صحيفة المثقف

الوكر رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي .. واقعية مألوفة ومخيلة فسيحة

jamal alatabiأعاد الكاتب الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي طبع روايته (الوكر) الصادرة في لبنان عام 1980، بعيداً عن (التشطيبات والتشذيبات)، كما يذكر في مقدمته التي تصدرت الرواية .

هل أزاحت الطبعة الجديدة الهمّ الذي لازم كاتبها طيلة ربع قرن من الزمن؟ لم يهدأ له بال، يترقب فرصة الإفلات من سلطة الرقيب، ومن يروي ظمأ الربيعي لتغيير النص وإعادة النظر فيه ؟سوى تونس التي إستوطن فيها، فمنحته الحرية بإصدار الرواية وفق ما أراد لها الروائي منذ الشروع بكتابتها .

إن تقديم النص من قبل الكاتب يوفر للقارىء فرصة سهلة لقراءته، فالربيعي أراد في (الوكر) أن يقدم شريحة من المثقفين الذين شردوا داخل أوطانهم وإبتعدوا عن مدنهم ليتخفوا في مدن أخرى، من أجل الاستعداد للقيام بإنقلاب على النظام (ص5) . غير ان الرواية لاتختزل نفسها بهذا الإطار فقط، بل كانت إنعكاسا للواقع الاجتماعي والسياسي مع توجه نقدي.فالزمن والحب والغيرة والعمل والصداقات، كلها عناصر يبرزها الربيعي على انها مكونات لعقل قادر على النفاذ منه لينعم بحرية ولو وقتية أثناء فعل الخلق، وهناك خيط رئيس عنده، هو الحب، يحييه دائما، وإن جاء بتعذيب الذات، تجتذبه رائحة المدن الجنوبية، وبغداد، على نحو لانهاية له في عالمه الرحيب ,سلمى وعماد، صادق ووصال، محمود وتغريد، علاقات حب إنسانية صافية، نقية، حتى وإن اشتد صهيل الحروب وسعير الانقلابات العسكرية ، أوحين يتناثر الوطن في أبهاء الريح .لكنه ليس الخيط الوحيد، إذ يماثله في الأهمية، الفعل الانساني بوجهه الاخر : العمل، الصحافة، الادب، النضال السري، إرتياد الحانات والمقاهي .

(الوكر)، في الرواية يحمل دلالتين رئيستين، هما : المكان، والقصة التي نشرها عماد في مجلة عربية مرموقة وتحمل ذات العنوان كعنصر فني، اراد لها الكاتب أن تكون وسيلة تلميح هي الاخرى، أيهما الابرز والمؤثر في أحداث الرواية ؟ تساؤل أول، تمضي بنا هذه القراءة للاجابة عنه . والرواية نفسها تستطيع أن تتأمل ذاتها وأن تحاور مسار تشكلها واسئلتها الداخلية والخارجية .

تتوزع الرواية على ستة فصول سمّاها الروائي (أقسام)، تبدأ بفصلها الاول (إنتحار)، سلمى الطالبة الجامعية تعيش تحت وطأة أعباء ثقلية، محاصرة الام التي تريد لها الزواج وفق تعاويذ الشيخ جابر، مدينتها الجنوبية التي تفرض عليها نمطاً خاصا في السلوك، تروح مخيلتها بعيداَ في الحلم العريض، تفكر بالإنتحار لشعورها الحاد بالإختناق، إلا ان سلمى تمتلك قدراً من التحدي، إذ ترتبط بعلاقة حب مع زميلها (عماد) الذي اقتحم حياتها بود جميل وهي سعيدة به.

شخصيات أخرى في الرواية تلتقي بنوع من الالفة مشغولة بحياتها الخاصة، منصرفة عن مصير الاهل بسبب عملها الحزبي السري، همام القادم من مندلي، صادق الساكن في الاعظمية، محمود متخفياً يكتفي بزيارات خاطفة لأهله في شارع الكفاح ببغداد، المجموعة ترتبط بعلاقات ودية رغم التهديد المشترك .

تتم عملية السرد في (الوكر) بمختلف الضمائر، وبوثبات حرة من الاعماق الى السطح، أو من باطنه الى الحدث الجاري بإطراد، وتظهر في الرواية قيم إجتماعية ووعي حاد بأسباب الثقافة، وإن كانت هذه تشكل ضربا من النشاط الذهني، فإن أحد لايمارى في جمالية هذا النشاط، بل بقدر هذا الجمال يعظم المضمون، ويقوي المغزى، ويكون من هنا التجاوب المباشر مع المتلقي دونما حاجة الى الحبكة التي قد تنهض على مجرد فكرة سطحية .

يلتقي محمود أحد الاصدقاء صدفة، ويدعوه للعمل في جريدة (الانباء) كسكرتير للتحرير، ينصرف اليه بنجاح، ثم يقنع صديقه عماد كمحرر للصفحات الثقافية، وكتابة عمود إسبوعي بإسم (المقداد) يحقق فيه نجاحه الصحفي والثقافي، ثم يكتب قصته (الوكر) التي تنشر لاول مرة في مجلة ادبية عربية رصينة ومشهورة، فيتحول هذا الى حدث مهم في سيرة عماد الثقافية، يشجعه على كتابة قصة أخرى عن علاقة حب نادرة الوفاء بين صادق و وصال، وفي عقله أفكار يتحدث فيها عن رؤاه في كتابة القصة الجديدة (يتجاوز فيها المألوف اليومي، ورتابة الإيقاع، محملة بالرموز موغلة في السريالية، مغلقة تحمل المعنى دون أن يفطن اليه رقيب جاهل ص189) .

الربيعي في هذا النص، أراد التركيز على خصوصيته في الكتابة ، التي تتطلب الكثير من المقومات، منها إبتكار الصورة الفنية تلقائيا وليس إستعاريا، من رؤى وقيم وأبعاد ودلالات وعناصر جمالية ومميزات لغوية وإسلوبية، لاتفرض عليه أو تتسلل إليه عبر التقليد، إنما من خلال تفاعله مع الظروف العينية التي عاشها . فالرواية تدور أحداثها في العراق وفي حقبة ستينية معروفة، إلا انها لاتفصح عن إسم التنظيم السري، ولاتكشف عن نظام محدد، هو أي سلطة إستبدادية قمعية، قائمة على التنكيل والخوف والقسوة ومصادرة الحريات، أينما تكون على وجه الأرض، تلغي وجود الإنسان، إلا ان الربيعي يعتمد الإمكانات والخصائص المحلية ، والإنسيابية، وتلقائية التشكيل الفني ذي العلاقة بخصوصية الحكاية، فصادق يختار الهرب بعد ان صدر حكم غيابي بسجنه لمدة ثلاث سنوات إثر حادث مفتعل، ويختار الوكر ملجأَ له مع مجموعة من رفاقه، همام يقتل إثر مهاجمة (الوكر) من قبل السلطات الامنية، وعماد يعقد قرانه بـ (سلمى) في المحكمة الشرعية، بعد رفض تقدمه لخطوبتها، ويعلن قراره (المتوقع) لا (المفاجىء) كما ورد في النص، بتخليه نهائيا عن إنتمائه الحزبي، لأنه الكاتب، المثقف الذي يريد الإنطلاق نحو الرأي الحر، المستقل، المنسجم مع وعيه الجديد بالحرية (أنا عماد الصالح لست ملكا لحزب واحد، بل أنا ضمير وطني، هذا ماأريده ووسيلتي ص205).

الموقف الجديد لعماد، جاء بقناعة نهائية، و كان المحفّز لاطلاق تساؤلاته النائمة للخلاص من التأطير الايديولوجي، وجمودالعقائد والافكار، التي كانت سببا في شل قدراته وتحديد مساره نحو الافق الجديد، الذي تحدث عنه صديقه محمود بوضوح مضيئا شخصية عماد : الفنان الممتلىء، القادر على الإبداع .

إن أزمة (المنتمي) ليست جديدة في أدب الربيعي، كذلك اللغة الروائية بكل ما فيها من طاقة وكثافة وشفافية، وأدوات حديثة، إذ جاءت الاحداث والشخوص والجو العام للعمل الفني بصورة بعيدة عن إفتعال الصنعة والتدبر المسبق، وهو ماعبر عنه الربيعي في المقدمة (عايشت معهم تفاصيل حياتهم، في السكن والعمل والتنقل والحب والاحلام المشرعة على فضاءات الحب ص5)، فتمكن الروائي الروائي أن يغيّر من أدواته التعبيرية، ووزّع (الازمة) على عدد كبير من الشخصيات، ولم يركز على شخصية واحدة هي البطل الفرد، الذي ينطوي تكوينه التراجيدي على قضية فكرية هي إنعكاس حاد للقضايا الإجتماعية والسياسية العامة، فالشخصيات عند الربيعي، جميعها فاعلة، وإن بدت ممزقة، يبتكر واقعيته المألوفة الممتزجة بالمخيلة الفسيحة، ببناء متماسك، وتلك أهم سمات الكتابة في أدب الربيعي .

لقد فشلت البرجوازية الوطنية العربية في مشروعها السياسي القائم على المغامرة وقوة العسكر، وتراجعت قوى اليسار والتحررعن أحلامها، هذا التردي ولّد خلطا كبيرا في الاوراق، وضع الكتّاب في حيرة وتشوش وتناثر، وتمكن الربيعي من إيصال الرسالة عبر الرواية بإعتبارها اكثر الأجناس الأدبية تاثيراً وإنتشاراً .

وعودٌ لسؤالنا الذي تقدم عن دلالات (الوكر)، تظل الاجابة عن مغزاه تحمل أكثر من معنى، إذ أكتسب الوكر بعده الرمزي ليدل على المكان، البيت المنزوي البعيد عن مراقبة أجهزة السلطة، إلا ان هذا المكان لم يأخذ حيزه الأوسع في أحداث الرواية التي حفلت بمكونات وعناصر ولغة وأحلام وترميز وشخصيات ، فلم يفصح المكان عن ثقله في السرد، سوى تلك النهاية التي إنتهى بها، بعد أن داهمته الاجهزة الامنية، وأعتقلت من فيه وأطلقت النار على صادق المحكوم غيابيا وأردته قتيلا .أمّا (الوكر) القصة، فانها نقطة التحول في حياة عماد الثقافية، إذ تحقق له المقبولية، ومن ثم الانتشار فيما بعد، والانصراف للعمل الابداعي، هنا (الوكر) زمن عماد الجديد معبر عنه بالحرية، نهاية الوكر المكان، بداية جديدة في دواخلنا، إن عملا بهذا المستوى، لايكتب نهايته الكاتب، بل تظل هادرة في أعماقنا تبحث عن مسارات جديدة نحو الحرية والعدل، ومواجهة الدكتاتورية والاستبداد .

وأخيرا هل يمكن يمكننا القول ان الربيعي استطاع أن يزيح ماعلق بذاكرته وهو يقدم رواية (صافية) بلا حذف أوخوف، متجاوزا الحواجز الكثيرة ؟ لاشك ان الاجابة على هذه التساؤلات مجتمعة تعتمد القراءة النقدية المتأملة والمنصفة لتجربة الربيعي، وهو القادر على التعبير بصدق عن الحياة، وواقع الانسان المعاصر بجرأة وإخلاص، الى جانب التأكيد على إستقلاليته، وقيمه الجمالية، وإسلوبه الفردي المتميزفي كتابة رواية تحمل سمات الحداثة .

 

جمال العتابي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم