صحيفة المثقف

رشيدة الركيك: حوار مع الذات (4): مع مخاوف الذات

rasheeda alrakikممتع جدا أن أشعر بنوع من التميز على المستوى الوجودي مقارنة مع باقي الموجودات، فأردد بفخر واعتزاز: أنا الذات المفكرة التي أثبت وجودها ديكارت، أنا الذات القادرة على الشك والفهم والنفي والإثبات، أنا الذات التي تستطيع تصور الأشياء في غيابها وتتخيل وتريد وتستطيع الإحساس بكل هذه الأشياء كذات حاسة....

أنا الذات التي لا تعرف في قراراتها سوى أريد أو لا أريد، أنا ذات مريدة إذن كما أكد شوبنهاور

 وأن الإرادة هي الجوهر الثابت في كل الإنسان.

ينتابني نوع من الغرور كلما قرأت لسارتر وأجده يعتز بحريتي وبقدرتي على الاختيار، بل وقدرتي على تجاوز الأوضاع و أن حياتي مشروع بيدي إنجاحه أو إفشاله، ثم إنني أنا من يجعل من نفسه جبانا أو قويا...

ومع ذلك، أتمتم باستحياء عندما تجتاحني دبدبات الإحساس بالخوف في جل محطات حياتي، فيخترقني بقوة بدون استئذان، هو خوف يتجاوز عالم المعقولات ليرمي بي في سلة المهملات...

والغريب أنه خوف يجمع بين المتناقضات و لا يترك لي فرصة الاختيار: فمن غير المعقول أن أخاف النجاح كما أخاف الفشل، أريد القناعة وأخاف الطموح أريد التميز وأخاف الاختلاف، أريد إثبات الذات و أخاف الاصطدام ... أنا الذات إذن التي تريد وتخاف مما تريد. يعجبني كثيرا الحديث عن أحلامي وأتلذذ بوجودها، فأجتر الحديث عنها كلما سمحت لي الفرصة بذلك. ولكن كل الذوات لديها أحلام تجد لها مكانا في عالمها الإستيهامي وتبقى دائما إنتاجا استيهاميا واقعه الخيال يتحقق باسمرار داخل الذات، دون أن يعترف به الآخر، والحقيقة يجب أن يكون إنتاجا اجتماعيا خارج الذات يعترف به المجتمع وينتقده أو يرفضه، المهم أنه واقع اجتماعي...

ألا نستحق أن نجري وراء أحلامنا دون خوف وكثم لأنفاسنا وتمزيق لحريتنا ؟

ألم يحن الوقت لاستخدام جهاز الإستشعارالذاتي الذي نمتلكه ؟ أم أننا سنبقى حبيسي أفكار ثابتة ترفض التغيير بشدة، وهي حقيقة أفكار لا تواكب التغير السريع الحاصل اليوم؟

لقد ارتاحت الذات لبرنامج الجمود لأنها تخشى التغيير، تخشى كل مبادرة، تخشى اتخاذ قرار التنقيب عن قدراتها من أجل البحث عن نسختها الأفضل لوجودها.

إن كان الخوف المبرر صفة كل الكائنات الحية، فقد اختنقت ذواتنا من شدة الخوف الغير المبرر ليستنزف كل طاقتها ويحرمها من وجودها الطبيعي، حين تبالغ في التفكير وتخاف العواقب وتمنطق الفعل بسخاء.

أليست المخاوف صوتا داخل كل واحد منا يتكرر ويعلو كلما سمحنا له بذلك، فيكبر فينا متخذا حيزا ليقمع كل إرادة وكل قدرة وكل اختيار، ويجعل منا أبطالا في عالم المخاوف ونتسابق من أجل جوائز في مباراة الخوف من القدر، أو مباراة الخوف من الخوف أو من المجهول، و من سيفلح في التوقعات السلبية باستفاضة وبراعة و إتقان ...؟

لقد أصبحت ذواتنا اليوم فريسة القلق والإحساس بالنقص، لتصاب في مناعتها النفسية بسبب مخاوفها وحتى الكلام عن الخوف استغرق منها وقتا لتتطاول عليه وتحطه في دائرة الحوار...

فعذرا لديكارت خيبت آمالك، فأسقط الخوف بفلسفتك العقلانية والتي بسببها سميت أب الفلسفة الحديثة، لم يعد العقل يكتفي بالتمييز بين الخطأ والصواب بل عليه أن يتخذ قرار التغيير. لم يعد الشك المنهجي يِؤدي إلي اليقين إلا يقينا واحدا هو ضياع صفات الذات لتتخبط في الإدمان وتختار لنفسها نوعا من التخدير الذاتي بالتظاهر و الرياء وإظهار جبروتها وفنطزتها وكأنها الفارس المغوار ...

عذرا سارتر ولفلسفة عودة الإنسان ولتيارك الوجودي معتبرا أن الوجود سابق على الماهية، وأن الإنسان من يحدد ماهيته ويختارها. فهل اخترت الخوف أم هو من اختارني؟

وهل للإرادة يا شوبهاور مكان في عالم الأشباح، اليوم تعطلت الصفات المثيرة عن العمل و نحن في انتظار استئنافها عندما تنطلق المحفزات وتفرض نفسها على الإنسان على شكل التزامات و العمل الطويل بتحد وحماس وإيجابية والخروج من المألوف وتجاوز الروتين اليومي.

عندما تتعاقد الذات مع نفسها وتؤمن حتى النخاع بضرورة الخروج والتخلص من البرمجة السابقة وتعيد البرمجة الإيجابية من أجل التطوير الذاتي والدفع بالإنسان إلى التفوق والعيش بنوع من الاطمئنان

و الهدوء عوض دبدبات الخوف على المستقبل والانشغال بلحظة انتهاء العالم ، والنظر إلى الكون بنوع من التأمل وإلا سوف نطرح سؤال الحكيم اليوناني القديم : ماذا لو سقطت السماء؟ ونتوه في بحر المآسي.

لا زالت الذات تبحث عن كينونتها في هذا الوجود وكأنه وجود متشرد وضائع.

ومع ذلك يستمر الحوار معها بنوع من الصحبة بطرح السؤال، بل إنها تدرك معنى الحياة بدوام الاشتغال بالسؤال، خصوصا وأن الضياع يطاردها و التاريخ يشهد لها بذلك في مختلف محطاته.

أكيد إذن أن معنى الحياة هو ما تبحث عنه كل الذوات وتستشف معنى وجودها منه، وتطاردها في بعض لحظاتها مخاوف قرار الخروج، من أجل دفعة لتطوير الذات والرقي بها والعيش بشكل أفضل .

لذلك فهل أستطيع التوقف عن محاورة الذات كمادة دسمة وضعت على مائدة نقاش طويل قديما و حديثا ولا زال اليوم في الساحة يجلب كل رواد التنمية الذاتية بنوع من الإصرار ؟

 

 بقلم: رشيدة الركيك

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم