صحيفة المثقف

جماليات المكان وقبحها.. زفير أم سعير.. البصرة نموذجاً

wadea shamekh3الجمال والقبح مفهومان نسبيان غير مترادفين، ولا مترابطين ولا صنوين كما يتصور البعض، لأن حضور الجمال لا يقتضي وجود القبح كمكمل أو قرين شرطي .

بما أن المفاهيم النسبية تنتجها عقول وبيئات مختلفة فلابد أن يكون لكل مفهوم مرجعياته البيئية فلسفيا وفكريا واجتماعيا وجماليا واقتصاديا أيضا

بهذا لا يمكن تعميم قيمة معيارية على أخرى، وتبقى المفاهيم سابحة في مداراتها .

............

 في محاضراته الممتعة كان استاذنا الدكتور توفيق المراياتي في كلية الادارة والاقتصاد، يقول عن نسبية الجمال بأن المرأة الجميلة قد يراها الرجل بمعايير مختلفة وكأن أحدهم يفضل طول انفها متر واحد ... واخر يفضلها فطساء وجماعة تعبر عن الجمال بالروح واخرى حسيا وكل قوم بما لديهم فرحون

..........

الجمال ليس أسيراً للإنسان، اذ يتجاوز حدوده الى الطبيعة والزمان والمكان، فهناك حقل في جماليات المكان وهي اسقاط نوعي فكري جمالي انساني للموجودات . يقول باشلار “لو طلِب إليَ أن أذكر الفائدة الرئيسية للبيت لقلت إن البيت يحمي أحلام اليقظة والحلم، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء" .

فهل كان المكان فعلا قرينا للاستعاضة عن القبح والجمال في الواقع ؟

...........

- البصرة مدينة لا تخطئها العين في تأريخها وجغرافيتها ووجودها الديمغرافي وعمقها الوحي والفلسفي، ونتاجها الإبداعي، وخليطها المجتمعي المذهل في تنوعه وانفتاحه معا .

 هذه المدينة التي كان من سوء حظها أن تكون ضحية لأزمة الجمال.البصرة كبيت كبير لا يمكن تصور جمالها للذين يعيشون في شقة أو كوخ، ولنطبق هذه الفرضية وفق تصور باشلار أيضا.

...........

 في مقابلة متلفزة شاهدتها عبر اليو تيوب أجريت له" باشلار"، وفيها خلاصة أرائه عن البيت والفلسفة والعاطفة .، لقد اضاف بعداً آخرا لوظيفة العاطفة في الانحياز الى جماليات المكان، بالاضافة الى ثبات التقاليد الهندسية للبيت " المكان " بوصفه حاضنة لتوليد الجمال وفقا لمعايير ترتبط بالمكان ذاته، فوجود القبو في البيت والشمعة هو وجود جمالي حلمي يزيد المكان على توليد طاقة ايجابية للانغماس في المكان .

.......

لو افترضنا البصرة بيتا ألفناه وعرفنا دروبه، فيها من النخيل ما يخضر العالم، ولها من الروح ما ينعش العالم المصاب بتليف الكبد، وفيها من الشعراء والمبدعين ما يكفي قارات العالم فخرا .وفيها من الماء ما يوقف التيمّم ويبطل الصلاة بلا محبة .

المكان يشيخ بالتقادم ليمنحنا هدوء الماضي وحكمته ام يتواقح على ذكرياتنا وصبواتنا ليكون كهفا بلا شمعة ولا نبيذ ؟

......

البصرة بوابة الحداثة ثغر العراق، عندما شاخت الامبراطورية على جسد العراق وتفسخت كجثة، كانت البصرة حاملة لواء وأد الورم العثماني، وتحملت كل آثار الوافدين بروائحهم العطنة وبهاراتهم وسمبوستهم وسمرتهم الطاعنه بالخلاس .

وعندما استفاقت الملكية كرمت البصرة برتبة قديرة وصارت " من اجمل مشاتي العالم "

وتوالت الازمان بقبحها وجمالها على هذه المدينة حتى اصبح التفكير بالمكان مرتبط بقيم جديدة لا علاقة لها بالجمال ولا بالقبح اصلا، شيوع قيم جديدة ابطلت نواميس المكان واشعلت في الحياة مقابر لوأد الاحساس به اصلا، فصار القبح قناعا لمن يريد البقاء على وجه المكان اضطرارا .

..................

يقول صديقي البصري أحمد صحن "

عندما تشيخ الأفكار الكبرى وتموت، ينتج عن ذلك تحولات اجتماعية وسياسية بارزة. بكل أسف شاخت أفكارنا الكبرى، لكنها لم تمت بعد. العراق لم يرَ - إلى الآن - تحولات كبرى تعالج أسسه القيمية البالية، والتي يمهد معالجتها إلى تغيير شامل في نمط الحياة"..

 ويرد باشلار على سؤال حول شيخوخته " حزين جدا ان اكون شيخا "

 زفير حقيقي عندما تكون المدن رئات ملتهبة واكبادا متشمعة، عندها يختلط القبح بالجمال لشيوع ثقافة العين الواحدة

 

وديع شامخ

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم