صحيفة المثقف

رحلة في عينية الشاعر عبد الباقي العمري (2)

جعفر المهاجرلو درسنا وتمعنا في خُلق الإمام علي ع الذي بلغ الآفاق لثبت لدينا بالدلائل التأريخية القاطعة إنه كان مستمدا من خلق رسول الله الذي قال عنه رب السماء والأرض في كتابه العزيز:

(وإنك لعلى خلق عظيم.) 1

تلك المدرسة الأخلاقية النورانية الكبرى التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. والتي لايلقّاها إلا الذين صبروا ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم.

وقولته المشهورة عن الخوارج (إخواننا بغوا علينا) هي إحدى الدلائل الواضحة التي تؤكد على خلقه العالي فقد صبر على أذاهم حين تمردوا عليه بعد معركة صفين، لكنه ظل يعاملهم معاملة إنسانية رغم ركوبهم آفة الجهل، وتعصبهم وحقدهم الشديدعليه، وتكفيرهم له ع، وسعيهم إلى قتله.وكان ع يعلم بذلك لكنه ظل ينصحهم، ويطلب منهم الرجوع عن غيهم .ولم يحم نفسه بالحرس والحمايات كما يفعل حكامنا المعاصرون .لكن حين يئس من هدايتهم إلى طريق الحق والصواب قاتلهم حفاظا على وحدة الأمة الإسلامية. وعندما تصدى له أشقى الأشقياء عبد الرحمن بن ملجم في فجر التاسع عشر من رمضان عام 40 للهجرة وقام بضربته الغادرة بسيفه على هامته الشريفة وهو يؤدي صلاة الفجر في مسجد الكوفة نطق بتلك الجملة الخالدة (فزت ورب الكعبة) ثم قال لولديه الحسن والحسين ع وهو على فراش الموت:

(النفس بالنفس، إن أنا متّ فاقتلوه كما قتلني وإن سلمت رأيت فيه رأيي، وأوصى به بأن يطعم ويسقى ) 2

لأن نظرة لأعدائه نابعة من القرآن الكريم، ونظرة معلمه ومربيه رسول الله ص حين تعرض لشتى صنوف الأذى من الأعداء، وسار على هدي القرآن العظيم في التعامل معهم من خلال الآيتين الكريمتين أولاهما:

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين.) 3

وإن حدث القتل فبالآية الكريمة:

(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) 4

وفتح مكة يوم مشهود في التأريخ إنه يوم الإنتصار العظيم على قوى الكفر والضلال والظلام. فلم تأخذ رسول الله ص نشوة ولم يقدم ص على إيذاء أي من أعدائه الذين تربصوا به ريب المنون.

وعلى هذا النهج الذي رسمه رسول الله ص سار وصيه وحبيبه علي ع من أجل رفع راية الإسلام عالية خفاقة في كل أنحاء الأرض . إسلام المحبة والوئام .. إسلام الرحمة والسلام .. إسلام الفضائل العليا والشمائل النورانية المحمدية العالية.

يستطرد الشاعر عبد الباقي العمري في بلاغته الوصفية المقرونة بالحقائق التأريخية لشخصية الإمام حين فيتطرق إلى عدالته وتفانيه في سبيل الحق والعدل فيقول:

وأنت والحق ياأقضى الأنام به

غدا على الحوض حقا تحشران معا .

إنه يخاطب شخصية الإمام ع في هذا البيت قائلا:

من شدة تمسكك بالحق ياسيدي أصبحت مثلا يحتذى عبر الأجيال لأن شرعتك هي شرعة الله ورسوله الكريم ص وسيحشرك ربك مع هذا الحق المبين يوم القيامة لأنك ميزان الحق، وأقضى أهل الأرض بعد رسول الله ص كما شهدت كل المصادر التاريخية بذلك. ومنها شهادة إبن مسعود:

(أفرض أهل المدينة وأقضاها علي بن أبي طالب) 5

وكان ع يبدأ بنفسه أولا فيقسو عليها ويحاسبها حسابا عسيرا ومنها رفضه العيش في قصر الإمارة الذي كان معدا له بالكوفة حتى يكون قريبا من الفقراء الذين يقيمون في بيوت بسيطة لاتقي من حر أو قر.

ومن كلامه هذا القول الذي انبثق عن أسلوبه في العيش بعد أن ولاه المسلمون خليفة عليهم:

(أأقنع نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟) ويقصد بذلك فقراء أمته. 6

فهل يتعظ من يدعي في هذا الزمن بإنه من الموالين لعلي بن أبي طالب ع ويتعدى على حقوق المسلمين، ويأكل أموالهم بالباطل بشتى الطرق اللاأخلاقية ثم يقوم بزيارة قبر الإمام ع ويطلب شفاعته؟ ألا تبا لهذا النفاق، ولهذه الإزدواجية البغيضة التي يسلكها بعض من يدعي إن الإمام علي ع هو مثله الأعلى بعد رسول الله. !

ويستمر الشاعر الألمعي عبد الباقي العمري في قصيدته ليوغل في فضائل ومناقب الإمام بلغة شعرية متألقة،وانسيابية باهرة وبلاغة محكمة يؤطرها صدق المشاعر والتي تأخذ بالألباب وتبهر النفوس وتعطر الأنفاس وتنور القلوب بفيوضات جليلة عابقة، وهي لاتختلف في قوتها وسبكها وسموها ودلالاتها الإنسانية والجمالية والبلاغية عن قصيدة الجواهري الكبير حين خاطب فلذة كبده الإمام الحسين ع في قصيدة(آمنت بالحسين ) التي يقول في مطلعها :

فداء لمثواك من مضجع

تنور بالأبلج الأروعِ

بأعبق من نفحات الجنان

روحا ومن مسكها أضوعِ

ولا غرابة أن يرتقي شاعران كبيران بلغتيهما الشعرية العالية في مدح أمير المؤمنين ووصي رسول العالمين ص شهيد الإسلام علي بن أبي طالب ع وإبنه الحسين شهيد الطف وسيد شهداء شباب أهل الجنة ع فكلاهما من شجرة واحدة هي شجرة النسب المحمدي الوارفة الظلال إلى يوم القيامة.

ويتطرق الشاعر عبد الباقي العمري في أبيات القصيدة الأخرى إلى صفات إنسانية جليلة تميزت بها شخصية الإمام علي بن أبي طالب ع. وهي إنه أول من صلى مع النبي ص ويتطرق إلى حادثة الكساء الذي درع به رسول الله ص علي وفاطمة والحسن والحسين ع. وإلى يوم المؤاخاة الذي قال فيه النبي ص لعلي ع:

(أنت أخي في الدنيا والآخرة) 7

ويتطرق كذلك إلى مبيته ع في فراش الرسول ص يوم كانت شوكة قريش قوية في رجالها وأموالها فجسد ع الفداء بأروع صوره. ويتطرق الشاعر كذلك إلى خطبه في نهج البلاغة الذي احتوى تلك المعاني الدرية من خطاباته وحكمه ع. ثم يعرج على معركة صفين التي ظهر فيها خبث أعدائه ومكرهم وسموه وإنسانيته في أصعب الظروف وهي ظروف الحرب مع غادرين ناكثين للعهود. ولا ينسى الشاعر كيف طلب رسول الله ص أن يضع الإمام ع قدمه على كتفه الطاهر بعد فتح مكة ليحطم الأصنام التي عبدت من دون الله لقرون طويلة وبتلك العملية الشجاعة التي أوكلها رسول الله ص لصفيه ووليه علي بن أبي طالب ع بزغ فجر الإسلام كلسان الصبح إلى أن يقول :

وجوهر المدح في علياك رونقه

بلبة الدهر في لألائه نصعا.

و(اللبه ) بفتح اللام وتشديد الباء المنحر وموضع القلادة . فهو يقول إن مدحك ياأمير المؤمنين كأنه قلادة من الدر النضيد على منحر الدهر وهي بلاغة رائعة تميزت بها قصيدة الشاعر العمري في حق علم الإسلام الخفاق علي بن أبي طالب ع.

لقد جسد الشاعر عبد الباقي العمري ماتجلى في شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع من كمال إنساني رائع، وفضائل تهز وجدان كل نفس إنسانية تواقة إلى الحق، فانثالت لآلئ قصيدته لترسخ هذه المعاني الرائعة .ويخاطب الشاعر عقل كل مسلم باحث عن الحق والحقيقة ليقول له:

(فهل عرفت عقلا كهذا العقل، وعلما كهذا العلم،ومثلا عليا كهذه المثل،وبلاغة كهذه البلاغة، وشجاعة كهذه الشجاعة التي تحتوي من المروءة، والرجولة الحقة بما لايعرف حدودا حتى يبهرك كما يبهرك ذلك القدر من المزايا الإنسانية التي تلتقي تجمعت في نفس رجل واحد ؟ إنه ذلك المفكر والإداري،والحاكم القائد المدافع عن حمى الإسلام، والحامي لحقوق الفقراء التي صادرها دعاة الباطل من حكام المطامع والأهواء الذين جمعوا رعاعهم وأوغادهم بما أغدقوا عليهم من السحت الحرام ليكونوا منهم جيوشا تأتمر بأوامرهم لكي تحد من إنطلاقته الإنسانية المتوهجة. وقد توهموا إن مؤامراتهم وأحابيلهم وغاياتهم الدنيئة ستطمس شعلة الحق لتستمر سلطتهم الغاشمة لهم ولأولادهم وأحفادهم إلى أبد الآبدين. لكن رغم كل هذا فقد ظل صاحب الحق الأبلج يتألق كلما اشتدت عليه المحن، وتكالب عليه المتآمرون الأراذل الذين لاأشبع الله لهم بطنا. وظل جبل الحق طودا أشما عابقا بمثله العليا ينير الطريق للأجيال بنهجه الذي رسمه له رسول الإنسانية الأعظم محمد ص، فيدخل في قلبك وروحك أيها الباحث عن الحق ليهز فيك مشاعر الإنسان الذي له عواطف وأفكار،وتتألق هذه النجوى الرائعة بما فيها من حرارة العاطفة الكريمة حين يقول ع :

(فقد الأحبة غربة ) (ولا تشمت بالمصائب) و(ليكن دنوك من الناس لينا ورحمة ) و(اعف عمن ظلمك، وصل من حرمك، وصل من قطعك،ولا تبغض من أبغضك) 8

وهو القائل ع :

(الحكمة حياة للقلب الميت، وبصر للعين ألعمياء وسمع للأذن الصماء، وري للظمآن، وفيها الغنى كله والسلامة.) 9

فما أروع ثريا الحق بصفائها وما أخس أراذل الباطل الذين يتباهون بكثرة أتباعهم في كل زمان ومكان وهم بلا شك سيتحولون يوما ما إلى كومة قش تذروها الرياح أمام بهاء الحق وصفائه الخالد. أما الإمام علي بن أبي طالب ع سيظل علما لكل الباحثين عن قيم الفضيلة والكرامة والإباء . ورحم الله الشاعر المسيحي بولص سلامه الذي قال:

يا إله الأكوان أشفق عليا

لا تمتني غب العذاب شقيا

أنت ألهمتني مديح علي

فهمى غيدق البيان عليا

وتخيرت للأمير وأهل

البيت قلبا آثرته عيسويا

هكذا كان صهر أحمد يضفي

نبله ملء سرحة الدهر فيا

هو فخر التاريخ لا فخر شعب

يدعيه ويصطفيه وليا

لا تقل شيعة هواة علي

إن في كل منصف شيعيا

يا علي العصور هذا بياني

صغت فيه وحي الإمام جليا

أنت سلسلت من جمانك

للفصحى ونسقت ثوبها السحريا

يا أمير البيان هذا وفائي

أحمد الله أن خلقت وفيا

جلجل الحق في المسيحي حتى

عد من فرط حبه علويا

فإذا لم يكن علي نبيا

فلقد كان خلقه نبويا

سفر خير الأنام من بعد طه

ما رأى الكون مثله آدميا

يا سماء اشهدي ويا أرض قري

واخشعي إنني ذكرت عليا. 10

ولابد أن الشاعر عبد الباقي العمري قد قرأ حياة الإمام بإمعان لمرات ومرات وما عاناه من المنافقين وأئمة الكفر في زمن حبيبه ومعلمه الرسول الكريم محمد ص بعيدا عن التعصب الأعمى والجهل المقيت الذي ازداد في هذا الزمن وانتشرت شراره في كل ديار المسلمين.

 

جعفر المهاجر

.................

المصادر:

1- سورة القلم – الآية 4.

2- كتاب الإرشاد للشيخ المفيدج1 ص22.

3- سورة الأعراف – الآية 199.

4- سورة المائدة – الآية 45.

5- من تأريخ مدينة دمشق لإبن عساكر عن إبن مسعود ج3 ص35 رقم 1065 .

6- نهج البلاغة- صبحي الصالح : ج4 ص323 .

7- المستدرك ج3 ص.14 وتأريخ الخلفاء للسيوطي ص170

8- نهج البلاغة –الخطبة 193.

9- نهج البلاغة- صبحي الصالح ص 236.

10- من ديوان ملحمة الغدير للشاعر بولص سلامه.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم