صحيفة المثقف

سفينة القصة العلمية ومرفأ الإنسانية

خالد جودة احمدأرقي نصوص أدب الخيال العلمي تلك المفعمة بالإنسانية الأثيرة، في عوالم جهمة شرسة نحياها بالمستقبل القريب، ومن أسرار جودة القصص العلمية وقصص الخيال العلمي في تأويلي إنتمائها لهذا الأدب الإنساني، إضافة إلي شدة الحاجة إليه في مستقبل يحيل الإنسان إلي نفاية مستهلكة، فتأتي اللمحات الإنسانية عبر تلك الصلة التي تربط شخصيات في القصص العلمي بآلات أو مركبات أو كائنات غير بشرية، بما يحقق أنسنة الأشياء والتعاطف الكريم، والجميع يحب قصة حنين الجذع للرسول الأكرم صلي الله عليه وسلم، فللأشياء روح تتفاعل بها مع الكون وتدور في رحابه بانسجام، ولكن المستقبل بسخائه التقني ينظر للإنسانية من وجهة نظر مادية، ونقدم نموذجًا للتعاطي الإنساني بقصة الخيال العلمي معنونة (السفينة المهجورة) للكاتب (مهند النابلسي):

(بعد أن خدمت السفينة الفضائية لسنوات طوال وخاضت تجارب رائدة واجتازت مخاطر جسيمة، قام مركز المراقبة الأرضي بإبلاغ رائد الفضاء الأخير على المركبة الكولونيل سعيد بأنه سيتم التخلي عن المركبة بعد أن استنفذت مهامها وقام قائدها بإجراء آخر تجربة فضائية. ثم طلب منه أن يحاول النزول بها بسلام على الأرض وأن لا يتركها تصطدم تائهة بعمران أرضي وتتسبب في دمار كبير بعد أن تتحطم بدل أن تدخل متحف الفضاء الكوني كأول مركبة فضائية قضت عقدين من الزمان وهي تعمل كمحطة للتجارب الفضائية الرائدة. انزعج الكولونيل سعيد كثيراً وكأنه مقبل على فقدان كائن عزير، وقد أُبلغ أن هذه هي مهمته الأخيرة التي سيتقاعد بعدها، والتي ستتوج بطولاته الفضائية وتمنحه فرصة الحصول على ميدالية البطولة الفضائية التي تمنح للرواد المميزين.. "وفي أسوأ الظروف سأقوم بتوجيهها نحو أرض قاحلة.. صحراء ربما. ثم أقوم بالقفز منها بسلام.." حادث نفسه. وأكثر ما أزعجه حصوله في الشهر الأخير على معلومات هامة جداً، وانقطاع اتصاله مع المحطة الأرضية بواسطة "انترنت الفضاء": فالنجم الذي عاد للتوازن كالبركان والذي تم رصده لأول مرة منذ مئة وخمسين عاماً، عاد للمعان مجدداً وكأنه يتوهج مبشراً بألعاب فضائية نارية مثيرة. ورصد منظاره الفضائي سحابة فضائية من الغاز والغبار تدور كالدوامة ملتفة حول كتلة صغيرة، وهي تنبئ بأنها ستبرد وتتكثف لتتحول يوماً ما إلى كوكب جديد. وفي مختبره الفضائي لاحظ نمو سريع لبكتيريا غريبة في التربة "المريخية" التي أحضرها أحد الرواد من كوكب المريخ، مما يعزز الاعتقاد بوجود نوع من الحياة على الكوكب الآخر. وتنهد بحسرة وهو يفكر أن معلومات كهذه لن تصل ربما للأرض، ومنها ما توصل إليه مؤخراً بواسطة تقنية جديدة مستحدثة تعتمد على "القانون الذهبي" والتي يمكن بواسطتها قياس المسافات الكونية بدقة كبيرة، مما قد يحدث انقلاب معرفي في مفهومنا التقليدي حول العمر المفترض للكون ودرجة تجدده. لقد قرر أخيراً أن يهبط من المركبة قبل اصطدامها المريع بالأرض وتخلى عن يأسه ورغبته الخفية بالانتحار، فقد كان يشعر أن مصيره مرتبط بمصير مركبته المنبوذة!. وبذل محاولة يائسة لتسجيل المعلومات القيمة على قرص مدمج بعد أن فشل سابقاً لمرات عدة، واستعان بقوة التركيز النفسي حيث قام بالإيحاء مغمضاً عينيه، وتمتم بعبارات هامة: "هيا.. يا رب.. ساعدني.. يجب أن أنجح في تسجيل هذه المعلومات.. هيا.. سجلي.. سجلي.. هيا"، ولم يصدق نفسه عندما رأى لمعان زر التسجيل يعمل مجدداً بعد أن يأس من إصلاحه.. وعاد لتفاؤله وثقته بنفسه وإيمانه.. وشعر أن الله معه في مهمته الكونية.

أخيراً سالت من عينيه دمعتان حارتان قبل أن يكبس على زر الهبوط وينطلق مقذوفاً من مركبته.. ونظر بحسرة ومرارة وهو يبتعد عن مركبته العتيقة التي خدمت العلم الفضائي لسنوات طوال، وبدا وكأنه يترحم عليها! ولكنه عاد لتفاؤله عندما تذكر أنه يملك في جيب بزته الفضائية قرصاً مدمجاً يحتوي على معلومات قيمة جداً، فالحياة يجب أن تستمر!.. وأشرقت فكرة منيرة في تلافيف دماغه وجاءت نفسه قائلاً: "لن أتقاعد.. سأعود للعمل مجدداً. سأقوم بإلقاء المحاضرات حول تجاربي الفضائية")

والقصة ذات إيقاع سريع حافلة بعدد من المنجزات العلمية والفضائية: (متحف الفضاء الكوني / ميدالية البطولة الفضائية لرواد الفضاء المحالين للتقاعد / الإنترنت الفضائي / القانون الذهبي: تقنية جديدة مستحدثة لقياس المسافات الكونية بدقة)، ومن أفكار علمية حول الفضاء: (نجد يعاود اللمعان وسحابة غاز وغبار حول كتلة صغيرة ستبرد لتتحول لكوكب جديد / نمو سريع لبكتيريا مريخية غريبة ووجود حياة علي كواكب أخرى / مراجعة وإعادة فحص معلومات حول العمر المفترض للكون ودرجة تجدده)، وهذه الكثافة تم سردها في تقطير قصصي، وإذا كان الناقد د. عبد المنعم تليمة يري أن أكثر القصص القصيرة رداءة التي هي عبارة عن رواية ملخصة، وبغض النظر عن رؤية نقدية أخرى تري أن بعض القصص القصيرة قد يكون لها قوة رواية كاملة لتكثيف الرؤية إضافة للتكثيف التقني واللغوي، أرى أن قصة الخيال العلمي يمكن أن تكون أكثر طولًا –وواقعيًا قام عدد من كتاب قصص قصيرة علمية بتحويلها إلي روايات- بسبب رحابة العنصر الخيالي العلمي وجدته وكثافة مكوناته، وغرابته علي القارئ، فتكون القصة القصيرة حينها بذور للأفكار يمكن البناء عليها دراميًا. والحبكة في القصة جاءت عبر وحدة نفسية، يقول النقد الأدبي: (الحبكة ليست سلسلة متتابعة لأحداث مادية ملموسة بل هناك دلالات روحية ونفسية وفكرية ملتحمة كامنة وراء هذه الأحداث)، وهنا اتحاد نفسي لاتحاد المصير بين الإنسان (رائد الفضاء المحال للتقاعد)، ومركبته الفضائية المهملة، رغم قدرة الاثنان علي العطاء، بما حقق المنطق الخاص بالقصة أو ولوج القصة منطقة المفارقة الدرامية، حيث يسمح تسلسل الحدث إلي تبديل المصير، وهنا جاء التبديل إلي حسن عبر قيمة التوريث العلمي، ومادته العلمية المخزونة المهمة. وبالقصة إدانة لتقصير شكل مفصل المفارقة، هذا التقصير المتصل بانقطاع إنترنت الفضاء، وتعثر التسجيل، بمعني الانقطاع الذي يشير للعزلة وما تنتجه من اغتراب وآلام تجتاح بطل القصة.

بالقصة التعاطف الإنساني مع المركبة الفضائية، حيث هي منبوذة ومهملة ويتم تبشيرها بالتحطيم والمصير المظلم، فحق معها التعاطف كمعادل موضوعي للإنسانية المقولبة (حيث مصادرة القدرة علي الحياة بالتقاعد)، لذا أتت اللمحة المكملة والموفقة بالحفاظ علي الذاكرة (السي دي الثري بمعلوماته القيمة) والتوريث من خلال بهجة شخصية الحدث بسيناريو مستقبلي عزم عليه، بحكي تجاربة لإنقاذ الروح الإنسانية في عصر العلم الجهم، وبين القوسين (أنسنة المركبة وقيمة التوريث)، تأتي لمحة إيمانية بقوة التركيز النفسي والدعاء، ليقول لنا إجمالًا انتبهوا أيها السادة واعملوا علي تثمير سحر الروح ترياق عصر العلم القادم.

 

خالد جودة أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم