صحيفة المثقف

جون فانيس .. أول رجل اميركي يدخل العراق

بدراسة تاريخ الجزيرة العربية ودخل اراضي نجد والحجاز(المملكة العربية السعودية) في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وأتصل بالملك عبد العزيز بن سعود.. وكتب عن احوال تلك الدولة وبدايات تأسيسها..وكتب ايضا عن دخوله الى ارض العراق ومعيشته بين عشائر العراق .. والناس البسطاء.. في كتابه (أقدم أصدقائي العرب).. الذي كتبه باللغة الانكليزية .. وترجمه في الاربعينات من القرن الماضي ..جوزيف عبو.. من أهالي الموصل.. وطبعت النسخة العربية في مطبعة موصلية..

.. وكنت احتفظ بنسخة من الكتاب المترجم اهداه المؤلف لوالدي وكان الاهداء بخط يده.. الا ان هجمات قوى الامن الشرق اوسطية بين الفينة والاخرى.. والتي لاتميز بين الكتاب المفيد والكتاب الامبريالي.. وخوفا على المال والعرض والعيال.. احرقت النسخة اليتيمة مع ما احرقت من كتب قيمة ورثتها عن والدي.. واشتريت جلها من قوت عيالي.. احدى اهداف نشر مقالتي هذه توجيه نداء الى الاخوة المهتمين بالكتب والكتابة..هل ثمة امل في العثور على النسخة العربية.. او الانكليزية لهذا الكتاب القيم.؟. لأني قد بحثت في الكوكل فما وجدت سوى اشارات عابرة للكتاب وصاحبه.. وحفزني للكتابة أطلاعي على هوامش الدكتور علي الوردي على متن كتابه القيم لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث فيه اشارات واقتباسات من كتاب الدكتور جون فانيس هذا..

الذي يهمنا في هذا المقال الحديث عن الرجل.. وفترة إقامته في العراق.. وإستقراره في لواء البصرة( محافظة)..ومدينة العشار بالذات..لأكثر من اربعين عاما استقدم خلالها خطيبته ورفيقة حياته والتي تزوجها في البصرة.. بداية ثلاثينيات القرن العشرين وأنجبا ولدا واحدا توفي منتصف الخمسينات وهو في ريعان شبابه مما اثر على نفسية الدكتور فانيس وزوجته .. وأتخاذهما قرارا نهائيا بترك العراق الذي أحباه.. والعودة الى الولايات المتحدة بعدما كانا يفكران بالاستقرار الدائم..لقد سجل جون فانيس إنطباعاته عن الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك

 الفترة الممتدة بين بداية القرن العشرين ومنتصفه.. وركز في انطباعاته على سكان الاهوار وعشائره.. وطبيعة عاداتهم وتقاليدهم وتفكيرهم.. وكرم أخلاقهم وطيبتهم.. وأورد بعض المعلومات عن جذورهم العريقة وجذور الديانات التي تمتد الى ماقبل الميلاد.. وتحدث عن الصابئة المندائين شارحا اسباب تمركزهم قرب الانهار.. مبينا ان الكثير منهم قد اعتنقوا الاسلام بعد الفتوحات الاسلامية.. لكن جذورهم العراقية تؤكد انهم اكثر الاقوام عراقة..بغض النظر عن الاسباب التي دعته للقدوم الى العراق والاستقرار فيه (والتي ظاهرها اسباب تتعلق بالتبشير الديني المسيحي) لابد من الحديث عن جهوده وخدماته التي قدمها للمجتمع العراقي.. البصري خاصة.. ودوره في مكافحة الامية ونشر ثقافة التسامح والمحبة..مع الانتباه ان الدكتور فانيس قد بدأ مشواره والعراق لم يؤسس دولته الحديثة بعد وفي وقت كانت الولايات المتحدة الاميركية لم تدخل بعد معركة التزاحم على مناطق النفوذ.. ولم تكن ابدا زعيمة ما يسمى العالم الرأسمالي او الحر.. وكان الصراع على أشده بين بريطانيا وفرنسا وايطاليا على تقاسم تركة الرجل المريض (الامبراطورية العثمانية)..أشار في كتابه الى تعلقه بالشعب العراقي.. رغم حجم الفقر والامية.. وانعدام المؤسسات الصحية.. وعدم تبلور احساس عميق بروح المواطنة العراقية وغلبة النزاعات القبلية..لقد سادت مفاهيم استعمارية في جوهرها أنسانية في ظاهرها ربما كانت من الاسباب التي دعت الرجل الى مغادرة بلده وتحمل مشاق الترحال من بين تلك المفاهيم مايسمى ب(عبء الرجل الابيض..) قوام ذلك المفهوم ان الرجل الابيض (مادام قد تحققت له فرصة الارتقاء والازدهار والحضارة يبقى عليه واجب الالتفات الى أخوته من الاجناس الاخرى في اسيا وافريقيا.. عليه بذل ما يمكن من اجل النهوض باولئك الاخوة.. وزجهم في حركة الارتقاء الانساني.. وقد لقيت تلك الفكرة رواجا عند شبيبة العالم الغربي.. رغم ان هنالك تحليلات رصينة تؤكد ان الغاية الحقيقية تركز على استعمار تلك البلدان وكسب شعوبها في معركة اقتسام النفوذ وفتح الاسواق امام حركة الرأسمال المتنامية..

 ولد جون فانيس في الربع الاخير من القرن التاسع عشر وأولع منذ صباه بالدراسات التأريخية والانثوبولوجية واللاهوتية..وحصل على شهادة الدكتوراه في تلك الدراسات..وحين استقر في العراق عام 1903 أدرك ان العراقيين بحاجة ماسة الى فتح مدارس حديثة.. يجري التعليم فيها باللغة العربية وليس باللغة التركية .. وينبغي ان تضم مفردات دروسها العلوم البحتة كالرياضيات والفيزياء واللغات الاجنبية.. اضافة الى دروس التاريخ والجغرافية وعلوم اللغة العربية..لم تكن المدارس انذاك اكثر من عدد اصابع اليد الواحدة والدراسة فيها تقتصر على ابناء الذوات وفي اللغة التركية يتخرج منها بضع عشرات اكثرهم يفضل الخدمة العسكرية كضابط في الجيش العثماني. والاغلبية الساحقة يقتصر التعليم فيها على مايسمى بالكتاتيب او (الملا.) والتي لا تقدم سوى معلومات ضئيلة في تعلم الابجدية وحفظ بعض السور القرانية الشريفة. ويؤكد الدكتور فانيس ان نسبة الامية تفوق نسبة ال 90 بالمائة بكثير.. فاتح الدكتور فانيس الوالي العثماني بمشاريعه .. فسخر منه الوالي وتهكم على إطروحته..مستهجنا قدرة العراقيين على تعلم العلوم الحديثة. وقال كلاما بذيئا تصعب كتابته علينا..

أتصل الدكتور فانيس بشيوخ ال السعدون وشيوخ بني اسد..وحضر مجالسهم.. ووصف وصفا بديعا مضايفهم البسيطة وكرمهم الباذخ واحترامهم للضيف . كلما بعدت الشقة بينه وبين وطنه.. لقد شربت قهوتهم .. يقولها باعتزاز.. وتعلمت النطق وفق لهجاتهم.. كان يجيد النطق باللهجة الجنوبية الريفية بلكنة واضحة .. وخنة عرف بها..فكأن الكلمات كانت تخرج من أنفه..وأعتاد العامة ان ينادوه مستر وانيس...

 يقول انه جلس يوما في مجلس شيخ من شيوخ ال السعدون..وأذا برجل بدوي يدخل الخيمة..ويجلس عند أدنى الجالسين مكانة. رث الثياب..شاحب اللون..وحين قدم له فنجان القهوة لم يشربه..بل بصق فيه والقاه من فوق كتفه الى الخلف. وهذه أهانة بالغة للشيخ ولضيوفه.. فسأله الشيخ عما به..فقال انه كان نائما الليلة البارحة عند جوار الشيخ..وذمته (أي ضمن حدود سلطته..) فسرق بعيره .. (فوالله لا أشرب قهوتك..) فأمر الشيخ ان يعوض ببعير..وقدمت القهوة ثانية فشربها!!

 ويتحدث الدكتور عن بداية انتشار مفاهيم الحرية والديمقراطية..بعد انبثاق حركة المشروطية في تركيا..وبدأ الناس يرطنون بها.. وبشر البعض بها بحماس. حدث ان سطا لص على بيت رجل وقتله وسرق متاعه.. فالقي القبض عليه وحين نطق القاضي الحكم بأعدام اللص .. صرخ اللص.. عجبا.. أين الحرية التي تنادون بها....! (ما أشبه اليوم بالبارحة؟؟.. ما زال هناك من يعتقد ان الحرية تعني حرية قتل الاخرين.. سلام.)..

 الغريب اننا شهدنا بعد 2003 في العراق مايشبه فهم اللص الساذج في بدايات القرن الماضي.. اذ اعتقد البعض ان الحرية تعني الحرية في نهب المال العام والاعتداء على الناس..... وبعضهم رأى في الحرية حرية تزوير شهادة دراسية يتقدم بها مرشحا للبرلمان او مجالس المحافظات. (المصدر.. هيئة النزاهة..)..

 وتحدث جون فانيس في كتابه أقدم أصدقائي العرب عن نظرة الناس للظواهر الحديثة..وعدم استيعابها بسرعة..فقد كان الموظف العثماني يسرق ويبتز الناس في وضح النهار.. ولكن لا أحد يجرؤ على ذكره بسوء لأنه كان يواظب على حضور مواعيد الصلاة.. يبسمل ويحوقل ويطيل لحيته..في حين ان موظفا عثمانيا اخر جاء بعد هذا الموظف..كان اكثر نزاهة ومقدرة على اداء مهام وظيفته لكنه كان يخالط الاوربيين ويحضر حفلاتهم الراقصة.. وكان يراقص نساء هم..فصار موضع ذم الناس وتذمرهم وتقبيحهم .. حتى كتب عنه احد الصحفيين مقالة جاء فيها (أشتهر بالمخازي..ورقص الدانص !..مع مدامة مدير البانق.). أي مع زوجة مدير البنك الاوربي الجنسية..

 وقد علق الدكتور علي الوردي على ذلك أن الناس قد يقبلون المتظاهر بتأدية الطقوس الدينية وليفعل بهم وببلادهم مايشاء.. ويرفضون الرجل وإن كان نزيهاحين يحاكي القيم الغربية..

 ونحن نقول.. ليس كل من أدى الطقوس ليس نزيها.. ولا من ابتعد عنها كفوءا.. لكننا نتفق مع جون فانيس وعلي الوردي. ان الناس كانوا وما زالوا تخدعهم المظاهر..

 وأ ختلط فانيس بالمعدان.. مربي الجاموس.. وكتب عن أحوالهم..وقد عرض عليه أحد مشايخهم ان يزوجه من ابنة أخته..مقابل البقاء معهم يعالج مرضاهم بعد حادثة طريفة..حين شكك الشيخ بنسب الدكتور وأصله ومهمته ونواياه الحقيقية فأدعى الدكتور انه طبيب يعالج الناس. لأنه وجد صعوبة بالغة في شرح كل شيء للشيخ الذي ربما سيقتله ان تعذر عليه استيعاب فكرة الفضول العلمي.. وما يسمى بعلم دراسة عادات الشعوب..وقال انه يعالج الناس مرضاة لله..فقرر الشيخ ان يختبره.. فقال له عندنا مريض..فأن نجحت فأنت منا.. وإن فشلت ف..(بخبخ....) وأشار الى رقبته.. أي اننا سوف نذبحك..وكان المريض امرأة من أقارب الشيخ.. وشاء القدر ان ينجح في علاجها.. مما حببه لأفراد العشيرة..وأعتبروه واحدا منهم وأخذوا ينادونه بنداء التوقير مستر وانيس..!

 

بعد الاحتلال البريطاني للبصرة شرع جون فانيس بـتأسيس مدرسة الرجاء العالية..(التي أطلق عليها العامة .. مدرسة الأمريكان..)..وحقق أمنيته التي سخر منها الوالي التركي..وقد أنشأت هذه المدرسة على مساحة واسعة من الارض.. في وسط مدينة العشار مركز محافظة البصرة.. متزامنة مع تأسيس دائرة كهرباء البصرة (با ورهوز..)..والتي بنيت على مسافة قريبة منها.. لقد استقطبت المدرسة ابناء الفقراء.. ومنذ بداياتها اعتمدت تدريس العلوم الحديثة باللغة العربية والانكليزية بما يشبه مناهج مدارس اليوم..وقد استطاعت ان تكون مدرسة نموذجية في سنين قلائل تضم الدراسة الابتدائية والمتوسطة والاعدادية.. تعتمد على كادر تدريسي كفوء من الهنود والانكليز والعرب الشاميين والعراقيين..تدفع لهم رواتب مجزية.. تمويلها يعتمد على مساعدات منظمات المجتمع المدني في اوربا واميركا.. وكانت فيما يبدو جيدة جدا..

 حدثني والدي المرحوم كاظم فرج الياسر.. أنه كان يدرس في مدرسة عراقية مبنية من الطين نهايات عام 1939 وكان متفوقا جدا.. لكن حريق شب في مدرسته الريفية ادى الى تسرب جميع الطلبة من مقاعد الدرس. وعودتهم الى اعمال الفلاحة..

التقى جون فانيس بمحض المصادفة بوالدي الذي لم يتجاوز العاشرة بعد وكان قد قدم الى العشار لبيع محصول الرقي الذي امتهن جدي زراعته.. كان ذلك عام 1943..يقول والدي لقد تبسط معنا في الحديث بلهجته الريفية المصحوبة بلكنة ..وسألني عن مستواي الدراسي.. وعندما علم انني كنت الاول على مرحلتي وان مدرستي قد الغيت..ولا يوجد غيرها في القرية.. عرض على جدي.. ان ينقله الى مدرسة الرجاء العالي لكي يكمل دراسته .. واعدا اياه بتوفير قسم داخلي.. ومصروفه اليومي وكتبه ودفاتره مجانا!!.. قال جدي ولكني أحتاجه في الحراثة.. أجابه الدكتور .. يستطيع ان يساعدك في العطل..

 وقال له (أترك لنا كاظم وسترى أي مستقبل زاهر ينتظره..)..

لقد تدرج كاظم فرج في الدراسة لايكاد يفارق مدير المدرسة دكتور فانيس. من بين ما يذكره من طرائف في اشارة الى النفس التبشيري الذي مورس بذكاء.. ان درس الدين كان يقتصر على الطلبة المسلمين.. وهنالك حصة واحدة لدرس الانجيل متاحة للجميع لكن الحضور فيها اختياريا للجميع مسيحيين ومسلمين ويهود.. ومن يتغيب لا يسأل اطلاقا ولا يحاسب.. وإن كان مسيحيا..اعتاد الدكتور ان يقدم الحصة بنفسه وفي بيته.. المحاذي للمدرسة!

 كانت السيدة فانيس تقوم بنفسها على تقديم الحليب الممزوج بالقهوة والبسكويت للضيوف الطلبة! وترحب بهم بأبتسامة حنون..

 يقول والدي ان الطلبة المتفوقين كانوا الاكثر مواظبة على حضور درس الانجيل..كان ثمة طلبة يشاغبون ويحاولون أضاعة الوقت بالتهريج.. كانت عقوبة الدكتور لمثل هؤلاء ان يستدعي اكثرهم شغبا.. ويطلب منه ان يفتح فاه.. ويضع في فمه حبة من القنقينة المزروعة في حديقة داره. ويقول له اذهب بسرعة الى الحمام وأغسل فمك.. كانت هذه اقصى عقوبة ممكنة . لكنها كانت تلحق العار بصاحبها.. فيعتذر اليه الدكتور في نهاية الدرس طالبا منه عدم تكرار الذنب لأنه لن يتخلى عن حقه في العقاب..!

 مما يتذكره تلميذه كاظم فرج.. ان الدكتور عرض ذات يوم ذراع كاظم لمزاد علني وهمي مفترض.. وقال اليوم قررنا ان نبيع ذراع ولدنا كاظم. من يفتتح المزاد؟؟ فقال احد الطلبة.. اشتريه بخمسة دنانير.. فيلتفت الدكتور الى كاظم ويسأله هل تبيع؟؟.. فيجيب لا.. وهكذا الى ان وصل سعر الذراع الى الف دينار.. سأ ل الدكتور هل تبيع؟؟ بالطبع كان الجواب بالرفض.. عندها قال الدكتور وهكذا يا أولادي.. ان كاظم يرفض ان يبيع ذراعه.. فكيف بكل روحه؟؟ لاتبيعوا ارواحكم.. قال السيد المسيح.. مافائدة ان تربحوا كل العالم وتخسروا ارواحكم؟؟.ثم مسح على رأس الفتى وتنبأ له بمستقبل باهر..

 في عام 1950 توسط الدكتور جون فانيس لتعيين والدي المتخرج من مدرسته موظفا في شركة نفط البصرة..وحين تزوج من والدتي..دعتهما المسز فانيس لزيارتها..وقدمت للعروس هدية تذكارية بسيطة.. وبقيت والدتي طيلة حياتها تتذكر تلك الزيارة ورقة السيدة فانيس التي عرضت لها فلما سينميا عن حياة السيد المسيح. وكان ذلك اول فلم تشاهده الوالدة في حياتها..وطلبت منها ان تتعلم القراءة والكتابة.. وأعطتها درسا اوليا في كيفية قراءة عقارب الساعة ومعرفة الوقت!!..

هذه نبذة عن حياة هذا الرجل الاميركي الاول الذي مر على ارض الرافدين.. ومهما كانت دوافع مروره اجد من واجبي ان أحيي ذكراه.. وذكرى المرحوم والدي الذي كان معلم اللغة الانكليزية الاكثر شهرة في محافظة البصرة لعقود من الزمن....والمفارقة انه كان الاكثر عداءا للأمبريالية.. ودخل السجن مرارا بسبب عداءه هذا.. لكنه ظل يحتفظ بأجمل الذكريات والاعتزاز لذلك الرجل الذي انقذه من براثن الامية والجهل وعامله زمنا معاملة الاب لأبنه...

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1423 الخميس 10/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم