صحيفة المثقف

آهة الشعراء .. قراءة دامعة لقصيدة الشاعرة العراقية الكبيرة وفاء عبد الرزاق: سجن وهطلاء / احمد فاضل

.. لم تكن هذه الكلمات مقدمة للقصيدة كما اعتقدنا، لكنها حاشية جاءت في نهاية أبياتها ربما أرادت الشاعرة أن تكفكف عن دموعها التي هطلتها وهي تمسد موجه من فوق زورق عشاري، ولولا أنها أباحت لي بعض ذلك اللقاء لبقيت أبحث في دفتر ذكرياتها عنه : " كان اللقاء عسيرا مثل أم تلتقي بفقيدها منذ همّين .. كان ذلك حين مشاركتي مهرجان المربد هذا العام .. كنت فعلا أبحث عن طفولتي ومراهقتي .. نعم تركته وأنا في السادسة عشر .. فما زال طعم الاحتفال بكل الجمال في فمي وبين ناظري .. لكن حينما رأيته بائسا أشفقت عليه ولم أشأ عتابه .. بل رحت أمنيه بالأمل لعل قلبه يستريح، وفعلا حبست الدمعة لئلا أحرجه .. هل تصدق ذلك ؟ أظنك ستصدق فبمثلك العارف بالوله الحقيقي لا يستغرب أبدا " .

النص الشعري الذي بين أيدينا معلوم انتمائه وهو متحرر من الأوزان الموضوعة التي كانت تقيد الشعراء، لكنه لم يجنح للفوضى باعتراف الناقد المصري حسون عفوف الذي يقول : " إنما ليسير وفق أوزان مختلفة يضعها الشاعر من نسج وحدة أوزان تتلاحق في خاطره، غير أنها برغم تباين وحداتها تتساوق في مجموعها لتؤلف من نفسها هارمونية واحدة تلك التي تكون مسيطرة عليه اثناء الكتابة "، " ولهذا فإن الشعر المنثور لما فيه انسجام يتنزه عن الوتيرة الواحدة ويشع أضواء شتى متباينة غير مستقرة متجددة متلاحقة أبدا، فما تلبث أن تلهب عواطفك وتضاعف فيك الحياة " .

في مستهل قصيدتها وكواحدة من معاني القاموس العربي الكبير الذي نستعين به جميعا في تجميع مفرداتنا اللغوية تأخذنا الشاعرة الى فعل الأمر الناقص " كن " المبني على السكون واسمه مستتر فيه وجوبا الذي غالبا ما نستعمله للتحريض لفعل شيئ ما فقد جاء هنا كما تريده، المقتحم لذكرياتها، عواطفها، انفعالاتها، وكل مايجيش في صدرها :

كن كما أنت / يومي المقتحم / خوفي من جنازة الجرح / خطواتي الطليقة / وأضيق ثقب في الانتظار . / كن طيف إله في ركن مئذنة / السحب المطمئنة / لذة الدم المختمر بالجمر / خدعة الريح للقصب بهدوء مباغت / رقصة فراشة على خصر الرحيق . /، ومع أنها تخاف جراحات الموت، وخطواتها الواسعة إليه، وانتظارها في هذه الحياة الضيقة، تقول له في صوفية مفضوحة كن طيف إله حتى ولو في ركن منزوي من مئذنة، كن كالسحب الهادئة الوادعة، كن كلذة الدم في النار، شهي كعادته، وتشبيهات أخرى لا تقل جمالا كخدعة الريح للقصب حين يضطره للتمايل وهي صورة تشكيلية جميلة المعنى، لاتقل جمالا عنها عبارتها كرقصة فراشة على خصر الرحيق، هذا الشعر المنثور جاء كأنغام حرة طليقة كالعصافير - الكلام هنا لعفوف ايضا - ولكن ثمة هارمونيا تتلاقى عندها كما تتلاقى الطيور، نجد فيه جمالين، جمال التجمع وجمال التسلسل، ذلك أنه يتيح أن نشهد في وضوح ولذة، ومضات الميلوديا المختلفة القصيدة، اللبث وسط طنين الهارمونيا الدائمة * :

عد الى صوتكَ الملتصق بالرذاذ / قم واستدر / فانتَ الآية الحسنى لهطلاء / تستعيرك لاسمها / الدورة الكبرى أنتَ / وقافلة الصحو / لن أبقى عريانة / بين سطوة الحلم والحلم / قم لأرتديك حنينا / رأس العاليات أنا ويقينها /، تعود الشاعرة بعد كل تلك التشبيهات كي تقول له الآن يجب أن تعود يا شط العرب الى صوتك الملتصق بذاك الرذاذ الجميل، مناداة لا تخلو من تعداد صفاته، أنت الآية الحسنى لهطلاء، هذا الأسم الذي أوقع شاعرنا يحيى السماوي في حيرة كبيرة معتبرا إياه، إبنة أو حبيبة، أو زوجة حبيب أصابه عارض صحي، أو قد تكون هطلاء هي ذاتها الشاعرة، أو قد يكون المخاطب هو زوجها، إلا أنني قد لا أقع في حيرة كما وقعها السماوي لأنني واثق من أن هطلاء هي الشاعرة ذاتها، بحر كبير من دموع لا تجف حينما لامست مياهه، إنه شوق المحبين، شوق من نام على البعاد وحين عادت هطلت عيناها دمعا غزيرا كما في بكاء الشاعر المصري الكبير أحمد زكي أبو شادي حين قال : بكى الربيع طروب في مباهجه / وقد بكيت أنا حبي وأوطاني / أنا الغريب وروحي شاركت بدني / هذا العذاب بأشواقي وأحزاني /، هو استعارته لاسمها، دورة كبرى هو لايقف عند حد أو منتهى، قافلة لاتنام، لن تكون خالية بعد الآن من الملابس، حنينه ملبسها، هذا الإنشاء البديع ذكرني بأبيات لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري حين قال : سهرت وطال شوقي للعراق / وهل يدنو بعيد باشتياق / وما ليلي هنا أرق لديغ / ولا ليلي هناك بسحر راق / ولكن تربة تجفو وتحنو كما حنت المعاطن للنياق /، ويبقى يقينها أنها رأس لكل عال بما فيها ذلك الشط العريض بذكرياته : افتح راحتيك وكن / أكبر الأعمار / وأصغر من طفولة / حين تطوقني أصابعك / وإن صمتا / سيضيق الإثم / وتتسع مرايا الاستغفار / سأكون بك عكاز البرتقال / وعنق الرائحة / منذ همّين لم نلتق / فاكتمل /، حين التقت به قالت له : افتح يديك، أهدر بموجك لأنك أكبر منا، وأصغر من طفل، أتصورك هكذا، فحين تطوق بأصابعك أيها الشط صامتا أرواحنا، ستغسل كل آثامنا لتتسع فيك صورنا التي نشاهدها على صفحتك بالاستغفار، ستكون لها عكازا من شجر البرتقال، أعلاها رائحتك، فمنذ همّين لم نلتق، الأول كان العمر بعد في بدايته والآخر حين شاب القلب فاكتملْ بنا : ما زالت طائرتي الورقية / رفيقة المستطاع / لم يبق من الوقت غير متسع العناق / كن كما أريدك / وصية النسر للهواء / اللبأ لأول الكلمات / وصرخة المصابيح في احتباس الضوء / أعانقك لأبدأ خرافتي / أغمرني بالغناء وقم / شرط أن تصبح المنعطف الصعب /، هي لم تبتعد بذاكرتها عنه لما راحت تنظر دروب مدينتها البصرة وطائرتها الورقية لا زالت معلقة بخيوطها، ومع أن الوقت بدء يضيق للرحيل فلم يبق غير متسع العناق ومع وداعها لا تنسى أن تردد عليه أنها تريده كما هو، وصية النسر لذاك الهواء بجعله محلقا لايخذله، لبأ لأول الولادة، وفي البدء كانت الكلمة، قال ذي الرمة : ومربوعة ربعية قد لبأتها / بكفي من دوية سفرا سفرا، هي تريده كما المصابيح حين يحتبس الضوء فتصرخ بالنور، تريد معانقته لتبدأ خرافتها بعد أن يغمرها بالغناء، قم أيها الشط لأن شرطها عليه أن يكون منعطفها الصعب : لاشيئ يدعو للحزن / سوى ذلك القيد الذي سنتجاهله / ونطعم الأحاديث الكلام / ألا ترى تلك السجينة في لجام الجفن ؟ / لنقاسمها ضياع ظلالنا / رغبة الخلاص من قبضة مستوحشة / الأمل المحموم / اعتصام المنهك بصواعقنا / وقيامتك . / قم يا سيدي / من غيرنا يألفه الجناح ؟ / قم للسؤال المزمن بالصمت / وخذ الوارف مفاجأة للحياة . /، في الأبيات التي تنتهي بها القصيدة هناك ألمح رداء الحزن وقد نزعته الشاعرة بخلاف القيد الذي كان قد كبل مدينتها وشاطئها، هذا القيد لايبتعد عن تلك الصفحات السوداء من حروب عديدة واجهتها مدينتها سوف تتجاهله لصالح جلساتها معه وكلامها له، تقول لشاطئها أنظر لتلك المدينة السجينة تعال نقاسمها ما ضاع من ظلالنا، كي تستريح من قبضة مستوحشة، أملنا المحموم سيعتصم بحرارة لقائنا، سيزول كل تعب الدنيا عنك بقيامتك، فقم سيدي .

* حسون عفوف / مقال عن الشعر المنثور / صحيفة أخبار الأدب المصرية

?

أحمد فاضل.

 

..................

سجنٌ وهطلاء / وفاء عبد الرزاق


تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2155 الأثنين 18/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم