ثقافة صحية

بهجت عباس: تأثير البيئة على فعّالية الجينات

بهجت عباس(إلى الدكتور علي القاسمي)

مقدّمة لا بدّ منها

يُلقي العراقيّون بصورة خاصّة والعرب بصورة عامّة اللوم على الجينات فيما يُصيبهم من حظّ عاثر في حياتهم ، وخصوصاً إذا ابتُلوا بقادة جهلة وأنانيين وفاسدين، ولكنهم لا يدرون أنّ الجينات لا ذنب لها في مآسيهم وعذابهم، فكيف تلوم الطائر على عدم التحليق وهو مُوثّقُ الجناحين!؟ لذا هناك عوامل تؤثّر على عمل الجينات، فتغلقها أو تفتحها، تقلل من فعاليتها أو تزيدها، ولا قدرة للجينات على مقاومتها . ولكننا قبل أن أدخل في تفاصيل هذا الموضوع أحبّ أن أذكر بعض المعلومات بصورة موجزة جداً عن الجين ، تكوينه وعمله. ففي داخل خلية الكائن متعدد الخلايا توجد نواة بغلاف. يوجد داخل النواة جزيئة عملاقة تتكون من سلسلة طويلة من قواعد نووية تسمّى دنا DNA . كلّ قاعدة نووية تتكونّ من سكّر خماسي (رايبوز) فاقد ذرة أوكسيجين، لذا يُسمّى دي أوكسي رايبوز، ومجموعة فوسفات وقواعد نتروجينيّة أربع متكرّرة ، هي أدنين ، سايتوسين، كوانين وثايمين.  فالدنا هي لغة بحروف أربعة تمثل القواعد النتروجينيّة. الدنا هي حامض نووي، وثمة حامض نووي آخر يدعي رنا RNA يوجد قليل منه في النواة ومعظمه في سايتوبلازم الخليّة.

ولتبسيط الأمر ولتبيان العلاقة بين الجين والكروموسوم والبروتين يجب أن نعرف أنّ في نواة خليتنا يكمن الجينوم الذي يشمل كل المواد الجينية بضمنها الكروموسومات. في الإنسان يوجد 46 كروموسوم. وهذا الأخير يتكون من سلسلة طويلة جداً من وحدات صغيرة تسمّى بالأجسام النووية Nucleosomes (تتكون من 200 قاعدة نتروجينية وبروتين يدعى هيستون. تلتف الدنا DNA بدورتين اثنتين على ثماني جزيئات من الهيستون ، فتشكل ما يشبه الأسطوانة.) فالكروموسوم إذاً يتكون من دنا DNA وبروتين ورنا RNA ويكون معبّأً داخل تركيب يُدعى بالكروماتين الذي يتكون أيضاً من سلسلة طويلة من الأجسام النووية.

أمّا الجين فهو قطعة من دنا DNA يقع على الكروموسوم. والدنا في خلايانا ليست نقية، إذ تلتحق بها أو تُضاف إليها مواد كيميائية. هذه المواد الكيميائية لا تغيّر الشفرة الجينية ولكن تغيّر (إفصاح) الجين، أي إنتاجه أو توسطه في الإنتاج ، وهذا بدوره يؤثّر على طبيعة وفعّالية الخلية.

آلاف الفعاليات والعمليات في الخلية لا تقوم بها الدنا ، بل أنواع معينة من البروتينات. ولكن الدنا هي الكود (الشفرة) لهذه البروتينات. أمّا كيف يتمّ إنتاج البروتين، فهو حسب القاعدة المعروفة : (دنا – رنا - بروتين.) حيث تستنسخ الدنا الرنا الرسول messenger RNA التي تكون قاعدة لتكوين البروتين من الحوامض النووية.

ولكنْ هل ينتج الجين البروتين بكمية متساوية وفعّالية واحدة في كلّ الأفراد الذين يحملون الجينات ذاتها، مع بعض الفوارق البسيطة، أم أنّ ثمة تفاوتاً في الإنتاج؟ هذا ما تُجيبنا عليه القصة الهولندية التالية المقتبسة من كتاب د. نيسّا كيري (Epigenetic Revolution 2013 ) وكتاب د. ريشارد فرانسيز (Epigenetics 2011 )

هولندا والحصار الألماني

عندما حاصر الألمان غرب هولندا في الأشهر الأخيرة نوفمبر 1944- مايس 1945 من الحرب العالمية الثانية كانت هناك مجاعة ، حيث حاول الهولنديون البقاء على الحياة بسعرات حرارية هي 30% من السعرات العادية اليومية أكل فيها الناس الحشائش وأزهار التوليب. مات أكثر من 20 ألفاً منهم. فأخذ العلماء يدرسون تأثير هذه المجاعة على الأطفال (الأجنّة) الذين كانوا في أرحام أمهاتهم. فماذا وجدوا؟ إذا كانت الأم في تغذية صحيحة في فترة الإخصاب ولكن عانت المجاعة في الأشهر الأخيرة من الحمل ولدت طفلاً صغير الحجم، وهذا الطفل بقي صغير الحجم طوال عمره مهما كانت تغذيته جيدة في السنين التي تلت مع نحافة بدنية. أمّا الأم التي عانت المجاعة في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، ولكنها كانت في تغذية جيدة في الأشهر الباقية من الحمل، ولدت أطفالاً ذوي حجم طبيعي أو طوال القامة مع بدانة غير طبيعية. والغريب أنّ أطفال هؤلاء الأخيرين اكتسبوا البدانة أيضاً. وعندما درس العلماء نفسيّة هؤلاء الذين ولدتهم أمهاتهم اللواتي عانـيْـن المجاعة قبل ولادتهم، وجدوهم أكثر عرضة للإصابة بأمراض نفسيّة وخصوصاً مرض الشيزوفرينيا والكآبة وضغط الدم العالي ومرض السكّر وأمراض القلب وتصرّفات غير عادية في علاقتهم بمجتمعهم. ولكنّ نوع المرض المصاب به هؤلاء الأطفال يعتمد على فترة المجاعة أثناء الحمل، فيما إذا كانت في الشهر الأول أو الرابع أو التاسع مثلاً. كما أنّ المرأة الحامل في المجاعة معرّضة للأمراض، فمثلاً إذا كانت في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل وتعرّضت للمجاعة تكون عرضة لمرض القلب التاجي وسرطان الثدي، وفي الأشهر الثلاثة الثانية من الحمل تكون عرضة لأمراض الرئة والكلى ، والأشهر الأخيرة فمرض السكر يكون في انتظارها.

كيف يكون التغيير؟

يعني أنّ بيئتنا تؤثر على فعّالية جيناتنا ولكنها لا تؤثر على تركيب الجينات أو تسلسل قواعدها النتروجينية، ولكنّ التأثير يؤثر على الخلية التي تحتوي على هذه الجينات وليس كل الخلايا تتأثر بهذه التغييرات . ومن هنا يأتي التفاوت في الأمراض التي تصيب الجسم نتيجة تغيّـر ظروف البيئة. فما هي آلية هذا التغيّـر؟ هنا يأتي ما يُسمّى بالتغييرات فوق الجينية Epigenetics . فالمقطع Epi يعني في الأغريقية (فوق) أو (على). يمكننا تعريف هذه الكلمة بـ (مجموعة التحويرات أو التغييرات التي تطرأ على المواد الجينيّة فتغيّـر عمليّة فتح الجين أو إغلاقه)، وعملية فتح الجين تعني عمل الجين لإنتاج البروتين الذي تحتاجه الخلية للقيام بوظيفتها، وغلق الجين هو تثبيط القيام بهذه الوظيفة.

أما خلايا الإنسان فعلى أنواع تزيد على المئتين ويختلف بعضها عن بعض. فخلية الجلد السطحية epidermis مثلاً تعيش 5 أسابيع تقريباً وتحل محلها خلية جديدة تتولد من الخلايا الأولية (الجذعية ٍStem cell الموجودة في الطبقة العميقة من نسيج الجلد ، بينما الخلية العصبية Neuron باقية مدى حياة الإنسان لا تستبدل، ومعنى هذا إن أصابها حادث فماتت، فلا تحلّ خلية عصبية أخرى كبديل لها.

التحويرات التي تطرأ على الدنا لا تغير طبيعة هذه القواعد أيْ أنّ تركيبها الكيميائي يبقى ثابتاً كما كان قبل التحوير. إنّ أهم تحوير في الجين هو ارتباط مجموعة المثيل CH3 بأحد القواعد وهو السايتوسين، فيسمى (مثيل سايتوسين.) إنّ استنساخ الرنا من الجين لا يتأثر بوجود مجموعة المثيل المرتبطة، فتكون الرنا غير متحورة ، سواء ارتبطت مجموعة المثيل بالجين أو لم ترتبط، أو بمعنى آخر يبقى البروتين الناتج دون تغيير. ويمكن القول أيضاً بأنّ الكروموسوم المُتولّد من تضاعف الدنا (الأم) أثناء انقسام الخلية يحتفظ بتسلسل القواعد الأربع دون تغيير في هذا التسلسل بغضّ النظر عن وجود أو عدم وجود مجموعة المثيل.. ولكن الجين المرتبط به المثيل يتأثر في إفصاحه فيما إذا أنتج بروتيناً أقلّ أو أكثر من المعتاد أو لا ينتج مطلقاً. هذا الجين يكون مُتوارَثاً، فالأبوان يُـورِثانـه طفلهما.

وإذا عرفنا أنَّ معدّل الوزن الجزيئي للقاعدة النتروجينية هو 600 دالتون، ومجموعة (المثيل) هي 15 دالتون، نرى أنّها  تشكّل 2.5% من القاعدة. وهذه النسبة المئوية الضئيلة هي التي تغيّر ميزان القوى! فبارتباطها بالقاعدة (سايتوسين) تجعل الجين أقلّ إفصاحاً أو تغلقه فلا ينتج الرنا. وكلما كثرت مجموعات المثيل، قلّ افصاح الجين وقلّ استنساخ الرنا أو عدمه ، وهذا طبعاً يؤدّي إلى عدم انتاج البروتين، بما فيه الإنزيمات وبعض الهرمونات. وعند هذا تتغيّر فعالية الخلية كوحدة بناءة ويتغيّر النسيج أو العضو الذي يحتويها ومن ثمّ تتغيّر فعالية الجسم ككلّ..أمّا كيف يتمّ هذا؟ أو ما هي آليّة التغيير التي تؤّدي إلى غلق الجين وقدرته على الإنتاج فنلخّصها ما يلي:

آليّـة التغييـر

الحاثّ / المثير / المحرّض/ المؤسّس (سمّه ما شئت) Promoter هو جزء من الجين ترتبط به الإنزيم المسمّاة رنا بوليميريس – DNA-dependent RNA Polymerase لتستنسخ الرنا RNA التي تكوّن البروتين من الحوامض الأمينية. (العملية مذكورة بالتفصيل في كتابيَّ –عالَم الجينات 1999 و الجينات والعنف والأمراض 2007.)

أمّا إذا كان هذه الجزء (المحرّض) من الجين يحمل مجموعة المثيل، فهذه المجموعة تمنع ارتبط الإنزيم بالجين فلا يتمّ استنساخ الرنا، ومن ثمّ فلا يتم تكوين البروتين. وقد وجد البروفيسور أدريان بيرد Adrian Bird، المتخصّص في مثيل الدنا ، بروتينا سمّاه MeCP2، يرتبط بالدنا التي تحمل مجموعة المثيل وينبّه الخلية إلى هذا الارتباط أو(يغري) بروتينات أخرى لتغلق الجين ، فلا يتمّ استنساخ الرنا الرسول mRNA المسؤولة عن تكوين البروتين من الحوامض الأمينية. وإذا كانت الدنا مرتبطة بكمية كبيرة من المثيل ، ينعدم تكوين الرنا الرسول تماماً، وعند هذا تتكوّر الدنا وتبطل وظيفتها، فلا يتم تكوين الخلايا. ولكن الغرابة أنّ جينات الخلية السرطانية تفقد مجموعة المثيل المرتبطة بها، فتستنسخ الرنا الرسول التي تكون البروتينات وتتضاعف الدنا وتنقسم الخلية إلى أخرى باستمرار ويتكوّن الورم (السرطان). ولمّا كانت الخلية السرطانية قادرة على إزاحة مجموعة المثيل بواسطة إنزيم في سبيل بقائها وتكاثرها، فقد يكون ممكناً، نظريّاً على الأقلّ،  (نزع) مجموعة المثيل هذه من الخلية الطبيعية وإعادة فعاليّتها التي كانت من قبل، لأنّ هذا المثيل لا يغيّر/ يحوّر تركيب الجين. وهنا يأتي دور الوراثة. فبعض الجينات التي يرثها الطفل من أمه يختلف عن مثيله الذي يرثه من أبيه والعكس وارد أيضاً، وذلك بفعل التغييرات فوق الجينيّة. فقد يكون هذا الجين (فعّالاً) إذا جاء من الأمّ وغير فعّال إن جاء من الأب، والعكس صحيح أيضاً. وبعض الجينات الذي أثّر عليها المثيل قد تورَثُ من أحد الجدّين. وعلى هذا الأساس لا يكون التوأمان المتماثلان متشابهين تماماً في تصرفهما أو تأثير الأمراض عليهما،  فيما إذا عاشا سواءٌ في بيئة واحدة (حيث التعرض للإشعاع والمواد الكيميائية الموجودة في الغذاء وتلوث البيئة وغير ذلك) أو في بيئتين مختلفتين تماماً، كأنْ يكون أحدهما في العراق والآخر في السويد. ليس المثيل الذي يلتصق بالجينات هو كلّ شيء في التغيير، بل هناك بروتين موجود في الكروموسوم متحد بالدنا، وهو الهيستون. هذا البروتين يتحد بجذر كيميائي آخر هو الأستيل CH3COO- الذي يتحد بالحامض الأميني لايسين Lysine الموجود في الهيستون، فيزيح الشحنة الموجبة، فبهذا يقلل من تجاذب الهيستون والدنا ، فيسهل اتصال الإنزيم رنا بوليميريس RNA polymerase وعوامل الاستنساخ بالمحرّض أو الحاثّ Promoter ، فيسرّع عملية استنساخ الرنا الرسول ومن ثمّ تكوين البروتين يكون سريعاً. أما إذا أزيح هذا الأستيل، فيتكثف ويتكور الهيستون ويكون الاستنساخ بطيئاً أو قد لا يكون.

فالمثيل يغلق الجين والأستيل يفتحه، وهنا يكون التنافس بينهما معتمداً على كمية كلّ منهما الموجودة في الخلية .

التوأمان المتماثلان ينشآن من خلية واحدة مخصبة عند مرحلة البلاستوسيست Blastocyst (الجنين الأولي المبكّر الذي يتكون من 100 خلية تقريباً) ، فنتيجة انقسام كتلة الخلايا داخله إلى قسمين متساويين يكون توأمان متشابهان (متماثلان). هذان التوأمان يكونان متشابهين تقريباً وليس تماماً في كمية مجموعة المثيل التي تطرأ على الدنا أثناء تطورهما داخل الرحم. ولكن بعد الولادة يكون الاختلاف في كمية المثيل أو الأستيل أو كليهما أكثر وضوحاً. وحينما يتقدمان في العمر، يكون الاختلاف أكثر.

 

د. بهجت عباس

 

في المثقف اليوم