تقارير وتحقيقات

استغاثات شعرية في شارع المتنبي ببغداد

 الشاعر صباح العزاوي المتوفي الاربعاء الماضي ببغداد، ليقرأ بعدها ورقة أعدها بيت الشعر بعنوان (أس أو أس)، لتوضيح سبب اختيار الاصبوحة بهذا الاسم، وجاء فيها: انحصرتْ مشكلة إيصال النتاج الثقافي لدينا بمصطلَحَيْ "أهل النخبة وأهل الجمهور" في ترسيمة بسيطة ومخلّة "لكنْ أليس كل بساطة تتضمن خللاً؟". أهل النخبة رأوا أهميتهم في نخبويتهم أي في نوع جمهورهم، والآخرون قرأوا نجاحهم في سعة هذا الجمهور. كثير من نماذج قصيدة النثر تمّ تداولها كمنشورات لطائفة سريّة لا يفهم الأبجدية التي كُتبتْ بها إلا المعتقدون بها، بينما احتفلت قصائد الشعر الشعبيّ والشعر العمودي بتوجهها إلى كلّ من له أذنان ليسمع وعينان ليقرأ.

الأمر كما ترون بسيط وسهل إلى الحدّ الذي يجب أن نحذر منه ونشكك به!، فلا الأولون استطاعوا أن يتنكروا تماماً للجمهور إذْ ارتدّتْ عليهم نخبويتهم وحاصرتهم ذائقة الحشد التي أصبحتْ هي المحرّكة للإعلام وللمؤسسات الثقافيّة، ولا الآخرون لديهم القدرة على إنقاذ جمهورهم العريض من الذائقة السيئة التي يمتاز بها كلّ جمهور عريض بالضرورة.

حُكِم الأولون بأعراف نخبتهم التي وجدتْ نفسها ـ في زمن الإشهار الكونيّ الموسوم بالوضوح والمباشرة ـ كمنْ يلطم في حفلة عُرس، وحُكم الآخرون بأعراف الحشد التي اضطروا إلى مداهنتها وتملّقها وتقديم ما لا يعكّر هذه الحفلة الكوكبيّة التي لا يتقدّم فيها أحدٌ إلا بعد أن يقدّم براءته من القول العميق والمتأمل واستخدام اللغة استخداماً جديداً، خوف أن يوصم بتهم شتى أهونها الهرطقة والرطانة والتغريب وأشدّها التآمر مع ثقافة الغرب لقلب نظام حكم ثقافتـ"ـنا" والإساءة إلى تراثـ"ـنا" المجيد.

الأولون يقدمون منشورهم السريّ إلى أناس يعرفونهم جيداً ويعدّونهم على أصابع يدهم، والآخرون يجعلون منه دعوة عامة للجميع. لكنْ لا هؤلاء ولا أولئك فكّروا في ما يفعله متلقيهم بهم، لم يتأمل أحد منهم في ما جنتْه النخبة على كتابة أهل النخبة، وما جرّه الحشد على نصوص أهل الحشد، لم يتدبّر أحدٌ كيف ان أخلاقيّة المنشور السريّ وصمتْ نصوص شعراء عقدين أو أكثر في شعرنا العراقيّ، وكيف ان أعراف الإعلان والإشهار وسمتْ بميسمها النصوص الشعرية السائدة اليوم. ومن ظنّ انه أسهم في خلق نخبته وجد انه عبد نخبويته، أما من يصعد المنبر محتفلاً بصوته العالي يهدر أمام الجمع فسيجد لاحقاً انه هو وصوته نتاج إرادة الجمع الذي لا يريد إلا ما يقع في متناول يديه، بسيطاً واضحاً لا يعكّر صفو ذائقته التي ربّاها بفطرته، أي بجهله.

571a

نموذجان للتوصيل إذن: المنشور السريّ والإعلان. لكنّ بساطة هذه الثنائية هي عين خللها، فثمة شعراء عراقيون نضجوا على نار كوارث العراق كما على نار قلقهم الشخصيّ، يقترحون نموذجاً آخرَ أجدى وأكثر أهميّة، هو ذلك النموذج الذي نادى به "أدورنو" الذي شبّه النصّ العميق برسالة استغاثة يكتبها شخص في سفينة موشكة على الغرق ثم يضعها في قارورة ويغلقها ليرميها في البحر عسى أن تصادف القارئ المنقذ المخلّص.

هذا النموذج يتزايد وينمو على يد شبانٍ تائقين إلى قول عميق، ويعرفون ان كتابة الشعر استغاثة، طلبٌ حثيث للخلاص، وهو النموذج الأجدر بوظيفة الثقافة التي قال عنها "نيتشة" انها حرب على البلاهة، بلاهة النخبة والحشد معاً.

أصبوحتنا اليوم طقس يعيد تذكيرنا بأن الشعر استغاثة، وان قارئنا المجهول، على مرمى قنينة نضع فيها القصيدة ـ رسالة الاستغاثة ونلقيها في الماء، علها تكون قريباً بين عيني مخلّصنا ـ قارئنا الذي به نستغيث.

 

*حروف ترفعها السفينة المنكوبة طلباً للنجدة وهي اختصار لجملةSave our selves التي تعني أنقذوا أرواحنا.

 

عقبها قُرأت في اصبوحة الجمعة قصائد (اللحظة الأنيسة) (الثانية بعد الظهر وانا سعيد جدا)، (حين امشي تساقط جراحي)، (قرب سريرنا في بغداد)، (نيتشه العارف بالحياة)، لكل من الشعراء: عبدالخالق كيطان، احمد عبدالحسين، سهيل نجم، محمد ثامر يوسف، حسام السراي، فيما اعتذر الشاعر ماجد موجد عن القراءة مكتفيا باستذكار الشاعر الراحل صباح العزاوي أمام الحضور.

بعدها تجمع الشعراء المشاركون في اصبوحة استغاثات ووضعوا قصائدهم في قنينة فارغة لترمى في نهر دجلة بعد اغلاقها .

وبيت الشعر العراقي، تأسس في نيسان ابريل 2009، ينظم نشاطات نصف شهرية، ويضم في عضوية هيئته الادارية عددا من الشعراء والنقاد، وهو بحسب القائمين عليه يسعى للتواصل مع بيوت الشعر في العالم واصدار مجاميع شعرية وكتب تتعلق بتاريخ الشعر العراقي ونقده.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1226 الخميس 12/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم