صحيفة المثقف

بمناسبة ذكرى تأسيسها التسعين.. كلية طب بغداد.. مقاربة تاريخية

amir hushamalsafarتمر علينا هذه الأيام ذكرى مرور 90 عاما على تأسيس كلية الطب بجامعة بغداد، تلك الكلية العريقة والتي أنشأت لبنتها الأولى عام 1927 كأستجابة لمتطلبات بناء الدولة العراقية والحفاظ على مستوى صحي جيد لأبناء المجتمع.. وأذا كان الفقر والمرض والجهل هو الثالوث الذي ينخر في جسم المجتمع فلابد للسلطات المسؤولة من أن تضع الخطط اللازمة للتخلص من تداعيات عوامل التقهقر هذه والتي ظلت تنخر في جسم الوطن لسنين طوال. وقد جاءت الفرصة لتأسيس أول كلية للطب في العراق من خلال تواجد الطبيب الألمعي البريطاني الأسكتلندي هاري جابمن سندرسن (والذي أطلق عليه لاحقا لقب سندرسن باشا) في العراق حيث كان أحد الأطباء العسكريين الذين ألتحقوا بالخدمة العسكرية في البحرية البريطانية المشاركة في عمليات الحرب العالمية الأولى (1914-1918).. فما كان من الدكتور سندرسن الاّ أن يحّل به المقام في ميناء البصرة العراقي، حيث عمل طبيبا بعد ذلك في مدن الجنوب العراقي، ومنها مدينة الحلة حيث تعلّم هناك اللغة العربية، وصار مهتما بالحالات الطبية الألتهابية الخاصة والتي كان العراق موطنا لها، ومنها مثلا مرض الأنكلستوما والديدان المعوية.. وقد أدرك الطبيب هاري سندرسن وهو الذي تخرج من جامعة أدنبرة الأسكتلندية أن الحل الأمثل لتحسين الحال الصحي في العراق هو العمل على تأهيل الكفاءة الطبية العراقية محليا وعدم الأقتصارعلى أطباء أجانب أو عدد محدود من أطباء عراقيين متخرجين من أسطنبول التركية. وهكذا تمكن الرجل من أقناع الساسة العراقيين وقتذاك ومن أستحصال موافقة الملك فيصل الأول على ضرورة تأسيس كلية للطب في بغداد، يكون لها ضوابط للقبول صارمة، كما هو نظامها الدراسي ونظام أمتحاناتها. وقد تأثر الدكتور سندرسن بنظام الدراسة الطبية في جامعته التي درس فيها وهي جامعة ادنبرة، فأقتبس برنامجها الدراسي المتميز وطبق العديد من تفاصيله على الدراسة الطبية في كلية طب بغداد. ولم يكن قرار تأسيس كلية الطب سهلا بالنسبة للسياسي العراقي وقتذاك، فكلفة المشروع لم تكن قليلة، كما ان المؤهلين للتدريس في مثل هذه الكلية لم يكونوا ضمن المتاح. وتقول وقائع تاريخ الكلية أن الدكتور حنا خياط (والذي أصبح عميدا للكلية الطبية بعد ذلك في عام 1934) قد علم عام 1926 بأن قرارا ملكيا قد اتخذ بتأسيس الكلية فأتصل بالدكتور سندرسن ليبلغه بقرار تعيينه أول عميد لمجلس هذه الكلية الناشئة. وقد أختيرت للكلية قطعة أرض قريبة للمستشفى الملكي في بغداد مما كان تابعا لمديرية الأوقاف العامة، حيث تم التخطيط للبناء والتنفيذ. وفي بداية الأمر أستعملت الكلية الردهتين العاشرة والحادية عشرة من المستشفى الملكي المشار أليه ليكون ذلك المكان المؤقت للكلية، حيث تم قبول ما يقرب من عشرين طالبا فيها حينذاك ليبدأ الدوام الرسمي في كلية طب بغداد في الثاني من شهر تشرين ثاني (نوفمبر) عام 1927. ومما يذكر أن جزءا من البناية الحالية للكلية أنما هو نفسه ما تم أنجازه عام 1930، حيث أكتمل بناء الكلية الطبية بأقسامها وفروعها وقاعات محاضراتها ومختبراتها وغرف أساتذتها ومجلسها.. وقد تم أفتتاح الكلية ببنايتها الجديدة عام 1930 برعاية ملكية من قبل ملك العراق حينها فيصل الأول وبحضور رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون وعدد من وزراء العراق في ذاك الزمن مع المندوب البريطاني الذي وصل بمعية الدكتور سندرسن أول عميد لكلية الطب.

وقد سعت العمادة وقتها لأختيار الهيئة التدريسية في الكلية، فكان ذلك من الأطباء العراقيين أصحاب المهارة والكفاءة في الطب وعلومه، أضافة الى عدد من الأطباء الأساتذة البريطانيين وخاصة من ادنبرة عاصمة أسكتلندا. ومن المعروف أن المسوؤلين في النظام التعليمي الطبي في أسكتلندا أنما كانوا يشجعون على أنشاء الكليات الطبية والمراكز الصحية في دول العالم النامية، فهناك بعض الأمثلة على ذلك مما سمعنا عنه من جهود في هذا المجال في بعض الدول الأفريقية.

وبخصوص الكتب واللوازم الدراسية في كلية طب بغداد فقد تم أستيرادها من الخارج حينها، كما تم وضع أسس القبول وأسس التعليمات الأمتحانية والترقيات العلمية. وقد أعتمد الدكتور سندرسن باشا على نفسه في التدريس أيضا فكان له أن يدرّس مادة علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجي)  لطلاب المرحلة الثانية في الكلية. ولم يقتصر الرجل على تدريس مادة علم وظائف الأعضاء وهي من مواد العلوم الأساسية في التعليم الطبي، ولكنه درّس أيضا الطب الباطني فكان أستاذ طب الباطنية في الكلية ورئيسا للوحدة الباطنية الأولى في المستشفى الملكي وحتى عام 1946 حيث غادر العراق.

لقد خرّجت كلية الطب بجامعة بغداد آلافا من الأطباء العراقيين والعرب والذين سعوا وما زالوا لتقديم الأفضل من خدمات الطب والصحة للمجتمع والأنسانية. كما أن في العراق اليوم العديد من كليات الطب والتي توزعت على محافظات الوطن والتي أقتبست جميعها خير الدروس من مسيرة الكلية الأم، كلية الطب بجامعة بغداد.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم