحلل فيه المأساة اليونانية يطرح سلسلة كاملة من القواعد التي تصنع قصة جيدة حقا و رواية جيدة . كتّاب هوليود لايزالون يدرسون هذا بإحكام لكي يكتبون افلاما.

مور: اذاً، عندما تتفق مع ارسطو، انت ارسطي. لكن عندما لا تتفق معه، انت لاتزال ارسطيا. انها تعتمد على اتجاهك في عدم الاتفاق معه. هل هذا صحيح؟

سيلر: اعتقد كذلك.

مور: هل هذا يشير، الى انه عبر جميع موضوعات ارسطو هناك فكرة او مبدأ اساسي؟ هل اتجاهه في البايولوجي مشابه لإتجاهه عندما يريد تعريف ما يميز الانسان؟

سيلر: هناك بعض الافكار المرشدة تربط كل ذلك مجتمعا، وهناك افكار صاغها اول مرة عندما كان يدرس البايولوجي والتي طبقها فيما بعد في مجالات اخرى. دعنا نتصور انك على الساحل مع ارسطو، وانك تشرّح سمكة وتحاول التفكير كيف تعمل السمكة وماذا تعمل مختلف الاعضاء فيها. هو سيقول لو انت تدرس الكائنات تلك، انت تستطيع النظر لكل الاجزاء المختلفة من مادة رخوة وتصفها لترى مما صُنعت وكم هو حجمها . لكنك سوف لن تفهم حقا ما يجري داخل هذا النوع ما لم تعرف الغاية من كل شيء. العين للرؤية، مثلا. كل الاجزاء الصغيرة المختلفة للنوع تخدم وظيفة. تلك الفكرة أعاد تطبيقها ارسطو في ميادين اخرى.

وهو يتأمل حول الكائن البشري، سيسأل: ما هو الهدف من الانسان؟ ما الغاية من الناس؟ هل ذلك السؤال له معنى عند التفكير حول الكائن البشري ككل، بالضد مما لو قلنا فقط عين او قلب او أي عنصر اخر؟ وكذلك الجماعات السياسية ومختلف طبقات الناس ضمنها ومختلف الوظائف التي يؤدونها لكي يجعلوا المجتمع يعمل – ما الغاية منها؟ ما هو دورها وما وظائفها. تلك الغائية هي الفكرة الجوهرية. في فن الشعر، هو يقول: تصوّر انك تشاهد لعبة او فيلم وتأتي شخصية الى القصة في نقطة معينة ومن ثم تختفي. الان، انت سوف تتوقع بان الشخصية تعود في نقطة ما في المستقبل وتخدم هدفا مفيدا، لأنه بدون ذلك، لماذا هي كانت هناك في البداية؟ لكن السؤال الذي سوف تطرحه انت هو: ما الغاية التي لأجلها؟ انها مثل بندقية شيكوف. اذا أدخلت البندقية في اللعبة، انت تتوقع ان تطلق النار في نقطة ما. والا، ماذا تعمل هناك؟

مور: سؤال ارسطو الاساسي هو: ما الذي يجعل الانسان انسانا؟ كيف سيجيب على هذا؟

سيلر: هو سوف يبحث عن مواصفات مميزة. ما الذي يفصل هذه الحيوانات عن الحيوانات الاخرى؟ الاول هو العقلانية. الناس هم ايضا حيوانات اجتماعية. هناك الكثير من الحيوانات الاجتماعية الاخرى بالطبع، لكن الانسان هو بالتاكيد واحد من الحيوانات الاجتماعية. اذا، نحن الحيوان الاجتماعي العقلاني.

مور: اذاً، ارسطو يعتقد ان الانسان هو حيوان اجتماعي، لكن طاقتنا للتفكير هي التي تحدد حقا ماهية الانسان. ارسطو ايضا يكتب كثير عن "الروح". ماذا يعني بها؟

***

يتبع: 

حميد حاتم محسن

في المثقف اليوم