قراءات نقدية
رياض عبد الواحد: قراءة وتأويل لأحد نصوص الشاعر يحيى السماوي

المقدمة: يتأسس النص الومضي الماثل أمامنا على بنية اعترافية حميمية، تزاوج بين التقريرية والمجاز، وتستند إلى طاقة التخيل الإيروتيكي المقدّس، المنبعث من عمق اشتباك الذات الشاعرة مع الغياب، والرغبة، والذنب. وهو نص يُعرّف نفسه تداوليًا بوصفه خطابًا موجَّهًا إلى "المحبوبة" ولكنه، في عمقه التداولي، ينفتح على المتلقي كونه شاهدًا على اعتراف شعري يحمل طابعًا تقويميًا للذات عبر منظومة من الأفعال غير المنجزة، أو المتخيلة، في حلم ليلي جارف لم يُتوَّج بالوصال.
يعتمد هذا النص القصير – الذي يحمل عنوان (ومضة) – على الاقتصاد اللغوي الحاد، والاشتعال العاطفي المكثّف، مع اتكاء بارز على طاقة المجاز، والتكرار التوكيدي، والانزياح في توظيف الألفاظ المألوفة في سياقات جديدة. وسنقوم هنا بتحليل النص من منظور تداوليّ، يُعنى بالسياق، والمخاطب، والضمائر، ومقاصد القول، وانزياح المعنى من المباشر إلى المجازي، مع التعريج على البنية التركيبية التي تخدم الأداء التداولي للخطاب.
تداولية النصيص
جاء النصيص: "(ومضة)" مفردًا ومفتوحًا على دلالات كثيرة، منها: السرعة، الإيجاز، الانفعال الخاطف، والإشراق اللحظي. وهذا ينسجم مع طبيعة النص التي تتشكل ككثافة مشهدية متوترة، فيها حضور للزمن الليلي، والاعتراف، والاشتهاء، ولكن في مساحة سردية موجزة.
تداوليًا، العنوان لا يخاطب المتلقي مباشرة، لكنه يُعدّ بمثابة توجيه ضمني لطبيعة الخطاب: هو اعتراف خاطف، لا يحتمل الإطالة، لكنه ملتهب بالمعنى.
البنية الاعترافية والضمائر
نجد أن ضمير المتكلم المفرد ("ذنبي كبيرٌ") يفتتح النص بإعلان ذاتي صريح، من دون مقدمات. وهو ما يُوحي بأن المخاطب (المحبوبة) شديدة الحضور في ذهن المتكلم، إلى درجة إلغاء الحاجة إلى مناداة أو تمهيد. هذا ما يُعرف تداوليًا بمبدأ "القرينة السياقية"، إذ تُفهم شخصية المخاطب بواسطة السياق لا من النداء.
"ذنبي كبيرٌ ! مرّ ليلٌ كاملٌ دون لثم قرنفُل الشفتين والياقوتتين"
يتحدث المتكلم - هنا - عن "ذنب" لم يكن فعلًا حقيقيًا (بالمعنى الجنائي أو الأخلاقي)، بل هو غياب للوصال الحسي/الروحي، إذ لم "يلثم" شفتي المحبوبة. والمجاز هنا يُعزّز المقصد التداولي بالاستعاضة عن ذكر الشفاه بـ"قرنفل الشفتين"، ثم "الياقوتتين"، ما يمنح حضورها قيمة رمزية عالية.
تداوليًا، هذا يُصنّف ضمن ما يُسمى بـ"الاعتراف التضميني"، إذ لا يطلب المتكلم المغفرة لفعل مشين، بل لحلم ناقص، أو رغبة لم تتحقق، ما يضفي على "الذنب" طابعًا شعريًا لا واقعيًا.
التوتر بين الواقع والمتخيل
ينتقل النص من غياب التقبيل، إلى غياب طقوس العناية بجمال المحبوبة، إذ يقول:
"ودون تمشيطي جدائلك الحرير"
هذا الفعل – التمشيط – يندرج ضمن الأفعال الحميمية اليومية، ولكن في السياق الشعري يتحول إلى رمز للمشاركة العاطفية الحميمة. تداوليًا، يُصنّف هذا ضمن الأفعال اللغوية من نوع "الاعترافات الحلمية"، إذ يُستحضر الماضي أو الاحتمال وكأنه واقع.
ثم يتصاعد المشهد إلى لحظة التخييل الحسي – اللاواقعي:
"والركض خلف غزالة الفردوس ما بين الوسادة والملاءة والسرير"
تُقحم الذات الشاعرة هنا صورة "غزالة الفردوس"، وتوضع في إطار مكاني دقيق (الوسادة/الملاءة/السرير)، وهو ما يُعمّق الانزياح بين الواقع والحلم. فالمكان حقيقي، لكن الركض خيالي، والمحبوبة تتحول إلى كائن رمزي/أسطوري.
تداوليًا، هذه الحركة تندرج ضمن ما يُعرف بـ"الفعل التمثيلي المزدوج"، إذ يستعمل المتكلم لغة الإيهام بالواقع لإنتاج صورة حُلُمية، ما يُعبّر عن "المعصية" التي هي في الحقيقة خيبة الشوق.
طلب الغفران والاعتذار التداولي
النقلة التداولية الأبرز في النص تأتي مع الجملة:
"فلتغفري لي إثم معصيتي"
هذا توسل مباشر، يُعطي الخطاب بُعدًا دراميًا وتفاعليًا، ويُدخل النص في مجال "أفعال الكلام الإنجازية" (Speech Acts) من نوع الطلب والاعتذار.
غير أن الاعتذار هنا غير تقليدي، فهو لا يأتي بعد خطأ واقعي، بل بعد غياب الحلم/الوصال. وهذا يعزز البعد التداولي للنص كخطاب تفاعلي يستبطن التخييل ويتجاوزه ليُنتج فعلًا تواصليًا عالي الشحنة العاطفية.
"جدي عذرًا لسادنك الموزّع بين بادية السماوة والرّصافة"
هنا ينقلنا الشاعر إلى مستوى آخر من البلاغة التداولية، فيُحوّل ذاته إلى "سادن" (أي خادم المعبد)، ويوزع وجوده جغرافيًا – بين البادية والرّصافة – في استعارة تعكس حالة التشتت والتمزق.
السادن شخصية طقوسية مقدسة، ومثل هذا التوصيف يُحمّل الاعتذار بُعدًا ميتافيزيقيًا. هو ليس مجرد عاشق، بل خادم للمحبوبة، موزّع في الوجود، مقسوم بين جهتين، وهذا يقوي الحجة في طلب "العذر".
تقابل الجوع والعطش والقبلة
يختم النص بمشهد تقابلي شديد التداولية:
"شوقًا إلى صحنٍ من القُبُلاتِ.. يقفو جوعه عطشٌ بتوليٌّ لكأسٍ من زفير"
هنا نرصد ثلاث مستويات من الانزياح:
"صحنٌ من القبل": يحوّل المجاز الحسي إلى مادة تُؤكل، أي أن الشاعر يُجوع للقبلة.
"عطشٌ بتوليّ": يقترن بالعفاف والطهر، مما يُضفي على الرغبة بُعدًا صوفيًا.
"لكأسٍ من زفير": أي أن أنفاس المحبوبة صارت مشروبًا. وهنا ينقلب المشهد من مجاز شهواني إلى مجاز تنفسي، حميمي.
تداوليًا، هذا الجزء يمثل ذروة النص بواسطة التعبير عن الاشتياق، عبر تراكم صوري تعبيري. ويُعَدّ من نوع "التكثيف التعبيري المجازي" الذي يجعل الخطاب مفتوحًا على التأويل: هل يتكلم عن رغبة جسدية؟ أم عن طقس صوفي؟ أم عن حرمان شعري؟
الخاتمة
نص "ومضة" هو أكثر من اعتراف شعري؛ إنه خطاب مزدوج: يتحدث إلى المحبوبة ليطلب الغفران، لكنه في الوقت نفسه ينفتح على المتلقي ليصوّر له أزمة الحب الغائب والوصال الحُلُمي.
يتميّز النص بتكثيفه البلاغي، وانزياحاته التداولية من الواقعي إلى المجازي، ومن الحسي إلى الطقسي. وهو يوظف تقنيات خطابية مثل "أفعال الكلام" (طلب، اعتذار، اعتراف)، والإحالة المضمرة (ضمائر المخاطب)، والاستعارات التداولية المركبة، ما يمنحه قوة تعبيرية عالية في مساحة قصيرة جدًا.
وبذلك يتحقق للنص عنوانه: "ومضة"، لكن ومضته لا تبرق فقط على سطح اللغة، بل تتغلغل في أعمق طبقات الذات المتشظية ما بين الفراش والبادية والفردوس.
***
رياض عبد الواحد
..............................
(ومـضـة)
ذنـبـي كـبـيـرٌ!
مـرَّ لـيـلٌ كـامـلٌ
مـن دون ِ لـثــم ِ قـرنـفـل ِ الـشـفـتـيـن ِ
والـيـاقـوتـتـيـن ِ
ودون تـمـشـيـطـي جـدائـلَـكِ الـحـريـرْ
//
والـركـض ِ خـلـفَ غـزالـةِ الـفـردوس ِ
مـا بـيـن الـوسـادةِ
والـمـلاءة ِ والـســريـرْ
//
فـلـتـغـفـريْ لـيْ إثـمَ مـعـصـِـيـتـي ..
جـِدي عـذرا ً لـســادنِـكِ الـمـوزَّع ِ
بـيـن بـاديـة ِ الـسـمـاوة ِ والـرّصـافـة ِ
مُـطـفـأَ الـيـنـبـوع ِ مُـتـَّـقِــدَ الـسـَّـعـيـرْ
//
شـوقـا ً الـى صـحـن ٍ مـن الـقـُـبُـلاتِ ..
يـقـفـو جُـوعَـهُ عـطـشٌ لـكـأس ٍ
مـن زفـيـرْ