تقارير وتحقيقات

هيام الفرشيشي: نصوص مختصرة في بيت السرد - تونس

hyam alfarfishiافتتح "بيت السرد" بدار الثقافة ببن عروس/ تونس موسمه الأدبي هذا العام، الذي تشرف عليه وتقدم فقراته كاتبة هذه السطور هيام الفرشيشي تحت إدارة مديرة الدار نجوى الملوحي، بالنظر إلى "أنماط الكتابة المختصرة" عبر الاحتفاء بالمجموعة القصصية "الغابة في البيت" لفاطمة بن محمود وهي مكونة من قصص قصيرة جدا اشتغلت فيها القاصة على أقنعة حيوانية لنقد الواقع باعتماد أساليب فنية وجمالية مختلفة. وعبر عينة من النصوص، لكاتبات توجهن أخيرا لكتابة نصوص مختصرة.

وتبين أن هذه النصوص مختلفة المشارب، فمنها ما استلهم من الواقع، ومنها ما استلهم من الأحلام والأساطير. فقد نهلت النصوص القصصية المختصرة من الحدس والحلم والكابوس وتعويض الوصف بالصورة لتصوير الحالات الداخلية في ابتعادها عن السرد التقليدي وكشفها لما يجول في باطن النفس الإنسانية، مع صبغ الأحداث بالشك والريبة، وما نلاحظه في النصوص القصصية القصيرة أو القصيرة جدا  وفي اللوحة القصصية أو المشهد القصصي أن الحلم يندمج فيها مع الواقع.  وبين تتابع الأحداث وارتدادها يحمل النص المكثف دلالات تنأى عن المعنى الظاهر للولوج إلى عمق النص. كما اعتمدت بعض النصوص المكونة من شذرات مستقلة ومترابطة في نفس الوقت على صور الواقع متوخية البساطة والوضوح والحذف والاختزال والخاتمة المباغتة. ونصوص أخرى توظف الرمز الأسطوري لتصوير حالة الخلق والبعد النفسي.

 

ثالوث الحدس: ذاكرة، حلم، تخيل: "حديث العودة" لبلقيس خليفة أنموذج

"حديث العودة" قصة قصيرة مكثفة لبلقيس خليفة لا تخلو من السرد والحوار  والوصف المقتضب. تسرد قصة السارد مع الراوي هدفها شد القارئ الى ما وراء الكتابة، إلى الحوارات الباطنية التي تدور في ذهن المبدع، ذلك أن القارئ يتلقى النص دون معرفة بتجليات العملية الإبداعية، فالموضوع طريف وهي بذلك تحول انتباه القارئ عن المؤلف إلى السارد الذي يتقمص صوت الراوي الذي يوجه الأحداث. حتى أن السارد يتحول إلى مجرد متلق أو سباح يغالبه موج الكتابة ثم يباغته سؤال العودة بكل إلحاح ليجد مخرجا للقصة. من هو محرك العمل الأدبي؟ المؤلف أم الراوي؟ 

"عقلت كوفيتي جيدا مخافة ضياع الهوية ووضعت في جيبي مفتاحي الثقيل الذي ورثته عن جدي وخرجت أبحث عن النهاية. رأيت الراوي عند منحنى الحكاية يدون بعض الأرقام، أسرعت نحوه أسأله:"ما النهاية؟". ضحك قليلا ثم مشى صامتا. تبعته، بدت الدروب متشعبة أشبه بمتاهة، خفت أن أضيع طريق العودة فسألت الراوي من جديد" كيف النهاية؟"

 ونلاحظ تصوير الحالات الداخلية للوعي عبر سلسلة من الرموز مثل كوفية الجد، المفتاح الثقيل، الهوية، وتدخلنا أحداث القصة الى طريق متشعب يقطعه الراوي ومن خلفه صوت السارد، فطريق الكتابة مجهول وغير متوقع، تندثر فيه الشخصيات الثانوية لتروى قصة الذات، وهو موجه حسب "ميكانزم اللاوعي الإبداعي".

وساهم الحوار في حل شفرات النص وهو حوار عبر الإيماء والإشارة والحركة، يغيب العقل وتحضر صور الحدس في تتابع حدسي تجمعه الذاكرة بمعية المخيلة والشعور.

"فأخذت نفسا عميقا واستجمعت ما بقي من قواي وقلت:" متى نعود؟"، استدار نحوي ونظر إلى وجهي لأول مرة، تفرس في ملامحي، ثم ضحك وصمت."

في "حديث العودة" لبلقيس خليفة يتكون الإحساس الداخلي للراوي من بقايا صور وأحداث ومعارف، ويضعنا أمام ثالوث حلم تخيل ذاكرة ليساهم في انتاج الحدث القصصي. فلا ينفصل الحلم عن الواقع بل هو ملتصق  بالتجربة الحسية والذهنية في آن.

 

"حلم مفزع" لنجيبة بوغندة

لم يعنون النص بالكابوس بل بالحلم المحمل بالرعب والخوف، العنوان مؤشر ضمني لتحول الحلم من متنفس لى مصدر للضيق، والعنوان يلعب على المفارقة وعلى تجاوز المعنى الظاهر للحلم، إلى آخر خفي.

"كنت أتصفح ملفات مخفية على حاسوبي، وأراجع بعض الأعمال المسجلة عليه، فجأة وجدت قصة تحمل عنوان "حلم مفزع" ولكنها لا تحمل إمضاء صاحبها، شدتني إليها وجعلت أقرأها مرات ومرات، وفي كل مرة أرى فيها وجها من الوجوه التي تزيدني شدا إليها...ظننتها لأحد من الأصدقاء، احتفظت بها حتى أنشرها على الموقع الإلكتروني..تمنيت في قرارة نفسي لو كانت لي..تردد صوت شيطاني يحثني بنشرها باعتباري لم أجد لها صاحبا.

 شعور غريب جعلني أتسمر في مكاني وأسمع دقات قلبي في صعود ونزول تتردد بين الجدران الخرساء في صمت الليل..شيء ما كان يشدني إليها بقوة كلما حاولت إبعاد فكرة أن أنسبها لي.أعدت قراءتها مرارا وتكرارا..شيء ما داخلي يقول إن الكلمات لي والعبارات بإمضائي...ارتجف قلبي وأرهقت ذاكرتي حتى أتذكر هذا النص، وفجأة تذكرت، نعم تذكرت حلما مخيفا كاد يخنقني بظلال أجنحته الكاسرة...ذات يوم ممطر تراقصت فيه رؤوس بلا أجساد تظهر وتختفي..تصدر أنات خاصة وأصوات غريبة، تذكرت ذلك الحلم الذي راودني ذات يوم آويت فيه إلى سريري منهكة.

كم كانت فرحتي عظيمة بامتلاكي للنص والحقيقة أن فرحتي كانت أعظم انتصاري على سرقة ما ليس لي، ألهذه الدرجة تكون لحظة الإبداع مختلفة عن باقي الأيام؟"

تبدو صور الحلم في النص مشحونة بالخوف من واقع دموي بل يعبر عن حدث غريب شاذ (ذات يوم ممطر تراقصت فيه رؤوس بلا أجساد.. تظهر وتختفي وتصدر أنات خاصة وأصوات غريبة)

وفي صور الحلم مفارقة أيضا حيث الفصل بين الرأس والجسد، يخلق هذا التعارض في الدلالة إلى غياب الحياة  أو ما تبقى منها عبر الأنين.

كما تعبر صور الحلم عن انحراف الواقع وجرائمه رغم استخدام مفردات الحلم والمطر، ثم هي تتحدث عن حقيقة النص المقتنص لحظة الإبداع المختلفة. فتبرز المفارقة في هذا النص إذ أن صاحبته كانت تعتقد أنه كتب بأنامل أخرى مصطنعة الغفلة والصراع بين ما أخذ منها وما يجب أن يعاد إليها أو ما تبقى من أنات أصوات غريبة، ثم إن النص ككائن مادي أو كفعل كتابة هو آداة لمقاومة الموت وإعادة الرأس للجسد الذي بتر عنه وإلى التحول من حالة الانشطار والسقوط الى حالة الصعود والالتحام.

ولم تستعمل الكاتبة مفردات متضادة فحسب بل وقفنا على وجهين للحدث في لحظة التعارض بين الموت والحياة. وقام الخطاب السردي في هذا النص على الخبر: إعلان العثور على النص ومحاولة السطو عليه، ثم صهر الماضي في الحاضر للتعبير عن لحظة الإبداع التي تتسم بالإدهاش والغرابة لأنها لا تصف حالة الابداع بل تتحول الى متن للقصة.

 

اللوحة المشهدية القصصية: "جرة قلم" لنجاة البكري انموذج

 اقترنت اللوحة الأدبية بالانطباعية المعبرة عن الإحساس الشخصي  عبر تصوير الواقع من خلال البعد الذاتي الانفعالي. لذلك بين أناطول فرانس أول من ظهرت معه اللوحة الأدبية بأن قيمتها تبرز في ما تركته فينا من انطباعات لأنها تعبر عن إحساس صاحبها. فهي معروضة علينا لنشاهدها وتترك فينا نفس الأثر سيما وإن رسمت أشكالها الحادة وألوانها الداكنة الواقع البشع بنتوءاته ووجهه السادي.

"بحثت أناملي المرتبكة عن ورقة حقيقية تستوعب استغاثة ليلى وهي تتعثر في لهاثها وتسرد على مسامعي خوفها من قذيفة تلاحق بيتها. لم تطع المحرمة القطنية رصاص قلمي في حركته المرتبكة، دوّن بارتباك تاريخ 27-12-2008 ورسم صاروخا ثم انزلق القلم إلى أسفل المحرمة وصنع دائرة وجه مُغمضة العينين فتح فاها وتفنن في نحت تقاطيعه بما ينسجم وقلق الفارّ من الموت. أحاط العينين بواقية داكنة وأبرز شفتين غليظتين وقد بدتا تتقيآن حروفا امتزجت أطراف أشكالها بأحمر داكن  مائل للسّواد.

وددْتُ أن يمدّني رصاص قلمي ببساط سنديانيّ حتى يحملني حيثُ نيسان ولنا وهبة وكل طفل هرول جيئة وذهاباً في تلك الزوايا المحاصرة...ليْته يفعل حتّى أتمكّن من احتضانهم وحمايتهم من راجمات الغدر، راجمات أرادت اغتيال براءتهم وسفك دموعهم. ويحك ثم ويحك أيّها القلم."

الواقع هذا المرئي الذي ترك شحنة لا مرئية من تمثل القاصة للألوان الحادة التي اخترقت الشعور بالطمأنينة، وأرسل ألسنته الحادة لتسبب حرقة ما، عبر عن ما يقبع داخل النص من ظلال داكنة، عاتمة تحجب رؤيتنا لجمال العالم الخارجي

تنقل الإحساس المغموس في الألم وانكسار المعنى. ليكشف ما يحمله المشهد القصصي المختصر من صور اللاوعي وترميزاته، من صور الموت التي تلاحق الجميع أطفالا وكبارا، والرغبة في إعادة الجانب الأمومي للواقع المتوتر.

 

شذرات مستقلة مترابطة: "فراق" لشادية القاسمي

"فراق" لشادية القاسمي نصوص تنسج ثوبا قصصيا من شذرات عديدة ليس غايتها ستر الواقع بل تعريته، هي شذرات مستقلة ولكن تشترك مع بعضها في الدلالة، تفصل بين شخصياتها وفضاءاتها وأحداثها ولكنها تشير الى الرابط الحقيقي بين هذه النصوص وهو اللاوعي الذكوري.

 

 

فـراق

 اجتمعا في نفس المكتب

أحست عينيه تجوبان تضاريس وجهها و جسَدها

أنفاسُها تعلو كلّما اصطدمت النّظرات .

قرّرا الزواج،

طالت الأيام بعد رباطهما

 عجز أن يكون كما يريد

صباحاً وجَدَت رسَالة

"لا أستطيع أن أكون فارسك ...

أطلبي الطّلاق

فراق-2-

مذهولاً وسط زحام كبير، لم يجد الطّريق إلى بيته

دفع موج النّاس المُتلاطم خائفاً على زوجة شابّة من حدث ما قد يكون وقع وسط العمارة المشؤومة

يخرج صباحاً ليعود ليلاً لكن على غير عادته ،رجع هذا اليوم

نساءٌ لا يعرفهن ...رجَالٌ ...صَديقات الأسرة ...

غام الكون أمامه لم يسمع إلاّ كلمات من أعماق بئر :

"انتهت مهمّة مداهمة الوكر... بنجاح "..

فراق-3-

أجمع كل الأطباء على أنّها بخير ،

و مع ذلك يصرّ الجميع على تصويب لقب مؤلم يتسلّل إلى قلبها كوخز ،"عاقر".

صفعها ...ألقى بحاجيات قليلة لها في الشّارع

"كيف تجرئين ...كيف أكون رجلا و لا أنجب "

إلى اليوم لم تنس صرخة ذلك المجنون

"أنت طالق... طالق.. طالق أيّتها العاقر ..."

دفعت عربَة رضيعها...بصَقت الذّكرى.

و مضت ...

فراق -4-

يَعْشَقه إلى حدّ الهوس

يحتفظ بصوره في غرفة نومهما

يخفي قمصَانَه بيْن ثيابه

ينساها في حضرته و يقاسِمُها معه المال القليل الذّي يجنيه من أعماله المتفرّقة

لم تعد تحتمل  أن تكون على بنك الاحتياط

 صرخت في وجهه "أريد الطلاق "

ببرود أجابها :

"على الأقل أمهليني  كي أعرف نتيجة فَريقي فِي دَوْري كُرَة القَدَم هذا الموسم..."

فراق-5-

قرّرْت أخِيراً أنْ أتَكلم

أصرخ في وجه الجميع أريد مفارقة هذا الرّجل

لا تهُمّني الحُجَج التّي سأعلنها و لن أخاف

لن أصمت كما تفعل النّسَاء و تخجلن ...

ترجّاني …

لأوّل مرّة يرْكع صاغرا أمامي ألاّ أخبر أحداَ عمّا كان يفْعَله،

فقط ذكّرته أنه لو تزوّج غيري  أن يعْرف:

" أنّ النّساء حَرْث لَكُم …وَ اتّقُوا …"

ورقة الطلاق حرّرتني من غابته …

 

تقوم هذه الشذرات على الحذف والاختزال، وتتميز بتتابع الأحداث مع انتهاء النص بخاتمة مقوضة وتتكون النصوص من جمل فعلية قصيرة تحدث حالة من التوتر، تنتهي بمقطع حواري قصير أو رسالة او استعارة رمزية أو خبر. 

وتتسم هذه النصوص بنقل الخبر عبر التتابع في الزمان والمكان وفي سير اللحظة عبر التحضير لعنصر المفاجأة. القصصية،  

وتنهل القصص البرقية "فراق" من فن كتابة الخبر الصحفي البرقي دون ميل إلى التفسير او عرض التفاصيل. فخصائص الكتابة البرقية البساطة والترتيب ووضوح الحدث، والتركيز على إيضاح الفكرة وايصالها، والالتصاق بالواقع .

 

نصوص مختصرة رمزية للثريا رمضان

 المرأة التي ارتدت نعل النخلة صارت سعفة على ظهر اسكافي

 السعفة تتفرع عن النخلة، والنخلة تخرج من رحم الأرض وتتجذر في عمق تاريخ يكتبه اسكافي عبر إصلاح أحذية قطعت التاريخ وشهدت عليه، فهو الذي يحمل هذا الموروث وهو الذاكرة بكل صورها، وهو الواعي بحركة التاريخ في الزمان والمكان. فالنص مفتوح على ولادة متجددة من رحم الماضي..

 الحب حطاب خرج للتو من رحم الشجرة ليلقي على خصرها السلام

 

نلاحظ تصوير الإحساس وتشخيصه وتحويل الباطن إلى ظاهر أيضا عبر صور تجريدية مثل الرحم الذي يرمز للأرض، الحياة المتجددة. بين الحب والشجرة تنبت قصة الإنسان تتفرع من الأرض وترنو للسماء في ربط بين الأرضي والسماوي، المادة والمعنى، والنص ينفتح على أساطير افريقية تشير إلى "أن البشر ولدوا من الأشجار وهم جزء من شجرة الحياة". أما السلام فهو الحفاظ على بذور الخصوبة. من أجل خلق مستمر لحياة متناغمة.

 أنا عكس الشارع، أراوغ حذائي، أمشي خلاف رباطه ولا أتعثر

 الحذاء يحمل مدلولا ايديولوجيا و يشير إلى الحراك السياسي والحركة لمخالفة لحركة السواد الأعظم.

 

ومضات لوهيبة المهذبي

 القصيدة تلبس القلق/ قثارة حروفها/ روحها غائبة

طغى على هذه الومضة الحركة النفسية للمفردات وموسيقى الروح، مفردات حسية مرئية، تيقظ الرؤية والإنصات استنادا إلى صور معنوية حركية متتابعة. وإلى جمل قصيرة تتحول من الحركة والفعل إلى تصوير الحالات الداخلية للوعي وكأنها متصلة بروح خارجة عنها.

كشف عن حمرته الأقحوان/ دعت الأرض الرب أن لا تضمر الشمس شيئا له

لعبت الشاعرة وهيبة المهذبي على حضور اللون القاني المرتبط برموز أسطورية مع تشكيل كون شعري جديد، وربطت علاقات جديدة مع الرموز لتصور العوالم الحسية في تجسيدها لرؤاها.

الريح لا تتخفى/ لذيذ أنينها المكتوم

 ولعبت هنا على الصوت السيكولوجي، صوت الريح وارتباطه بالتجربة الذاتية في التعبير عن العوالم الداخلية تعلن عن المتخفي عبر التشخيص.

 

"اللعب لا يليق بك" لجميلة النصيري

 نص يغلب عليه الايقاع الحركي المتواتر المغموس في معاناة تصل حد ايلام الذات عبرصورة مازوشية جديدة: "الطمي وجه قلبك". لرفض الصور الواقعية الكابوسية واستعمال لغة تتميز بالوضوح، أما الزمن فهو مفتوح على بدايات جديدة كما حركة الكون وتعاقب الليل والنهار والفصول ، ولكنها لا تتوقف. فالكتابة رغبة أساسية ولم تعد ثانوية فهي فعل جدي. 

 

لا تكتئبي 

اكتبي في الليل 

في الصبح

عند الجرح

عند بقايا الحبيب

الطمي وجه قلبك 

ولا تلعبي اياك 

فاللعب بك لا يليق 

 

 

في المثقف اليوم