صحيفة المثقف

عثمان أمين وفلسفته الجوانية

ibrahim telbasilkhaلا شك أن الفكر المصري المعاصر لم يحظ بما يستحقه من اهتمام الباحثين عندنا رغم تنوع اتجاهاته ومراميه، وكثرة رواده الذين قدموا إسهامات هائلة في شتي الميادين: الفلسفية والعلمية والسياسية والإجتماعية واللغوية والأدبية والدينية والفنية .... الخ ؟

فلقد عشنا ردحا ً طويلاً من الزمان ومازلنا ندور في فلك الفكر الغربي نعرضه إما بالترجمة او النقل حتي تحولنا إلي مجرد نقله تابعين بعد أن كنا متبوعين، توقفنا عن ارتياد الأفاق الفكرية وأخذ زمام المبادرة انتظاراً لما تسفر عنه الدراسات الغربية من فكر نتعقبه ونبحث عنه عبر دور النشر والمصادر المختلفة للمعرفة . فنحن ندرس الفلسفة الغربية عبر عصورها المختلفة بداية من الفلسفة اليونانية مرورا ً بالفلسفة الوسيطة وانتهاء بالفلسفة الحديثة والمعاصرة، فأصبحنا نعرف كثيراً عن فلاسفة الغرب، وفي الوقت نفسه لا نعرف إلا القليل عن أساتذة الفلسفة في بلادنا ومواقفهم الفكرية، وهمومهم الثقافية واسهاماتهم التنويرية في مجال الثقافة العربية.

هذا رغم أن خريطة الفكر الفلسفي عندنا مليئة بالرواد الأوائل الذين زانتهم الحكمة، وصقلتهم التجربة فحاربوا الخرافات، ونبذوا الجمود والتخلف، وحملوا دعاوي الاصلاح والتجديد أمثال : جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد .... الخ . وبالإضافة إلي دور هؤلاء الرواد في التنوير لايمكننا تجاهل الدور العظيم الذي يمارسه أساتذة الفلسفة في حياتنا الفكرية.

والحق أن خريطة الفكر الفلسفي المصري زاخرة بالمفكرين الذين يتناولون القضايا تناولا فلسفيا سواء أكانوا من الرواد الأوائل أو من التابعين الذين يعملون بالفلسفة في جامعاتنا . ومع ذلك فقد جاءت الدراسات التي أجريت حولهم قليلة جدا إذا ما قورنت بالدراسات التي أجريت حول أنصار الفكر الغربي . ولعل من أبرز الدراسات في هذا المجال: (رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده) للدكتور عثمان أمين، و(المنهج العلمي في فلسفة زكي نجيب محمود) دراسة للدكتورة يمني طريف الخولي و(زكي نجيب محمود فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة) للدكتور عبد القادر محمود، و(مكانة العقل عند زكي نجيب محمود) للدكتور علي حنفي، و(القضايا الفلسفية عند الدكتور علي عبد المعطي) للدكتور محمد مجدي الجزيري، و(نظرة جديدة إلى فلسفة الفن عند العقاد) للدكتور محمد مجدي الجزيري، و(إشكالية التراث في الفكر العربي، دراسة مقارنة بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري) للأستاذ أحمد سالم، و(جدل الانا والآخر، قراءة فى فكر حسن حنفى)، إعداد وتقديم دكتور أحمد عبد الحليم عطية ... الخ

ويقف عثمان أمين مع هؤلاء الرواد فقد تعرض لكثير من القضايا المطروحة علي الساحة الفكرية في وقتنا الراهن، ومن هذه القضايا : قضية البحث عن فلسفة توقظ الأمة من سباتها، البحث عن فلسفة يمتد أثارها إلي الشعب وإلي الجمهور، فلسفة تضع لنا مباديء توقظ فينا الشعور الوطني وتنمي وعينا بمشكلاتنا، وقضية أزمة الإنسان المعاصر في ظل الاكتشافات العلمية والتكنولوجية المذهلة التي تحققت في عصرنا، وقضية فساد العلم المعاصر في الأرض، وقضية الاعتقاد وعلاقته بالإنسان ودوره في بناء الحضارة الإنسانية، وقضية اللغة العربية والوقوف علي سماتها الفكرية الأصيلة التي تؤثر في تكوين عقليتنا، وتدبير تفكيرنا، وتصريف أفعالنا، وهداية سلوكنا، وصياغة حضارتنا، وقضية التراث في ضوء الموقف من قادتنا الروحيين، وقضية التعليم ودوره في بناء المجتمع، وقضية العادات والسلوكيات الضارة التي تؤثر سلبياً علي واقعنا الإجتماعي، وقضية الفساد والعبث بالدخل القومي للبلاد، وقضية النهوض بالمجتمع وكيفية إصلاح أوضاعه .... الخ .

هذا فضلاً عن أن عثمان أمين قد عاش بين تراث الفكر الفلسفي قديمه وحديثه، يتأمله ويتعقب أفكاره، ويكتب عنه سواء بالترجمة أو بالعرض النقدي . وتتسم كتاباته بالتنوع والعمق والغزارة، كما أنها تغطي مساحة كبيرة من تاريخ الفكر الفلسفي في الشرق والغرب، فقد كتب في الفلسفة اليونانية، وفي الفلسفة الإسلامية، وفي الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وبين فضل الحضارة المصرية القديمة علي الحضارات الأخري، كتب عن الرواقية والأفلاطونية والأرسطية، وعن الفارابي وابن سينا، وابن رشد، وعن ديكارت وكانط وشيلر وكارل ياسبرز وغيرهم، كما ترجم كثيراً من الدراسات الفلسفية الأجنبية ونقلها إلي لغتنا العربية بما تتسم به هذه الترجمة من أصالة ودقة متناهية تدل علي مترجم ملم ومحيط بلغته وبمصطلحاتها المتعددة، هذا بالإضافة إلى مؤلفاته الرائعة التي يتبدي فيها تأثره برواد الفكر الغربي والفكر العربي علي السواء، وقدراته الابداعية الخلاقة .

وإذا كان كثير من أساتذة الفلسفة عندنا قد استعمل بعداً من أبعاد الثقافة الغربية – بعد تعديله بما يلائم واقعنا – كأداة للتجديد والتعامل مع قضية التراث وقضايانا الفكرية مثل زكي نجيب محمود الذي يدور بفكره في فلك الوضعية المنطقية ويتخذ من منهجها منطقا له في معالجة المشكلات، وعبد الرحمن بدوي الذي انحاذ إلي الوجودية دون غيرها وتوفيق الطويل الذي قدم لنا فلسفة مثالية معدلة، أو مثالية إسلامية تقوم علي الأتزان والوسطية، وحسن حنفي الذي تخبط بفكره بين تيارات الفلسفة الغربية وأن كان قد انحاز أكثر الى الظاهراتية واستخدم منهجها لمعالجة قضية التراث . نقول إذا كان هؤلاء المفكرون وغيرهم من مبدعينا قد استخدموا منطلقات الفكر الغربي في التعامل مع مشكلاتنا الفكرية، فإن عثمان أمين بدوره قدم لنا فلسفة مثالية روحية خاصة به . أمن بها، ودافع عنها، وروج لها، ودعي إليها عبر مؤلفاته وأحاديثه وندواته، وهى الجوانية .

والفلسفة الجوانية عند عثمان أمين ليست نسقاً فلسفيا محدداً ثابتا فهي ترفض كل الأنساق الفلسفية والمذاهب القطعية ... ولذلك يقرر عثمان أمين في غير موضع من مؤلفاته ومحاضراته أن الفلسفة عنده شسء أخر غير (النسق) المحكم المغلق المحبط . وأنه لا يحب لنفسه أن يكون من (القطعيين) الذين يريدون أن يفرضوا أراءهم علي الناس فرضا يحول دون تقبل وجهات النظر الأخري . فعقيدة الجوانية عقيدة مفتوحة تأبي الركون إلي (مذهب) أو الوقوف عند (واقع) . وينبهنا عثمان أمين أنه لا يوجد للجوانية – من حيث هي فلسفة مفتوحة – تعريف أوحد بالمعني المنطقي الدقيق للحد أو للتعريف : الجوانية علي الطريق دائما ولا تعرف الوقوف ولا تزيد الانغلاق، وهي محاولة للتعبير عن إيمانها العميق بضرورة الميتافيزيقا وكرامة المعرفة وسلطان الأخلاق ... الخ .

ولما كانت الجوانية رفضا للأنساق الفلسفية والمذاهب القطعية والأبنية الشامخة لم تضع إشكالاتها الفلسفية في بناء عقلي محكم، بل اكتفت باليوميات الجوانية والسوانح المطوية، والخاطرات الأشراقية والتجارب الروحية . فهي تقدم لنا عدة تأملات إهتدي إليها رائدها بعد إطالة النظر في أمور النفس ومتابعة التأمل في بطون الكتب مع مداومة التعرض لتجربة الوقائع والمعاناه لشؤون الناس، وتسعي هذه التأملات إلي المعرفة لذاتها ... وفي ذلك يقول عثمان أمين : (المحاولات الفلسفية التي أقدمها اليوم إلي الجمهور الفلسفي في بلاد الشرق العربي قد تناولت موضوعات مختلفة، ومثلث إتجاهات متنوعة، وامتدت إلي فترات متباعدة . ولكني أستطيع أن أقول إنها جميعا علي الرغم ما بينها من تفاوت ظاهر قد ألف بينها إحساس واحد، وإلهام واحد، وغرض واحد : الأبتهاج بطلب المعرفة، والسعي إلي سبيل الحق، والاتجاه إلي قيم الروح .

ولم يكن عثمان أمين في محاولاته الفلسفية هذه مقتصراً علي مجرد التدريس فحسب، فهو لم يوجه خطابه الفلسفي إلي طلاب الدراسات الفلسفية وحدها، بل وجهه إلي جميع الناس . وكان علي شعور تام بالرسالة الكبري التي يجب علي المثقف أن يؤديها، رسالة التجديد الروحي الشامل لبلاده، فهو مثال للمثقف الجريء الواعي بمشكلات مجتمعه وهمومه ... فهو يقول (إن الجوانية فلسفة ثورة لأنها نابعة من أعماق هذه الأمة الثائرة، ولانها محاولة أيديولوجية لتحقيق أمرين لابد منهما في مرحلة تطورنا التاريخي : الأول عودة إلي ماضينا ومراجعة له، والثاني إتجاه إلي مستقبلنا وإعداد له . وهي فلسفة ثورة أيضا لأنها تنشد المثل الأعلي في عليائه بلا تراخي في السعي إليه، ولأنها تؤمن بأن القوة المحركة للتاريخ هي قوة المباديء وارادة التغيير، والطموح إلي تقويم للأشياء جــديــد .

وينبه عثمان أمين أيضا إلي أن المثقفين ليسوا طائفة معينة من الأمة تخصصت في فروع المعارف المختلفة : فقد يكون الشخص عالما أو رياضيا، أو مهندساً، أو طبيبا، أو عالماً بالإجتماع أو الفلسفة أو القانون، وقد يكون ممن حصلوا علي شهادات دراسية أو درجات جامعية ولا يدخل مع ذلك في عداد المثقفين ؛ ذلك أن الثقافة ليست معلومات محفوظة ولا تطبيقات منقولة، بل هي في مفهومها الصحيح شيء يتجاوز المهارة أو البراعة في أي ناحية من نواحي العلوم النظرية أو العملية . والثقافة الحقيقية هي ما يتبقي لنا بعد أن نكون قد نسينا ما حفظنا . إنها مرادفة لحضور الوعي، ويقظة الروح، وهما لا يكونان إلا مع الضمير الحي، والعقل الناضج، والقلب السليم . ومتي استيقظ الوعي في الإنسان أصبح النظر والعمل عنده أمرين متلازمين لا يفترقان، وأصبحت حياته مصداقا لأفكاره فبعد عن الألية والأنانية، وقصد إلي الغايات بأفضل الوسائل واتجه إلي الجوهر والمخبر دون الوقوف عند المظاهر والأعراض .

لكل هذه الاعتبارات كان اختيارنا لفكر عثمان أمين موضوعا ً لدراستنا، هذا فضلا عن أن كثيراً من الباحثين يقررون ان لفكر عثمان أمين أثرا عميقاً في مجالات الاصلاح والنهضة الفكرية الحديثة في مصر وفي العالم العربي ... يقول عاطف العراقي : (والواقع أن الدكتور عثمان أمين قد بذل جهداً كبيراً في مجال الربط بين الفلسفة وبين قضايا المجتمع ... إننا نجد هذا واضحاً في العديد من الكتب التي تركها لنا ... وإذا كان قد تأثر في كتاباته ببعض الأفكار التي نجدها عند من سبقوه، إلا اننا نجد العديد من العناصر الجديدة عند عثمان أمين سواء في محاضراته التي كان يلقيها علي طلاب الجامعة، أو في كتبه وما أكثرها، وما أروعها والتي تدلنا علي أنه كان يتمتع بحس فلسفي دقيق، حس يركز علي الداخل أي الجواني، أي القلبي والوجداني المثالي ... لقد استحق عثمان أمين أن يدخل تاريخ فكرنا الفلسفي العربي التنويرى من أوسع الأبواب وارحبها . ومن حقنا أن نفخر به،ومن واجبنا دراسة أفكاره، وارائه وما أعمقها وما أعظمها) .

وينظر حسن حنفي إلي عثمان أمين باعتباره فيلسوفا أنجب لنا فلاسفة ساروا علي نهجه وطوروا تعاليمه .. ذلك أن مدي خصب الفيلسوف هو مدي إنجابه لفلاسفة أخرين . فقد كان سقراط فيلسوفا ً لأنه أنجب أفلاطون، وكان أفلاطون فيلسوفا لأنه أنجب أرسطو وكان ديكارت فيلسوفا ً لأنه أنجب الديكارتيين، وكان كانط فيلسوفاً لأنه أنجب الكانطيين، وكان هيجل فيلسوفاً لأنه أنجب الهيجليين، وكان هوسرل فيلسوفاً لأنه أنجب الهوسرليين، ويعد عثمان أمين فيلسوفاً لأنه أنجب حتما الجوانيين .

ولمزيد من المعلومات عن عثمان أمين وفلسفته الجوانية راجع كتاب " الجوانية عند عثمان أمين، أصولها وخصائصها " لكاتب هذه السطور.

 

أ.د. ابراهيم طلبه سلكها

رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة طنطا - مصر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم