أخبار ثقافية

المسرح والمجتمع المصري من النهضة حتى ثورة 1919

(لم يأت المسرح الحديث من فراغ ولم يتعرف عليه المجتمع المصري بشكل مفاجئ...) بهذه الجملة تفتح الدكتورة/ إيمان النمر، إصدارها ضمن مطبوعات مركز تاريخ مصر المعاصر ضمن إصدرات دار الكتب والوثائق القومية، وهو الإصدار الذي صدر منذ أيام قليلة، والذي تقدم فيه الدراسة لتوثيق تاريخ المسرح المصري منذ إرهاصاته الأولى إبان مصر الحديثة، باعتباره ذراعًا من أهم أذرع القوى الناعمة التي اعتمدتها مصر الحديثة إبان بناء نهضتها.

مقدمتان هامتان للكتاب:

يتضمن الكتاب تقديمين، الأول هو مقدمة الطبعة والتي قدم لها أ.د أحمد زكريا الشلق، والتي أكد فيها على أنه ومع وجود دراسات جادة حول المسرح المصري، إلا أن هذا الإصدار "تميز بالتأريخ لنشاة المسرح في مصر في إطار تطور مصر السياسي والاجتماعي..."، وأكد أن الإصدار "يتميز بطابع أكاديمي جاد، يجعله إضافة لكل الجهود السابقة"، والتي يبرز منها دراسات الدكتور سيد علي إسماعيل.

ويأتي التقديم الآخر، بخط مؤلف الكتاب د. إيمان محمد النمر، لتؤكد ما تناولته بالتفصيل  كما جاء في نص المقدمة على أنه "من عام 1869م تاريخ إنشاء دار الأوبرا الخديوية بصفتها المسرحية المؤسساتية التي يمكن اعتبارها بداية تاريخ المسرح بمفهومه الحداثي المتماسك في مصر، ونهاية بعام 1920 لمَّ كانت تمر به مصر من ظرف تاريخي فاصل يُعد بمثابة مرحلة جني ثمار مرحلة طويلة من الحراك الاجتماعي والفكري الذي تمخضت عنه ثورة 1919، وكانت خشبة المسرح مرآته"، ثم تتابع في شرح أفكارها عبر التمهيد في البداية، وفي خمسة فصول للكتاب، يتلوها ختام أخير.

محتوي الكتاب:

يبدأ الكتاب كما قلنا بمقدمتين، ثم يأتي التمهيد والذي يستند إلى "كتابات الرحالة المستشرقين الذين زاروا مصر خلال القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر" شارحًا للانماط التمثيلية الشعبية المنتشرة وقتها في مصر كخيال الظل والحكواتي... إلخ.

وعبر خمسة فصول تبدأ رحلة توثيق أكاديمية تقدمها د. إيمان النمر، فيعرض الفصل الأول لتاريخ ما يسمى (المسارح الخديوية) وكذلك مسارح الإسكندرية، ويرصد مفارقة مثيرة للدهشة من خلال رصد الحالة الاقتصادية لمصر والتي ترزخ تحت نير الديون، إلا أن الحكومة المصرية خاصة في عهد إسماعيل راحت تنفق ببذخ لأجل الحفاظ على وجود تلك المسارح بل ودعوة الفرق الأجنبية إلى مصر.

في الفصل الثاني من الكتاب، تتبع الباحثة النشاة التأسيسية للمسرح المصري وبعض الفرق الشامية التي دخلت في المشهد المسرحي، موضحًا أهم العراقيل التي جابهت صناع المسرح في مصر في ذلك الأثناء، وراصدة لأهم الأسماء ومنها، " سليم النقاش ثم يوسف الخياط، وسليمان القرداحى، وأحمد أبو خليل القباني، واسكندر فرح، وسليمان حداد وغيرها من الفرق الصغيرة والمغمورة".

ونتابع في الفصل الثالث؛ تأريخًا للمسرح المحلي، وفي هذا الفصل يتم مناقشة إشكالية حول "ريادة يعقوب صنوع" للمسرح في مصر، ومرورًا بسلامة حجازي، وما حدث من تطور الآداءات المسرحية والشكل المسرحي والذي تزامن مع حركة نقدية وفنية موازية لتلك النهضة.

ويطرح الفصل الرابع، يدرس علاقة المسرح بالدولة والجمهور باعتباره مؤسسة لها نظم وقوانين خاصة يتم من خلالها تحديد طبيعة العلاقات بين الحكومة المصرية والفرق المسرحية، والجمهور، وتدخلات الأمن المصري، والدعم المقدم، وتستعرض نماذجًا لذلك في الفترة موضوع البحث.

والفصل الخامس يبرز فيه واحدة من أهم الاشكاليات في المجتمع المصري والعربي بشكل عام، حيث النظرة الاجتماعية للتمثيل والممثل، من خلال القبول والرفض، وكذلك التأثير والتأثر بالقضايا المجتمعية، ولا يغفل الفصل الخامس الإشارة إلى نظرة الدين والتدين في مصر إلى قضية المسرح.

منهج الدراسة في الكتاب:

تتبعت الباحثة النشاة الحقيقية للمسرح المصري في عصر النهضة المصرية، متتبعة منهجًا تحليليًا لمئات الوثائق والمخطوطات والدوريات، وحاولت أن تصل إلى نتائج متفردة حول حقيقة نشاة المسرح المصري، وقد لخصت بنفسها منهج بحثها التاريخي بقولها: "التزمت بالمنهج التاريخي فى ضوء هذه الوثائق والمصادر وكافة الكتابات المتعلقة بموضوع الدراسة، وتناول ما اشتملت عليه من حقائق بروح البحث والموضوعية القائم على النقد والتحليل قدر الاستطاعة"، ووثقت الكثير من الشهادات للفنانين والمسرحيين، وساقتها أحيانًا للدلالة على أهم النتائج التي خلص إليها البحث.

التعقيب الأخير للكتاب:

لم تكتف الباحثة د. إيمان النمر بمجرد هذا العرض التوثيقي المتقن، إنما حاولت في تعقيب الكتاب أن تناقش أهم الانتقادات التي تعرضت لها الفرق الشامية، وتشرح أسبابها، وكذلك فندت الاتهام لمسرح نجيب الريحاني والكسار الذي يتهمهما بنشر الفساد والرزيلة مؤكدة أن التعسف والتشدد حول المسرح لا يزال تهمة تلاحق المسرح من حين لآخر، منتصرة للمسرح حين كتبت: "الفن هو نتاج التعليم الجيد، والثقافة الانسانية المتحضرة، ودرجة الحرية المتاحة، والاقتصاد المتماسك، والصحة السليمة، فثالوث الخطر (الفقر والجهل والمرض) لن ينتج سوى مجتمع راكد يعاني من القهر الذي ينمو فيه ثقافة الغاب والأنانية والمادية، وبيئة حاضنة لكل فكر متطرف على كافة الأصعدة"، ولا تتوقف عند ذلك بل حاولت التحليل والتفكيك للسؤال الأعظم "ماذا يريد الجمهور"، واستعرضت الكثير من الملابسات الشائكة حول وضع المسرح المصري، لتخلص عبر تلك المناقشة إلى القول: "أن الفكرة هي التي تسبق البندقية والمدفع، وأن الفنون والثقافات المتحضرة هي من تصنع احترام شعوبها".

يزخر الكتاب بوجبة دسمة متخصصة، وشيقة، ويطرح العديد والعديد من التساؤلات حول المسرح المصري، والتي تمتد منذ إرهاصات التكوين حتى الآن، بل وتربط بعضها بفن السينما وقضايا المجتمع، ودور الدولة تجاه ذلك باعتباره واحدًا من أذرع القوى الناعمة في كل الدول الآن.

بقى التنوية بأن المؤلفة د. إيمان محمد النمر، حاصلة على درجة الدكتوراه في 2017، وتنشر مقالات مختلفة عبر منصات ثقافية متعددة، منها منصة حفريات، والموقع الثقافي لمنصة RT بالعربي، وغيرهما، وهي بكتابها ذلك، تعلن ميلاد باحثة وناقدة من طراز فريد، نعتقد ان الساحة الفنية والثقافية في مصر بحاجة إلى الكثير من جهودها البحثية القادمة، فهنيئًا لنا بذلك الإصدار.

 

في المثقف اليوم