تقارير وتحقيقات

نهر العراق الرابع .. يفيض في اتحاد الأدباء / رؤى زهير شكر

تعرفت على (أبوكاطع) في إحدى مقاهي شارع السعدون في بغداد، وبدا وكأن احدنا يعرف الآخر منذ عهد نوح، وهذا التعبير مستلهم من روح (أبوكاطع). وعندما افترقنا أسرّ إلي أن لديه (محاولة لكتابة رواية). وسألني عما إذا كان لدي الوقت لأقرأ بعض ما كتبه، وأعطيه رأيي الصريح فيما إذا كان من الممكن أن يسمي ذلك رواية أم (خرط) يعني (كلام فارغ(.

وفي اللقاء الثاني جاء بدفتر سميك كله بسطور متراصفة. وفي بيتي حين أخذت اقرأ الدفتر، بدأ يتنامى في خيالي المبصر عالم متجسد رحب مغمور بأنفاس الريف وأناسه، صنعه قلم ذو دراية ممتازة بما يريد أن يقول، وحب عارم للوسط الذي يصوره، ومعرفة مستفيضة بخبايا الحياة الريفية وحنايا سكانها الواقعيين إلى حد إحساس القارئ بأنفاسهم تدفئ قلبه. وظل حلم (أبوكاطع) أن يصبح روائيا هاجسا ملازما له وبخاصة منذ أواخر الستينات، يقول للشاعر عبد الكريم كاصد «لقد فاجأ أبوكاطع قارئه البسيط، الذي يتوقع سخريته الدائمة بجديته وبصفته كاتبا وروائيا.. وقد أثبت خبرته ككاتب في مرتبة ناضجة في رواية (قضية حمزة الخلف). ففي هذه الرواية يحرص أبوكاطع أن يقدم نماذجه البسيطة بتركيب غير بسيط وبلغة فصحى لم تتخلَ عن مضمونها الشعبي»

يقول شمران الياسري «ابوكاطع» عن مولده ونشأته (ولدت في قرية صغيرة على نهر الغراف، جنوب مدينة الحي، وقد اختلف الرواة الثقاة وغير الثقاة في تأريخ الميلاد، فلا احد من أهلي يعرف، ولا اعتادوا تسجيل المواليد.. ولكنني بالاستذكار والقرينة، حزرت التأريخ التقريبي، وهو يشبه إلى حد ما علاقة ذلك الفلاح الذي وضع غيمة علامة يهتدي بها على الطريق.. ولنقل بصريح العبارة، بعد الزواج بستة أشهر بلغت مبلغ الرجال، فكم كان عمري ياترى؟ أظنه 15 سنة ولذا يصح القول إنني من مواليد 1932 كما يقول (أبوكاطع): كانت أمي تحسن قراءة القرآن الكريم فقط.. والغريب إنها كانت تقرأ القران جيدا، ولكنها لا تعرف قراءة سطر واحد من كتاب آخر، ولا تعرف خط اسمها. ومع ذلك علمتني قراءة (جزء عم). وحين امتلكت مفاتيح ترتيب الحروف، علّمت نفسي الكتابة. منذ نشأته الأولى كان ولعا بالقراءة، وكان يقضي أيام الصيف في بيت عمه السيد إبراهيم ليلتهم الكتب، التي لم تكن تتجاوز الخمسين كتابا.) 
هكذا بدأ القاص والاعلامي حسين رشيد مستهل تقديمه لجلسة نادي السرد في اتحاد الادباء الخاصة باستذكار رائد الرواية الريفية شمران الياسري «ابو كاطع» ورباعياته الشهيرة (الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ وفلوس أحميد)

  الناقد د. شجاع العاني  تناول في ورقته الموسومة « الحوارية في رباعية ابو كاطع» شفافية الحوار ولغته الشفافة البسيطة، ذات الدلالات العميقة، التي استطاعت ان تصل الى ابناء المدينة بكل سهولة، حتى ان بعض تلك المفرادات ظلت ملازمة لهم. مبينا» ان لكل بطل من ابطال الرباعية طريقة حكي ولغة خاصة به، حيث تميز كل واحد منهم بخاصية معينة في الحوار الدائر بينهم.

  واوضح العاني: ان «ابو كاطع» استطاع الوصول وتناول نقاط مهمة، في مفاصل الحياة العراقية في فترة كتابة الرواية، ودوران احداثها التي بدات من ثورة العشرين وحتى ثورة 14 تموز 1958. من خلال كشف المستور عن علاقة الاقطاع والسلطة الدينية. فضلا عن عمله في ترسيخ واشاعة روح العدل والمساواة في مجمل الحياة العراقية، والريفية منها على وجه الخصوص.

  الناقد فاضل ثامر اشار في مداخلة: الى فترة عمله مع «ابو كاطع» وكيفية قضاء اليوم بالعمل والنقاش ورسم خريطة عمل لليوم الثاني، مشيرا الى لغة الرواية وكيف كانت عقبة في طريق طبعها في وزارة الاعلام، وهي حجة وذريعة فاشلة لمنع الرواية من التدوال.
واستطرق فاضل: لم تكتف السلطة البعثية بذلك بل راحت تمنع الشعر الشعبي، كتابة ونشرا، كونه يهدد مفهوم الوحدة العربية القومية ... الخ من مفاهيم السلطة البعثية انذاك. كما اشار فاضل الى لغة الحوار التي تطرّق لها د. شجاع العاني.

  الكاتب والباحث حيدر الحيدر تناول في بحثه المعنون «الامثال والاقوال الشائعة في رباعية ابو كاطع» حيت تناول الحيدر بعضاً من تلك الامثال بتباين اماكن استخدام المثل ومعناه، وكيفية تناوله.
 
اما الشاعر والاعلامي كاظم غيلان فقد اشار الى ان حالة التقليد في المشهد العراقي، فمنهم من حاول تقليد الاصوات الكبيرة وطريقة ادائها، ومنهم من حاول تقليد شاعر وهكذا، وابو كاطع واحد ممن حاول الكثير تقليده في كتاباته الصحفية والروائية، لكنهم فشلوا ولو في الوصول الى حافة جرفه الابداعي. كما عقب غيلان على قول الاستاذ فاضل ثامر في منع الشعر الشعبي في بداية السبعينات، مبينا انه يملك كتابا صادرا من مجلس قياة الثورة المنحل بهذا الشان. كون ان البعث لايعرف لغة الجمال والحب، لذا حين تعد الشعراء الشعبين الكبار والمهمين ستجدهم اجمعين من اليسار العراقي وربما يكون واحد او اثنين بينهم من البعث وهي مشكلة كبيرة بالنسبة لهم ظلت تؤرق قيادة الحزب، مثلما كان ابو كاطع يؤرقهم بعموده الشهير. لذا عاد هذا النظام المقبور وروج للشعر الشعبي من خلال قصائد تعبوية لحروبه ومعاركه الخاسرة .
 
ختام الجلسة كان مع احسان شمران الياسري وحديث عائلي عن الكثير من المواقف والاحداث التي جرت على نطاق العائلة، من اختفاء وملاحقة وسجن ومراقبة، مبينا انهم كأبناء لم يشبعوا من والدهم، مستعرضا بعضاً من تلك المواقف الطريفة والاحداث الصعبة التي مرت عليهم. كما كانت هناك مداخلة للاعلامي رعد الجبوري، طالب فيها باهمية تحويل الرباعية الى عمل فني تلفزيوني او تمثيلي، مع اهمية تجسيد شخصية (ابو كاطع) . كما كانت هناك مداخلة وتحية من الفنانة التشكيلية المغتربة رملة جاسم وهي تستعيد ذكرياتها في اتحاد الادباء. ليختم مقدم الجلسة القاص حسين رشيد جلسة الاحتفاء المميزة هذه بقراءة سيرة رائد الرواية الريفية ابو كاطع.

  ولد شمران الياسري عام 1926في محافظة واسط،  قضاء الحي،  قرية  المحيرجة سابقا،  ناحية الموفقية  حاليا. بدأ مشواره الصحفي قبل أن ينتمي الى الحزب الشيوعي العراقي عام 1956،  ففي عام 1953 أصدر جريدة سرية اسمها صوت الفلاح مع أربعة فلاحين ومهندس زراعي، أما بعد ثورة 14 تموز 1958 فعمل في بغداد، في صحف صوت الأحرار، البلاد،  الحضارة، فضلا عن برنامجه الاذاعي الشهير «احجيها بصراحة يابو گاطع». انتقل بين سجون بغداد و بعقوبة والعمارة،  وبضربة حظ يطلق سراحه قبل يوم 8 شباط 1963 الأسود ليقصد الريف الشاسع ويختفي حتى 1968. أصدر خلال تخفيه صحيفة الحقائق وهي اسبوعية لسان حال اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في لواء الكوت. خلال هذه السنوات كان الحصان وسيلته للتنقل والتنظيم والبريد.
بعد 1968،  كتب في «التآخي» و «طريق الشعب» و «الفكر الجديد» وكان مديرا لتحرير مجلة «الثقافة الجديدة» واشتهر بعموده اليومي في طريق الشعب بصراحة أبو گاطع الذي دعا آلاف القراء الى قراءة الجريدة ليس من الصفحة الاولى كما هو معتاد بل من الصفحة التي يتصدرها عمود الصراحة

وفي أواسط السبعينات،  جرت محاولة لدهسه على طريق الكوت،  لكنها فشلت،  فأعدوا له تهمة تهريب السلاح بغية اعدامه،  لكنه التجأ الى براغ عام 1976 تحاشياً للأسوأ فقال عن نفسه أنا اول مهاجر في رحلة النفي التي بدأت بعد سنتين، بعد سلسلة طويلة من الممنوعات التي غطت حياته طولا وعرضا، رفضت وزارة الاعلام طبع رباعيته أو تعضيدها فاتخذت «الثقافة الجديدة» عام 1972 قرارا بنشر الرواية طالبة من راغبي اقتنائها تسديد ثمنها سلفاً، فتم لـ «أبو گاطع» ما أراد  فبعث رسالة الى وزارة الاعلام، جاء فيها:

(انني أحمل اصدقائي بين يدي، أصدقائي الذين عايشتهم ليالي الشتاء الطويلة، أحاورهم وأتخيلهم، أبدل بعض ملامحهم، أضيف عبارة، أو أحذف لفظة، وفي نهاية المسيرة مع «الدفترين»(مخطوطة الرواية) توطدت علاقتي مع «حسين» بطل الرواية على نحو عجيب. أناجيه وأناغيه، أحياناً أصغي الى أشعاره، وكأنني أسمع صوته،  برغم مسافة السنين)

في 17 آب 1981 توفي الكاتب والصحفي الكبير أبو گاطع «شمران الياسري» في براغ بحادث سيارة وهو في طريقه لزيارة ابنه (جبران)، فوُوري جثمانه في مقبرة الشهداء ببيروت، وأطلقت الثورة الفلسطينية 21 اطلاقة، تحية وداع للرجل الذي قال عنه الفنان المبدع المعروف يوسف العاني ( ظل شمران صديقاً حميماً مثل قالب الثلج في تموز)

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2225 الثلاثاء 25/ 09 / 2012)


في المثقف اليوم