مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (3)

خاص بالمثقف: الحلقة الثالثة من حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثاني: حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (3)

س15- أ. مراد غريبي: نواصل معكم د. سامي في رحاب الفلسفة، لكن من جهة اللغة، ينقل عن فجنشتين قوله: وظيفة الفيلسوف هي توضيح اللغة التام ومشاهدة تنوع استعمالات الكلمة من خلال توضيح كل أشكال الالعاب اللغوية، وهي وظيفة تتجدد مع تجدد اللغة ذاتها، هل يقصد فنجشتين أثر اللغة في الفلسفة أم ماذا؟

ج15- سامي عبد العال: هذا هو (السؤال الأم) بالنسبة لفتجنشتين، كما أنَّه شغلّ الفلسفةَ ردحاً غير قليل من الزمان. وفتجنشتين لديه فلسفتان حول اللغة: فلسفة تعتبر اللغة مرآةً عاكسةً للموجودات والعالم وصور الحياة، حيث تعكس الأشياء كما هي. وتلك الفكرة وردت في كتابه " رسالة منطقية فلسفية Tractatus logico-philosophicus"، وفلسفة ثانية يركز خلالها فتجنشتين على فاعلية اللغة، وتأثيرها ضمن إطار الاستعمالات المختلفة، وتلك وردت في كتابه " بحوث فلسفية " philosophical investigations. ولعلَّ الفلسفة الأخيرة ترى أنَّ استعمالات اللغة ألعاب ينخرط فيها الناس تعبيراً عن أهدافهم وأفكارهم، ذلك أنهم خالقو اللغة وفق قواعد اخترعوها ويستطيعون تغييرها بالمعنى التفاعلي في إطار انجاز الممارسات والأفعال.

تتميز استعمالات اللغة بكونها مختلفةً ومتباينةً بحسب السياقات، ولا تنقل صوراً طبق الأصل من موضوعاتها. وكذلك تمثل عند فتجنشتين جانباً ممتلئاً بأشكال (اعتباطية المعنىarbitrariness of meaning) التي تنفي العلاقة الضرورية بين الألفاظ ومعانيها كما في فلسفته الأولى. هي عندئذ كاشفة لتعددية المعاني واختلاف طرائق التعبير التي انتبه إليها فلاسفةُ اللغة ونقاد الأدب. وقد اجتاحت الفكرة السابقة كل دراسات فلسفة اللغة بالتزامن مع تأكيد عالم اللغة الفذ فردناند دي سوسير عليها في كتابه" محاضرات في علم اللغة العام". حيث نوّه إلى أنَّ العلاقة بين الدال (الكلمة) والمدلول (معناها) علاقة اعتباطية، أي لا تحيل معاني الدوال إلى شيء محايد وضروري في الواقع، لكنها تحيل إلى صور في العقل. ومن ثمَّ، هناك انزلاق مستمر بين الدال والمدلول، نظراً لكون المقصود قد يكون ليس هو الذي تراه (أنت وأنا) وفي وقت واحد. أي ستأتي المعاني اعتباطاً لا حتماً، مجازاً لا تطابقاً مع أصلٍّ ما.

الحقيقة أنَّ مسألة (اللغة وأثرها على الفلسفة ووظيفة الأخيرة) تحتاج إلى إبراز. فليس أكثر ثراءً لنشاط الفلسفة من اللغة كعالم زاخر بكل ما هو غريب وفي الوقت نفسه تجسد كل ما ينتمي إلى الإنسان. وحدُها اللغة تستطيع أن تمثل نخاع الإنسانية وهارد ديسك hard disk العقل وحافظةً لأسرار التواصل بين البشر. كل شيء يعود إلى اللغة كما يقول هيدجر: "اللغة بيت الوجود the language is house of being"، ويعبر عبد الجبار النفري عن ذلك أصدق تعبيراً:" كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة"، لأنَّ العبارة تدخل حيز الإشارة الدالة ولو كانت تكلُّماً، وكذلك قد تمثل الاشارة معناها (صمتاً ونطقاً) في الوقت عينه. بينما الرؤية لا تحدها حدودٌ، وتفُوق الأكوان أحاطةً وشمولاً، لأنها مرتبطة بالأسرار والحقائق الوجودية والإنسانية. وكأنَّ النفري مع هيدجر يقولان: فلتكن اللغة هي سر الأسرار، وهي قدرتنا الفذة على الشعور بامتلاء العالم. إن اللغة هي العالم بقدر ما نُدرك ونعتقد في جوانبه الخفية.

ولكن فتجنشتين قصدَ أنْ توجّه الفلسفة كلَّ قدراتها الذاتية إلى التوضيح والشرح. ولاسيما فيما يتصور أنَّ الفلسفة ليست من جنس المعارف التي تقدم محتوى، إنها ضليعة في شحذ تحليلاتنا لما تمَّ إنجازه من قبل، سواء أكان ذلك عبر اللغة المعتادة أم عبر الصيغ والقضايا العلمية أم ضمن خطابات الحياة اليومية. إنَّ هناك تفرقة من أصحاب الوضعية المنطقية إجمالاً: بين الفلسفة والعلم والشعر. الفلسفة لا تقُول شيئاً يُعنى بالحقائق المادية الملموسة، إذ تخبرنا المعرفة الخاصة بها عن الطبيعة وتفاعلات الأشياء، فهذه الأخيرة قضايا خبرية. فالعلوم تجرب وتركب وتعلل وتفسر وتقدم نظريات جديدة وتصوغ قوانين وطبائع الأشياء. وهي متفردة في هذا المجال تمام التفرد ولا ينازعها فيه أحدٌ، ولا يُقارن الفيلسوف بالعالم من حيث المبدأ. أمَّا الشاعر، فإنه يخلعُ عواطفه ومشاعره وتجاربه الشعرية على الأشياء والكائنات: يحدثها وتحدثه، يبكيها وتبكيه، يسخر منها وتسخر منه، تسير معه ويسير معها استعارياً ومجازياً.

كل هذا بالنسبة للفيلسوف والشاعر أمرٌ لا غبار عليه، حيث يقدمان ما يتصور الأولُ معبراً عن الفكر بطريقة فلسفية، وما يصوغه الثاني دالاً عن العواطف بواسطة الشعر. ولكن المشكلة (من وجهة نظر فتجنشتين والوضعية المنطقية) عندما يُخبر كلاهما عن الواقع، وعندما يقطعان بأنَّ ما سيقولانه هو الحقيقة. فالفيلسوف سيقول كلاماً فارغاً من المحتوي، لأنَّه سيخلع على الأشياء ما ليس فيها، وسيحتاج إلى العلم ليقدم له إجابة حول: ماذا في الأشياء من علاقاتٍ وطبائع؟ والشاعرُ من جهةٍ أخرى سيُلبس العالمَ رادء الاستعارات والكنايات التي قد لا تعبر عن حقائق، وستجسد الموضوعات بشتى صنوف الخيال ... ما الحل إذن من وجهة نظر فتجنشين لتجاوز فراغ الفلسفة؟!

يرى فتجنشتين أنَّ هذا الفراغ خِلقي في أصل التفلسف، أي أنه عيب أصيل لا تنفك الفلسفة عنه، نظراً لأنَّ أدواتها هي أفكارٌ مجردة لا تلوي على وقائع بالتبعية. ومن ثمَّ ستكون لكل فلسفة مهمةٌ أساسيةٌ: أنْ تحلل اللغة موضحةً منطقها الداخلي، وكيفية التعبير عن قضاياها، وكشف المعاني المنطوية عليها، وتبيان النماذج الفكرية التي تجسدها. ولكن اللغة قيد التحليل ليست هي اللغة الفضفاضة، بل لغة الحياة اليومية ولغة العلوم والمعارف التجريبية ولغة التواصل والخطابات ولغة النظريات ولغة الأنظمة الاجتماعية. هي اللغة التي تحقق الإمتلاء بالمعطيات والأوصاف والعلاقات والصور الواقعية. وحدُها تلك اللغة الأخيرة هي موضوع التفلسف الأول دون سواها، وعندما تُوضح وتشرح الفلسفة جوانب اللغة (الممتلئة)، ستكون الفلسفة قابلة للإمتلاء هي الأخرى، حتى وإنْ كانت فارغةً معرفياً، أي أداة بلا محتوى.

لكن السؤال الأهم: هل فتجنشتين يحدد مجالاً صحيحاً للفلسفة؟

إجابة هذا الاستفهام لها شقان:

أولاً: إنَّ تحديد وظيفة الفلسفة كلغة شارحةٍ هي كسرٌ لعنق الفلسفة من الأساس. وليس الكسْر خبط عشواء، كأنَّه (حادثة بالمصادفة)، ولكنه (حادثة مدبرة) من الوضعيين المناطقة. ذلك بحكم كونهم فلاسفة ذوي خلفيات علمية طبيعية. والفلسفة إذا أردت في أي وقت من الأوقات أنْ نحبط فاعليتها، دعْها في مرتبة تاليةٍ من أي نشاط آخر. فستكون مرهونة بغيرها وستقتفي فقط آثار ما تقوله المعرفة العلمية، ولن تخرج من خانة التابع لها طوال الوقت. صحيح أنَّ الوضعيين المناطقة يخافون من تضخمها توهماً خارج نطاق العلوم، غير أنَّ المبرر أفدح مجازفةً من الفكرة ذاتها. فالفلسفة تنطق بما تراه من أفكار ومفاهيم أبعد من المحدود والقابل للإنطواء تحت أي نشاط سواها.

فكرة فتجنشتين أيا كانت الأسباب هي وضع الفلسفة تحت "الإقامة الجبرية " التي أعلن هو نفسه في مؤلفاته الأخيرة التنصل منها، وذهب ليفتح باب سجن الفلسفة كي تنطلق مع الأخلاق والعبارات المعيارية ومع تحليلات الدين والموسيقى وغيرها من أنشطةٍ. ولذلك أدرك فتجنتشين- بعد فوات الأوان- أنَّ طريق موت الفلسفة هو قصْرها على الشرح، متناسياً أصالة التفلسف كنوعٍ من التأسيس ورسم خريطة المعارف والأشياء وقدرتها الفذة على تهيئة البشر للمستقبل والتنظير لما هو آت وتقديم العزاءات الروحية والإنسانية لهم.

روح الفلسفة أنْ تكون كما هي لا تمثل شيئاً غيرها، أن تصبح حُرة فيما تقول لا يُفرض عليها ماذا تعرف. لعلَّ ما يريده الوضعيون هو تحويلها من أصل إلى فرع، ومن حاكم إلى محكوم، ومن سيد إلى خادم، ومن مبادر إلى تابع. ومع أنَّ المسميات السابقة تعدُّ ألقاباً مجازية، غير أنها تنقل ما كانت تمارسه الفلسفة من أدوارٍ هامشية في تاريخ العقل. كما أنَّ العلوم تقول كلاماً خاصاً بها، وعندما يتحين الفيلسوف مضامينها الفكرية إزاء الإنسان والعالم والحقيقة، فليست تلكم هي المهمة الداعية لحرية الفكر وابداع المفاهيم. هي مهمة الشارح الذي ينتظر الجديد حتى يقول ما يقول على مائدة المعارف. والفلسفة تاريخياً كانت صاحبة قرار لا أن يأتيها أمر فوقي ببدء العمل في حالة طوارئ المعرفة وتطور الحياة المعاصرة.

ثانياً: يحول فتجنشتين اللغة إلى" عربة بضائع" بين مدن كبرى هي العلوم الطبيعية تحديداً. عربة بين الفيزياء والبيولوجيا والرياضيات وعلوم الفلك والطب والهندسة وغيرها. وهذا فهم معيب ومشوّه للغة، فاللغة هي كوننا الخفي الذي نعيش فيه, وأنْ تكون اللغة بمثابة (حمالة الحطب) في مسيرة الإنسانية أمر لا يتسق مع خطورة اللغة، فهي أعظم اختراع بشري يصعُب السيطرة عليه. وعندما يقول فتجنشتين: إن الفيلسوف يشرح اللغة المستعملة ليس إلاَّ، فلا يعد هذا تقليصاً للفلسفة فقط، بل اعتبار اللغة مجرد أداة لاحقة على الفكر، وهي في أحسن الأحوال ستأتي وسيطاً ننتظر منه الإيضاح والتمييز!!

لا يصح تقليص اللغة إلى كائن مسْخ، حتى وإن كانت إحدى وظائفها الإتصال الفعال، فالاعتقاد بكونها أداء يفرغها من جانبها المجازي والبلاغي. وليست لغة على الإطلاق تلك التي لا تعد مجازاً، إنما هي عندئذ جسد ميت (جثة dead body) تحتاج إلى محرك أول يحركها. بينما اللغة دون غيرها هي ما تنتج آفاق عقولنا لا العكس. إنها تتيح لنا قدرات التواصل والتعبير والتفكير، بيد أنَّها في الوقت نفسه تستدرجنا إلى حيثما تريد بكل ما تنطوي عليه من إمكانات.

عندما نستعمل اللغة لا نقف عند مستوى الأداء والتداول، بل هناك إلحاق لما نفكر فيه بنظام اللغة بشكل عام، وهو نظام لا ينطبق على معانٍ بعينها لدينا أو لدى غيرنا. إنه جسد اللغة المخاتل والمراوغ في حياة الإنسان، وهو في الوقت عينه مصدر ثراء التواصل وانجاز الأفعال، نتيجة الاستعارات والبنية الإشارية التي تحققها على نطاق أوسع... وهنا تعد هذه البنية أكبر موارد اللغة في حياة الناس.

إن كلمة مثل كلمة (حب) لا تأخذنا نحو ما نريد عادةً، فهي منطوية على مستويات من المعاني الأخرى التي يصعب الإمساك بها. هي تستحضر تجارب الحب بكل أصنافه وترمز إلى جوانب وجودية ونفسية. وداخل الحب، لا يعني المضمون حبّاً مباشراً دون نقاش، بل ستحضُر أنظمة التعبيرات القريبة منها لتغذي روافد المعني. إذ ذاك هناك تحديد لما هو محبوب في مقابل المكروه، ولما هو قريب في مقابل البعيد، ولكنه تحديد غير حاسم في كل الأحوال. إن اللغة تفتح وعينا على اللاوعي في الآن ذاته، مما يدل أن اللغة ليست تجربة خاصة ولن تكون، إنها تغذي لا وعينا بسلطة الأفكار والعواطف التي تأتي بلا استئذان وتكون قادرة على اختراق كافة الحواجز.

اللغة في هذا الجانب مثلها مثل السوق، فليس يمكننا أن نشتري شيئاً كما نريد وإلاَّ لما وُجدت (أنظمة تسعير البضائع)، وكذلك لا يستطيع البائع أن يبيع ويسوِّق شيئاً مثلما يرغب وإلّا لغدت فوضى وانتشر الاحتكار، لكن هناك (نظام السوق) والإلحاح على طلب سلع معينة وهو نظام الرغبات والأهواء في المجتمعات التي تحدد مؤشرات البيع والشراء إلى حدٍ كبير. وهو نظام يحل (عن طريق رمزية الثقافة) فوق رأسي البائع والمشترى معاً وبالأدوات والمعطيات المتاحة لهما... هكذا هي اللغة. بحيث تتم عمليات البيع والشراء ويعلم المشتري أنَّه قد أخذ السلعة مفروضاً عليه هذا السعر أو ذاك، وأنه كان يجب الحصول عليها بسعر آخر. وبحيث يعلم البائع أيضاً أنه اعطى المشتري سلعة بسعر متاح وكان يرغب في ترويجها بسعر يريده. والاثنان لا يعلمان أنَّ هناك سوقاً أكبر هو الحاكم في النهاية. والمثل الشعبي يقول: " فوّت سوقك ولا تضيع سلعتك".. أي ليكن نظرك حينما تبيع شيئاً متجهاً إلى الفضاء الأوسع من البيع والشراء ألا وهو السوق المتحكم في ذلك من وراء الكواليس وانتظر قليلاً حتى يحدث شيء يزيد من قيمتها، ولا تزج بالسلعة في سوق بائرة تطرحها بثمن بخس أرخص كما يقال.

ورأي فتجنشتين أنَّ على الفلسفة القيام بتحليل اللغة من أجل الدقة رأيٌ لا يعي أنَّ اللغة هي إحدى مفارقات الوجود البشري، مفارقة تنتج الفلسفة والفكر، فاللغة " تُروحِن الأشياء وتُشيءّ المعاني"، أي أنَّها منطوية على(تناقض أنطولوجي فادح)، عندما تعطي المادة الصماء أبعاداً روحيةً وحينما تجسد المعنويات في أشياء ملموسة. لوسألت طفلاً: هل تحب ماما؟، سيقول لك نعم بالتأكيد، ولكن إذا سألته ثانيةً بمقدار ماذا(قد أيه) تحب ماما؟ سيخبرك أنه يحبها مقدار البحر أو السماء مثلاً. فهنا لايدرك الطفل التعبير الرمزي عن الحب إلاَّ تمثيلاً، والتمثيل يعني التقريب الاستعاري الذي يحدد المعنى بالمشابهة. ولكن التمثيل ليس مشابهةً كاملة التحديد، هناك دوماً أبعاد متخيلة وقابلة للإمتداد زيادةً ونقصاناً. والأبعاد هي قدرة اللغة على أثارة الكوامن والتوجُه وفتح الآفاق لدينا (صهر الآفاق ودمجها كما يقول رومان انجاردن).

وهذا الوضع إملاءٌ لغوي بالدرجة الأولى: عندما نعبر عما نريد لا نملك إلاَّ الكلمات التي هي ما تريد. ولكن كيف تريد الكلمات؟ إنها تُملي علينا ما اُشبعت به سلفاً من أفكار وصور كلية أخرى. اللغة قد تستبق وجودنا إلى الخلف لا إلى الأمام دائماً، مع أنها تحمل كل إمكانية نتطلع إليها في المستقبل. هي تتكلمنا عادةً بلسان النسق قبل أنْ نتكلمها بلسان المقال، إن التناقض بنيوي في جسم اللغة مع وعينا الذي يلتحم بها في جميع مراحله. ليست اللغة عبارات برانية خارج الوعي كأنها لاصق خارجي، لكنها تسكنُ الوعي واللاوعي مرةً واحدة، وهما يجريان داخلها بالتداخل ... هذه المعضلة الفلسفية التي لا حل لها. ومن جهةٍ أخرى، لا تقف اللغة بعيداً منفصلةً في انتظار ما سيحدث بين أطراف الكلام، إنها الحدث ذاته، وكل ما نتصوره من انفصالٍّ مجرد وهم عُضال. ولا يوجد تبرير لذلك الوضع، فهي اللغة التي يستحيل اعتبارها (وسيلةَ نقل) فقط بين البشر.

س16: ا. مراد غريبي: من فتجنشتين أفضّل الانتقال معكم مباشرة نحو حقل علمي مهم و معاصر، تألق فيه نجم فيلسوف أمريكي معاصر جون سورل، لكن لا أريد الاستغراق في ما يعرف بأفعال الكلام في فلسفة اللغة بضده التوصيفي الذي يغلب على قراءاتنا العربية للفلسفة قديمها و معاصرها، و لكن ببساطة: كيف ترتبط اللغة، أية لغة، بالواقع في جُل تمظهراته؟

ج16- سامي عبد العال: رغم مفارقات اللغة التي تحدثت عنها منذ قليل، إلاَّ أنها ترتبط بالوقائع والحياة عن طريق السياق. فنحن نمتلك الكلمات والعبارات كمادة للتعبير عما نرغب، وتلك الرغبة مليئة بصور الأشياء والكائنات والأشخاص واقعياً. كل كلمة لا تخلو في الحقيقة من واقع ما، ولكن: ما أصله، وما تكوينه، وما طبيعته، وكيف يصبح، ولماذا تشكَّل؟ وهذه أسئلة مهمة تضعنا في قلب المشكلة مباشرةً (علاقة اللغة بالواقع). وقد تأخذ خطاً صاعداً تجاه الواقع أو تنحرف مختلطة بمعانٍ أخرى أو الاثنان معاً بين الصعود والانحراف جناً إلى جنب.

ويتحدد معنى الواقع وعلاقته باللغة على عدة مستويات لا مستوى واحد كما هو متداول:

1- قد يرى البعضُ الواقع قاعدةً مادية نلتقي حولها ونوجد خلالها في حياتنا المشتركة، وهذا الواقع هو الحامل للمواقف والحقائق كما هي. ويعتقد هذا البعض تباعاً: أننا لو اختلفنا حول شيء معين أو حداثة ما، سنلجأ إلى هذا المشترك الموضوعي لحسم الأمر. والوقع بهذا المعنى يعتبر لونا من الحس الشائع common sense ، وقد يظن الناس ذلك الواقع صحيحاً مع الفكرة المبدئية بكون الواقع مادةً خاماً، هي النسيج الحي لتجاربنا ولإنجاز الأشياء وإدراك الحوادث كما هي.

وإذا دققنا الفكرة، فهذا الأمر ليس صحيحاً، لأنَّ الواقع فائض وجود بالنسبة للإنسان، أي هو الصورة المرسومة بين الناس ولكنها صورةٌ تتأطر بحسب القوى الموجودة ومناطق التأثير في الإدراك والحياة. ليس الموضوعي دائماً ملموساً، وليس الملموس دائماً موضوعيّاً. فحتى اللمس ليس حاضراً لذاته كعملية ماديةٍ صرف. كما أن الواقع الخام المفترض للأشياء ليس موجوداً، إنه إحدى أساطير النظرة العادية للعالم. والواقعية الساذجة naïve realism تُسلِّم بالآراء والملاحظات المباشرة باعتبارها وقائع لا غير، وهي الطبقة التي تتبدى لنا من أول وهلة. وذلك المعنى ليس واقعياً بالمثل، لأنَّ الواقع إذا كان كذلك بما هو متجلٍّ، فلن تكون الرؤية شاخصة كما هي.

من تلك الجهة، لا تتسع اللغة للنظرة الساذجة إلاَّ بقدر ما تصف، أي أن هناك لغة وصفية descriptive تعبر وصفاً عما هو موجود، ولكنها ليست هناك لغة خام raw language. فاللغة دائماً مركبة ومعقدة فوق ما نتصور، ولكنها أيضاً بسيطة ومعبرة أكثر مما نتوقع. الوجهان متداخلان بدرجة مدهشة في كل مواقف لغوية أو أحداث كلام نشارك فيها. وتلك اللغة ترتبط بالواقع خلال هذا المنظور العام، وليس يعنيها: ما إذا كان الواقع شاخصاً أمامنا أم لا، ولكن ما يعنيها هو نظامها الدال الذي يرسم مواقف التعبير والتواصل.

وهنا رأس التعقيد ذاته بصدد عمل اللغة، لأن الأخيرة تتداخل مع أنظمة العقل والفكر والثقافة السائدة، وتعطينا صورة تبدو لهذا أو ذاك من الناس: أنَّها قد نزلت عند درجة الوصف(الدرجة الصفر للواقع reality zero point)، غير أنها تعبر عن مضامين تالية وتربط صوراً بصور أخرى على درجة عالية من التركيب. وعندما يُقال إن الواقع خام، فليس كذلك داخل اللغة ولن يكون. لقد برهن ليفي شتراوس Strauss على هذا في كتابه (النيئ والمطبوخ the Raw and The Cooke) وفي كتابه (العقل البري The Savage Mind)، عندما أكد أنَّ أنظمة الأساطير والفكر في الثقافات اللاتينية (الإنكا والأزتك) أنظمة معقدة ومركبة جداً، رغم أنَّ حياة أصحابها بسيطة وبدائية جداً في مظهرها. إنهم قبائل تعيش والطبيعة وجها لوجه. ورأى شتراوس أنَّ ذلك لا يعني سذاجة المعاني المعطّاة للأشياء والوقائع. فالأساطير لغة لها وحداتها التواصلية ولها علامات تحكم رؤى الحياة والعالم، ويستمد منها الفاعلون القوانين والسرديات الخاصة بهم. إن الثقافات البدائية تقف على درجة كبيرة من التعقيد والشبكية مثلها مثل أحدث الثقافات تطوراً واسهاماً في الحياة.

رُبَّ قائل إنَّ اللغة إزاء مفهوم الواقع هي لغة الأشياء أو لغة شيئية things language. وهذا القول لون من الخرافة بالمثل، فلا توجد ما تُسمى بلغة الأشياء أو لغة الاستعمال المباشر. لأنَّ مصطلحاً كهذا منطو على(نكتة طريفة). إذْ كيف تكون اللغة لغةً وبأي منطق ستكون الأشياء أشياءً؟ علماً بأن أية إجابة ستلغي فكرة لغة الأشياء من البداية، كأنها علامات خام لمعطيات الواقع الغُفل. اللغة قبل أنْ تكون لغةً بين الناس، تأخذ دورتها القُصوى وجوانبها الرمزية مع العقل والثقافة والأبنية النوعية، ثم تقف إزاء الواقع لتجده غير ما كانت تحسبه كذلك، هو المادة الإنسانية التي نعتبرها كذلك دون حدود. وحتى لو كان ما نراه أمامنا مشهداً منظوراً، فلن يكون مادة خاماً فيما نتصور. إن لغة الأشياء أحد أوهام الإدراك الشائع للعالم، إنَّ ما بين الإنسان والعالم عوالم أخرى تمكنه من التواصل مع مصادر الطبيعة والحياة. وليست اللغة رداءً بدائياً جداً، لكي يخلعه على العالم دون حياكةٍ وتفصيل وتطريزٍ وإعادة تصميم لكل ما يعن له من أمور وأفكار.

2- قد ينظر البعض إلى الواقع كحزمةٍ من (الصور المتراكمة) في العقل، وتعمل مع أنظمة(الذاكرة والخبرات والحالات النفسية) التي تلتقي عند نقاط جامعةٍ لنا. وهذا البعد بعد سيكولوجي، حيث تكون الجوانب النفسية دور البطل إزاء صورة الواقع، وتدخل فيها الأخيلة والتجارب النفسية على أنها الفُرشاة الوجودية الراسمة لما نريد. والجوانب النفسية لها بالغ التأثير في الوقائع والعلاقات بين الناس، ولكنها لا تخلو من المبالغات والأوهام والمعطيات المضافة.

والفكرة أن الواقع هو حالتنا النفسية التي تحُول دون التماس الخشن بالعالم، فهذا منزل أمامي، لكنه قبل أن يكون كيانا مادياً هو رمز الحنين إلى الوطن، وهو المسكن الهادئ، وهو المأوى من غوائل العراء، وهو المظهر الذي يعبر عني. إذن الحالات النفسية تسبق بكل تعقيداتها ما نحاول فعله، وتسبق أيضاً ما نود رؤيته واعتباره جزءاً من كياننا.

والنظرة السابقة تدخل إلى اللغة، من جهة كون اللغة تحمل الشحنات النفسية تعلقاً بمعانيها وعباراتها. إن البطانة الداخلية للكلمات والتعبيرات هي العوالق النفسية من ذاكرة وعواطف وصور منعكسة وايماءات وأخيلة وعواطف ... جميعها منصهرة في قوالب لغوية. وقد تنطلق مع الأساليب الخطابية ومع أحداث الكلام. فلو قلت لشخص آلوه hello عبر جهاز الهاتف النقال. فبأي طريقة ستكون الكلمة؟، هل هي نبرة حادة أم هادئة أم متساءلة أم حانية أم لمجرد الرد أم ستفتش تلقائياً عما يكون الطرف الآخر؟!

ها هنا ليست القضية: ما إذا كان الطرف الآخر المتكلم معروفاً أم لا، واقعياً أم مكالمة بالخطأ؟، إنما القضية هي مرور شحنات نفسية عبر كلمة سيتلقاها طرف آخر قيد الاتصال. وهنا اللغة ستحدد أية حالة يعبر بها المتكلم، أي أنها ستحدد واقعه المعيش، وما إذا كان مهيئاً لفعل القول أم لا. إنَّ اللغة هي التي ترسم واقع القول وقول الواقع بالتبادل نفسه. لأننا سننتظر رداً من الطرف الآخر على(آلو)، والرد لن يكون غير التعرُف على ما يريد أو التأكد من أنَّ الاتصال صحيح. اللغة تجسد هكذا وضع كأنه الواقع، مع أنه انعكاس كامل لما نشعر به. الأغرب أننا نواصل العيش في تلك الحالات دون التساؤل: كيف وجدت الحالات، ولماذا هي بهذا الشكل أو ذاك؟!

3- هناك نظرة ابستمولوجية تقول إن الواقع لا يتغير، إنه كما هو منذ بداية الحياة، النجوم والأفلاك والكواكب والأقمار والأرض والهواء والأكسجين والمياه والقارات والفضاء .. جميعها أشياء موجودة رغم التغيرات التي طرأت عليها. ولكن ما يعتد به وما يتغير هي النظرة المعرفية، والأخيرة هي التي نترقب منها الجديد والمثير كما يقول ألبرت أينشتين إن كل ما حدث من تطور في الفيزياء ليس بفضل تغير موضوعات الطبيعة وظواهرها، لكن بفضل التغير الابستيمولوجي.

وهذا دال على كون المعرفة تتدخل لرسم صورة الواقع وتحديد الجانب الإنساني فيه. وهذا الرأي يؤيده عالم الفيزياء ماكس بلانك Max Blank، حيث رأى أن هناك فرقاً بين الواقع وصورتنا (معرفتنا عن الواقع) عن الواقع. فالواقع هو الأشياء في ذاتها، وهي ما توجد طبيعياً ومادياً على نحو عام، مثل موجودات وظواهر الكون والطبيعة. أما صورتنا على الواقع، فهي الموجودات والظواهر كما تحددها المعرفة العلمية. ليس دوران الأرض حول الشمس ظاهرة مادية في ذاتها وإنْ كانت كذلك، وإلّا لما كانت محلّ خلافٍ قبل إثباتها علمياً ولما اعتقد الناس خطأ أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. ولكن بعد اثباتها عملياً، تعد تلك الظاهرة جزءاً من معرفتنا عن واقع الكون والفضاء. فقد دخلت كنظرية بنية المعرفة العلمية وتم استعمالها كمسلمة في الابحاث والدراسات المتوالية.

كذلك ظاهرة الجاذبية لا تعد واقعاً طالما لم تثبت قبل اسحاق نيوتن، وإنْ كانت جزءاً من سمات الطبيعة والكون. ولكنها غدت صورةً للواقع معرفياً عندما صاغها علمياً صاحب نظرية الجاذبية وقوانين الفعل ورد الفعل وعلاقة الأفلاك في ضوء نظرية الجاذبية الكبرى. إذن لم تكن الصورة الواقعية كمشهد موضوعي متجلية بذاتها، لأنَّ الواقع(كما هو) ليس هناك من طريقة لمعرفته والوصول إليه. إنه غامض غموضاً واضحاً بدرجة مساوية لإسقاطه من المعرفة، وأنَّ كلمة المجهول تكفي لتحديد ما ليس معلوماً من صور الواقع. فالمعرفة تُدخل الأشياء والعالم حيز المعلوم. وسواء أكان الواقع خاصاً بحالة نفسية أم بحالة معرفية، فالأمر سيان من زاوية كونه محدّداً بما نتصور ومرهوناً بما يوجد في المعرفة من ادراكات ومفاهيم.

إن اللغة عبارة عن وحداتٍ معرفيةٍ، وباصطلاح ميشل فوكو هي اللغة كخطاباتٍ مؤرخة تتشكل من ابستيمات epistemes، فكل معرفة تشكل وحدات لها رقعة من الظلال الشاملة للوقائع والأفكار مغموسة في الأزمنة، إنها بلغة الكلمات المتقاطعة تُكوّن مساحة الوعي لدى مستخدمي اللغة وداخل الفضاء الذي يترك فيه الخطاب التأثيرات الفعلية. وعندما تسقط كلمةً من الخطاب، فإن المعرفة سرعان ما تكمل الصورة وترجح الكلمات المفقودة. على سبيل التوضيح في ضوء ذلك الرأي، كلمة" الطاقة " التي تنتمي إلى شقي معنى: معنى الجهد المبذول الذي يضخ قوةً ما في اتجاه بعينه. ومعنى القوة المتجسدة عن ظاهرة ما مثل توليد الطاقة الكهربائية من تيارات المياة المتدفقة بشدة. إنَّ اللغة تعبر عن هذين المعنيين معا، ولها أن تؤشر إلينا بقدرتها على اعتبار الطاقة دلالة لا تُعطّى مجاناً لأية ظاهرة. بل بقدر ما تجسد الظاهرة معنى قوة، فهي عندئذ معنى طاقة كذلك.

واللغة من تلك الجهة هي التي تحدد ماهية المعرفة التي تدعونا لرسم صورة الواقع، لنتخيل إنساناً يفكر ويعبر، فمن أين سيأتي بأساليب ذلك وفحواه. هو سيلجأ إلى اللغة التي تسرب إليه كيفية التفكير. علماً بأن هناك نظاماً رمزياً يحكم طريقة التفكير ويجعل الفرد مشتركاً مع الجماعة ويحدد ما يجب الأخذ به من عدمه. ولأنَّ اللغة ذاكرة، فهي مليئة بالصور التي تطرحها، ولا تنقل الواقع كما هو، إنما بإمكاننا القول بأن اللغة هي (نيجاتف الواقع)، الجوانب الباهتة والأصداء البعيدة منه.

4- الواقع هو حصيلة القوى التي تظهر وتتجلي. ووجودها بمثابة الحدث الذي يؤشر لوعينا ولاوعيا بوجوده. والوجود هو المستوى المؤثر في الفضاء الذي ينتشر فيه. وهذه الفكرة تقول إنَّ الواقع محدد وموجه نحو أغراض بعينها من قبل القوى السائدة، سواء أكانت قوى اجتماعيةً أم سلطة أم قوى سياسية أم مرجعية معينة أم أيديولوجيا طاغية. وأن تلك القوي هي التي تنتج الخطابات وتروج العبارات التي تتصارع من سواها في المجالات المختلفة.

ولعلنا ندرك بناءا على ذلك أن السلطة مثلاً قوة تحدد الواقع، فهي تفرض صورته من زاوية رؤيتها، ولا تسمح لأية قوى أن تنال من هيمنتها. فالواقع بالنسبة إليها هو الرهان الأول أمام الأنظار. كل همها هو إيصال لذهنية الرعايا بكونهم تحت مظلتها الممتدة. والسلطة لا تحدد فقط ما هو ملموس، بل تود كلُّ سلطةٍ لو تحدد الخيال والأحلام، وأنْ تحول الواقع إلى أسطورة هي بطلتها الأولى.

من جهة أخرى، نحن نعلم أن اللغة فضاء حساس جداُ لكل سلطة تُبث عبرها، وحساسية اللغة آتية من جهة امتلاكها: قدرة على التعميم لكل قوة تسكنها وتعبر بها، فعنما يتكلم أحدهم موجها خطابة إلى متلقين بعينهم سرعان ما تصر اللغة على نبرة التعميم، وكأنها هي المتحدث الرسمي باسمه. إن الشعارات الحماسية تسرطن جسد اللغة، كأنها قد تحولت إلى شعارٍ مطلق من فورها. هكذا تعبر اللغة عن هذا السرطان كما لو يظهر من قبل. كما أن اللغة لها سمة الإلحاح والعودة مرات ومرات، فكل عبارات القوة إنما تدخل موجات من الترديد المتواصل. وأية سلطة لا تملك إلاَّ الالحاح كطريق تجاه الاصرار على ما ترغب بكل الأدوات الممكنة.

ولذلك تصنع اللغة حركة السلطة بالمثل، وتعيد تجديد أواصر ربط اللاوعي بوجودها، وإذا كانت لكل سلطة نطاق استراتيجي مؤثر قبل وجوده بالفعل، فاللغة تسهم إسهاماً كبيراً في السهر عليه. ولهذا تعتبر كل سلطة أن اللغة رأسمال رمزي تستثمر فيها وتبث عبرها سندات التعامل وإقتصاد ثقافي عابر للعقول والأفهام المباشرة.

5- هناك من يرى الواقع كامن في تناقض حالاته عبر مسيرة الحياة، إنَّه المجال الحيوي لصراع القوى الاجتماعية والسياسية وتجاذبها .... وخارج هذا المجال لا يجب التحدث عن واقعٍ ما، فمثلاً يعد بناء المجتمعات وإنشاء المدن وتشييد مظاهر التكنولوجيا أمراً مفهوماً، دفعاً لهواجس الفناء والموت اللذين يترقبان الحضارة. إن الفرد لا يغفل صراعاً مع عوامل التلاشي وذهاب السنوات دون جدوى، فيتمسك بالحياة مُريداً العيش إلى أطول فترة ممكنةٍ. حتى أننا في الأمثال الشعبية نقول (الأولاد عز .. واللي خلف ما مات)، وذلك صراع خفي مع الفناء الذي يسكننا ويلح علينا طوال الوقت.

وعلى صعيد أوسع، إذا حاولت قوةٌ ما الاستحواذ على الواقع، فهي بذلك: أمّا تثير صراعاً مع قوى أخرى، وإمّا أن تهمش تلك القوى لتعود من بعيد إلى الصراع مرة أخرى. وهذا نظام الطبقات في المجتمع، فالفكر التقليدي يرى الواقع دائراً حول التطاحن والتحول من حالة إلى أخرى. وأنَّه نتيجة الصراع يتم رسم الواقع ومواطن تأثيره وكيفية التعامل معه. وهذا لا يحُول دون وجود القوى الموازية، ولكنها لن تملك الرقعة نفسها من التحرك والممارسة.

وبطبيعة الحال كعادتها التاريخية، ستسهم اللغة في هذا الصراع، بل ستكون بمثابة رأس الحربة في توسيع نطاقه واستكشاف الواقع المترتب عليه. إنها تنظم آليات الصراع وأساليبه وتكثف من صوره المحتملة، وتعيد إرساله إلى كل آذان صاغية. اللغة الخطابية لسان المقال الذي يبرر القوى إلى أقصى نقطة ممكنة. وليس هناك مانع من استحضار القوى المهمشة جنباً إلى جنب، اللغة تحمل قدراتها الخاصة على البوُح والإفضاء. ولذلك تؤدي اللغة دوراً خطيراً في تكريس الواقع وتقويضه في الآن نفسه. اللغة هي طاولة العرض التي تشرح عليها أوضاع المجتمعات التي يتم فيها نهب الواقع واغتصابه لصالح فئة معينة.

***

حاوره: أ. مراد غريبي – صحيفة المثقف

في المثقف اليوم