أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: روايات بالكيلو

رحم الله سنوات الستينيات والسبعينيات، إلى ما قبل فاتحة القرن الجاري، ايامها كان صدور رواية يتسبّب في تحريك الحياة الثقافة فكانت الصحافة تبادر الى الكتابة عنها، كما كان النقاد يبادرون للترويج لها لافتين القراء الى اهميتها اذا كان فيها ما يستحق وما يوحي بولادة عبقرية روائية جديدة، كما حدث مع الكاتب السوداني الطيب صالح، عندما اصدر روايته "موسم الهجرة الى الشمال"، في سنوات السبعينيات الاولى، فقام الناقد رجاء النقاش باللفت اليها، ليشعل جذوة اهتمام بها ما زالت متوهجةً.. بشكل او بآخر.. حتى ايامنا هذه.

اليوم في هذه الفترة المُسربلة بضباب الغموض وسديمه الممتد، اختلف الامر، فها نحن نشاهد سيلًا عرمرمًا من الروايات يصدر بصورة يومية او شبه يومية في عالمنا العربي خاصة، حتى اننا بتنا لا نستهجن ان يقوم كاتب واحد.. فرد.. بإصدار اربع روايات دفعة واحدة، صحيح ان ذلك الكاتب قد يكون كتب هذه الروايات خلال سنوات، غير ان اصدارها بهذه الصورة.. دفعة واحدة.. ان دل فانه يدل على حالة مستجدة في حياتنا الثقافية والروائية بصورة خاصة.. حالة تستوجب النظر والمعاينة.

اعرف انني لا اتي جديدًا بملاحظتي هذه فقد لفت اليها وكتب مثلها آخرون، ومن المؤكد انه سيكتب عنها آخرون وآخرون غيرهم، غير ان السؤال الجدير بالطرح في رأيي هو لماذا وصلنا الى مثل هكذا وضع، لا مبالاة من الكتاب بين قوسين، تقابلها لامبالاة من النقاد والمهتمين، ومع هذا يتابع سيل الروايات جريانه، فيما يتابع كتبتها اصدار الرواية تلو الاخرى غير عابئين بانهم انما يكتبون ما قد لا يستأهل القراءة والاهتمام، ومقتحمين ملكوتًا لا يمكن للمرء اقتحامه الا بعد التسلح بالاطلاع والتجربة الصادقة العميقة. يعود السبب في هكذا وضع.. الى اكثر من سبب وسوف اجتهد فيما يلي في ايراد اهم ما اراه من اسباب، اورد بعدها مجمل ما اود قوله. فيما يلي عدد من اسباب الاقبال الجنوني على كتابة الروايات واصدارها.

* التغيرات الحاصلة في حياتنا المعاصرة، في تفصيل هذا اقول، اننا كنا قبل سنوات قليلة نردد ان عالمنا سيتحول في المستقبل القريب الى قرية صغيرة، غير ان الوقت مضى بسرعة هائلة.. اسرع مما توقعنا وترقبنا، لنجد انفسنا نعيش تحولًا اسرع بما لا يقاس.. ولننتقل بالتالي متخطين الحديث عن "العالم قرية صغيرة"، إلى "العالم غرفة صغيرة"، وقد تمثل هذا التغير المتسارع المحموم في التطورات التكنولوجية الفلكية، وفي امتلاك معظم سكان العالم اجهزة خلوية، يمكن الواحد منها صاحبه الدخول إلى غرفته بصحبته.. خلويه.. ليدخل تاليًا وتابعا له .. العالم كله مرافقا اياه. لقد تسبب هذا الوضع المستجد، في شخصنة الوجود وفي بروز الانوية كما لم يحدث في السابق، وعليه بات كل من يعلم ومن لا يعلم يريد ان يكون وان ينوجد، ساهم في هذا الوضع ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي والانتقال العام من ثقافة النخبة الى الثقافة الشعبية. لتوضح هذا اقول ان الناس المعنيين لم يعودا بحاجة الى من يأخذ بأيديهم، فقد فتحت كل الدروب المغلقة في وجوههم، وبات بإمكان الواحد منهم اخذ زمامه بيده، فاذا ما اراد ان ينشر كتابة كلمة او كلمتين، لا تفرق كثيرا، بادر الى نشرهما دون حسيب او رقيب، وتحفيز من حوله لقراءتهما والتعليق عليهما.. اما على مستوى اجتماعي فقد جرت تحولات جذرية.. سنشير اليها في النقطة التالية.

* التغيرات المتسارعة في حياتنا المعاصرة كما هو واضح، تسببت في المقابل بمتسارعات موازية، لا سيما في مجال نشر الكتب والروايات بصورة خاصة، ففي حين كانت دار النشر في الماضي تعتبر قوة وتمتلك السلطان والصولجان، فتقرر ما تنشره من كتب وروايات، او ترفضه، باتت هذه الدور راضخة لمن يملك المال، وتحولت بالتالي من دور نشر للثقافة، الى دكاكين تجارية تطبع لمن يدفع لها، هكذا بات بإمكانك ان تطبع ما تيسر لك من روايات قد لا يقرأها احد، وتوزيعها مجانا، فالرواية ابقى من الثوب كما قالت لي احدى الروائيات المحدثات. واذكر انها فسرت قولها هذا سائلة اياي: ثمن الثوب الف وخمسمائة دولار وفي المقابل طباعة رواية يتكلف مثل هذا المبلغ، لو سالتك ايهما افضل أيهما تفضل؟ شراء الثوب ام طباعة الرواية؟.. في العودة الى هذه النقطة اقول ان هذا التحول في اداء دور النشر بصورة عامة، ادى الى ما نتحدث عنه وهو ظهور الروايات بالكيلو.

* يبدو ان هكذا واقع لفت انظار طامعين كبارًا .. صيادين ومترقبين متنظرين.. يريدون الهيمنة عبر توسيع دوائر نفوذهم، كما لفت انظار جهات معنية بتكريس ذاتها قوة ضاربة، وذات سلطان وهيلمان، فبادرت الى تأسيس هذه الجائزة او تلك، مخصصة الميزانيات الطائلة والشروط المسيلة للعاب صاحب الرواية الفائزة، وذلك من عدة نواح سواء من ناحية المقابل المالي للرواية الفائزة، او من ناحية نشرها والترويج لها وحتى ترجمتها في بعض الجوائز. اذا عدنا الى السبب الاول وهو انوية العالم للشخص الفرد وتكريسه عالمًا قائمًا بذاته في غرفته الوحيدة، بات الوضع والحالة هذه على النحو التالي، سأكتب رواية وسوف اقدمها الى هذه الجائزة او تلك فاذا ما فازت ربحت حياة اخرى واذا خسرت لن اخسر شيئا.

ماذا اريد ان اقول من هذا كله؟ ربما اردت ان ادلي بدلوي في توضيح ما قد يكون غامضا للبعض فيما يتعلق بهذه الظاهرة، علما ان احدا لا يستطيع ان يقف في وجه التغيرات والتبدلات الجارية في عالمنا، كما لا يحق لاحد ان يمنع احدا من التعبير عن ذاته.. ربما اردت ان اتساءل الى اين تتجه سفينة الرواية.. ربما..

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم